رجالات من صفد كرّمهم أمراء العرب

صفد، 1940 | مدوّنة فلسطين.

 

وُلِدَ محمّد جمال توفيق عزيز في مدينة صفد الجليليّة[1]، وفي عام 1918، تزامنًا مع دخول الاستعمار البريطانيّ إلى فلسطين، غادر مدينته في اتّجاه الأردنّ سعيًا إلى الرزق. عَمِلَ في سلك الشرطة الأردنيّة، وبعد فترة قصيرة عُيِّن مفوّض شرطة في الأردنّ[2]. في منتصف العشرينات من القرن الماضي، بعد سنوات قليلة من إقامة عزيز في الأردنّ، تزوّج السيّدة سعاد الدامرجي وسكنا معًا في مدينة إربد.

يعود أصل سعاد إلى مدينة إزمير في تركيّا، وكانت نزحت وشقيقها صبري من تركيّا إلى الأردنّ بسبب الحرب العالميّة الأولى (1914-1918). كانا، سعاد وصبري، الناجيان الوحيدان من العائلة في الحرب، في ما قُتِلَتْ بقيّة العائلة. أنجب محمّد جمال وسعاد: إسعاف في إربد (1929-2014)، وتوفيق في السلط (1932-2020)، وإنعام في مأدبا (1933-2023). وميسّر في السلط (1936-2023). وقد وُلِد الأبناء والبنات في مدن مختلفة بالأردنّ بسبب تنقّل عمل والدهم في الشرطة. أمّا الابن الصغير نجيب عزيز فوُلِد في مدينة صفد (1939)، ويعيش اليوم في بيروت.  

 

محمّد جمال عزيز مع ابنيه، على اليمين توفيق، بحضنه إنعام، ويساره إسعاف، في منتصف الثلاثينات. المصدر: ألبوم الحفيد نزار زهرة.

 

 أدّى محمّد جمال عمله في سلك الشرطة الأردنيّة بكلّ إخلاص، ويُرْوى أنّ الفترة الّتي عَمِلَ فيها في مدينة السلط اختفت اللصوص منها؛ إذ لم يجرؤوا على السرقة بوجوده، كان صارمًا وقاسيًا يهابه الناس. يُذْكَر أيضًا أنّ الناس كانوا ينامون وبيوتهم مفتوحة لشعورهم بالأمن والأمان في فترة عمله[3].

 

تكريم محمّد جمال توفيق عزيز

عندما أنهى محمّد جمال عزيز عمله في الأردنّ، في عام 1937، وقبل عودته إلى فلسطين، منحه الأمير عبدالله الأوّل[4] وسام الشجاعة والشرف تقديرًا لجدارته وتفانيه وإخلاصه في العمل، وقد أُقيم الحفل في المدرّج الرومانيّ في عمّان.

 بعد الحفل، عاد محمّد جمال إلى بيته ومعه هدايا لزوجته سعاد (زوج مباريم)، ولوالدته شريفة قطعة قماش. يقول حفيده نزار: "... حلوان الوسام، ويوجد صورة توثيقيّة لهذا الحدث، كانت معلّقة في صدر بيتنا في عكّا"[5]، ما يدلّ على القيمة المعنويّة لرمزيّة الصورة؛ إذ منحت العائلة شعورًا بالفخر والاعتزاز.

 

الأمير عبدالله الأوّل يمنح محمّد جمال عزيز وسام الشرف في عام 1937. المصدر: ألبوم الحفيد نزار زهرة.

 

عاد محمّد جمال إلى فلسطين في عام 1937، بعد أن غادرها تسعة عشر عامًا. عاد إلى مدينة حيفا، ومكث فيها شهورًا عدّة قبل انتقاله واستقراره مع عائلته في مدينة صفد. يعود السبب إلى أنّ زوج أخته عفاف، أبو العبد المُغْرَبي، كان يسكن في حيفا، وقد عرض عليه أن يدير أعماله لفترة. كان أبو العبد تاجرًا ماهرًا يستورد اللحوم من تركيّا. عَمِلَ جمال شهورًا، وتفرّغ بعدها مستغلًّا تقاعده للاهتمام  برعاية أبنائه والعائلة. كان محمّد جمال إنسانًا مثقّفًا يتقن اللغة العربيّة، ومن هواة قراءة الشعر وحفظه. وكان معتادًا على تحفيظ نجله الصغير نجيب الشعر، فتمكّن الصغير من 220 بيتًا من الشعر في سنّ الرابعة. وكان أيضًا متأثّرًا بالشاعر حافظ إبراهيم، شاعر الشعراء والفقراء، واهتمّ أيضًا بتوجيه ابنته إسعاف إلى كتابة الإنشاء العربيّ[6].

بعد هجوم العصابات الصهيونيّة على صفد في عام 1948، هُجِّر أهالي صفد، من ضمنهم عائلة محمّد جمال. وكانت وجهة العائلة إلى سوريا، حيث استقرّت في مدينة دمشق. أمّا الابنة إسعاف فيبدو أنّها ’ورثت‘ من جدّتها سعاد مأساة الحروبات؛ إذ تكرّر ذات المشهد مع الحفيدة إسعاف، إذ أنّ جميع أفراد أسرتها هُجِّروا نتيجة الحرب، وهي الوحيدة الّتي بقيت في فلسطين، لكونها متزوّجة تسكن في حيفا.

 يفرض الاستعمار الفراق الصعب على الناس قسرًا، إذ توفّي والد إسعاف ولم تره، ولم ترَ أحدًا من عائلتها عشرات السنوات. عامان بعد النكبة، وصلت رسالة إلى عنوان أهل زوجها أحمد شؤون زكريّا زهرة، الّذين سكنوا عكّا بعد النكبة[7]. أرسلها شقيقها توفيق بواسطة «جمعيّة الهلال الأحمر السوريّ» بتاريخ 6 كانون الثاني (يناير) 1950، يقول فيها: "جميع العائلة بخير، وموجودون في درعا، لا أزال موظّفًا في المعارف، طمنونا عنكم، وخبرونا عن صحّة إسعاف والأولاد. تحيّاتنا لوالدكم ووالدتكم وإخوانكم، بلّغوا إسعاف أن تجيب على الرسالة بخطها".

 

رسالة توفيق عزيز إلى شقيقته إسعاف في عام 1950 | أرشيف نزار زهرة.   

 

ردّت إسعاف على رسالة شقيقها في تاريخ 25 آذار (مارس) 1950، كتبت فيها: "أخي العزيز، الجميع بطرفنا بخير. أسأله تعالى أن يجمع شملنا بكم. إنّني قلقة جدًّا على صحّة والدي ووالدتي، أرجوك، يا أخي، أن يكون الجواب بخطّ والدي، ويضع نجيب اسمه على الرسالة، مها ونزير يقولان: يا ماما، متى سنذهب إلى عند ستّي أمّ توفيق، وعند خالي نجيب. سأضمّ رسالتي بقولي: أشكو إعادة غيابي، وأودّ أن لو أنّ المسبّب في البعاد بعيد، أشكو بعادك، يا أخي، وأودّ لو أنّ المسبّب في البعاد بعيد، وأبيت أحسد مَنْ ينادي: يا أبي، يا ليتني في ذا أنا المصون".

 

رسالة إسعاف إلى توفيق، أرسلتها في عام 1950، وقرأها لأوّل مرّه في عام 2014 | أرشيف نزار زهرة.

 

بعد ثلاثين عامًا، التقت إسعاف لأوّل مرّة والدتها منذ النكبة والتهجير، وكان ذلك في عام 1978. خلال زيارتها السعوديّة لتأدية مناسك الحجّ، زارت والدتها في بيت شقيقتها إنعام المتزوّجة الّتي تعيش مع عائلتها في مدينة جدّة السعوديّة، وفي بداية التسعينات، توفّيت الجدّة سعاد في سلطنة عُمان.

هذه إحدى أوجه مأساة الاستعمار؛ قطع أوصال الناس بوطنهم، وتشتيت الأهالي عن أبنائهم. توفّيت إسعاف في عام 2014، ولم تعرف أنّ أخاها توفيقًا لم تصله الرسالة الّتي أرسلتها إليه في عام 1950؛ إذ قرأها لأوّل مرّة بعد أربعة وستّين عامًا، في تمّوز (يوليو) عام 2014، بعد وفاتها بشهور قليلة، وذلك عندما زاره نجلها نزار زهرة، برفقة زوجته غادة، في بيته في عمّان، حيث كان يقضي الصيف في عمّان هاربًا من حرارة صيف عُمان الشديد.  

 

المعلّم توفيق

وُلِد توفيق محمّد جمال عزيز في مدينة السلط في الأردنّ، في عام 1932، وعاش هناك حتّى عام 1937، قاضيًا أوّل ستّ سنوات من عمره فيها بسبب عمل والده المذكور آنفًا. بعد ذلك، عاد مع أهله إلى صفد، وفي صفد عاش 11 عامًا. يسرد نزار: "كان خالي توفيق وقت حرب عام 1948 يعمل امتحانات التوجيهيّ، فكان يسافر تحت القصف مع زملائه من صفد إلى عكّا للامتحان، كانوا يسافرون في سيّارة كشف (تندر)، ويضعون أكياسًا من الرمل لحمايتهم من القصف"[8].

أنهى توفيق دراسته الثانويّة في فلسطين، وحصل على شهادة ’الماتريكوليشن‘. كان توفيق شابًّا مجتهدًا، ويحبّ العلم، ومجاهدًا من أجله. في عام 1948، هُجِّر مع أهله من فلسطين إلى سوريا. بما أنّه أنهى الصفّ التوجيهيّ بنجاح، ولكونه كان محبًّا للعلم، عَمِلَ في مجال التدريس في مدينة درعا في سوريا، ثمّ انتقل للعمل في التدريس من خلال مكتب «الأونروا»[9]. في عام 1956، نُقِل إلى سلطنة عُمان، وأقام فيها. بدأ يدرّس في «المدرسة السعيديّة» في مسقط. هناك تزوّج من هيفاء الباتع الّتي تعود أصولها إلى مدينة يافا. ثمّ ترفّع من معلّم إلى مساعد مدير المدرسة، ثمّ مدير للمدرسة، ثمّ مشرف تعليميّ لمنطقة العاصمة، وعَمِلَ رئيسًا لـ «قسم الإحصاء التربويّ» في «وزارة التربية والتعليم»، ثمّ مدير التنسيق والمتابعة في مكتب معالي الوزير. كانت لتوفيق مكانة رفيعة في عُمان، وكان من أبرز المساهمين في النهضة التعليميّة.  في عام 1971، منحه السلطان قابوس بن سعيد الجنسيّة العُمانيّة. 

 

من اليمين ميسّر إسعاف وإنعام وقوفًا، من اليمين توفيق عزيز ونزار زهرة، التُقِطت الصورة في عمّان في عام 1997، المصدر: ألبوم نزار زهرة.

 

النشيد الوطنيّ العُمانيّ 

في عام 1869، عند افتتاح قناة السويس، أُقيم حفل كبير في هذه المناسبة، ووُجِّهت دعوة إلى الملوك والرؤساء في العالم، ومنهم السلطان العُمانيّ. كان متّبعًا عزف سلام تحيّةً لكلّ قائد في الحفل. حينذاك لم يكن ثمّة نشيد لعُمان، فكلّفوا موسيقيّ أوروبّيّ أن يكتب السلام الوطنيّ للبلاد، فكتب الكلام موسيقيًّا فقط دون كلمات.

في عام 1971، كلّف رئيس الديوان السلطانيّ العُمانيّ المربّي توفيق عزيز؛ تقديم مقترح نشيد وطنيّ لسلطنة عُمان. كتب توفيق كلمات النشيد وركّبها على الموسيقى الّتي حصل عليها للسلام الوطنيّ العُمانيّ الّتي ألّف موسيقاها الموسيقار العالميّ تشايكوفسكي. لاحقًا، قُدِّمَ المقترح إلى الديوان السلطانيّ، وأعجبهم ووافقوا على النشيد، وأُرْسِل إلى قابوس، واعتُمِد في عُمان[10]. وفي عام 2020، توفّي توفيق عزيز.

من الجميل أن تجلسي في بيت في شارع الكرمة في مدينة حيفا، ويروي عليك الحفيد قصّة عائلته، وقصّة خاله توفيق، مستعينًا بأحاديث والدته عن ذلك الماضي، ودفتر مذكّراتها. الخال توفيق لم يجلس يومًا في بيت ابن شقيقته نزار. التهجير القسريّ عن الأوطان صعب جدًّا. ولو أنّ نزارًا لم يروِ قصّة خاله توفيق، وسُجِّلت هنا، لبقيت غير معروفة لنا.

 


إحالات

[1] وُلِد أواخر القرن التاسع عشر.

[2] عبارة عن رتبة عسكريّة عالية.

[3] مذكّرات إسعاف محمّد جمال عزيز، محفوظة لدى نجلها نزار زهرة في حيفا.

[4] بن الحسين بن علي الهاشميّ (1882-1951). مؤسّس المملكة الأردنيّة الهاشميّة، وأوّل ملوكها، ولاحقًا أصبح أميرًا على  إمارة شرق الأردنّ.

[5] نزار أحمد شؤون زكريّا زهرة، مواليد مدينة عكّا في عام 1950، متزوّج من السيّدة غادة صفدي زهرة، ويعيشان في مدينة حيفا. منذ عام 1977 إلى يومنا، نزار رجل أعمال، ويدير شركات في مجال علم السيّارات. مقابلة شخصيّة 22 شباط (فبراير) 2023، حيفا.

[6] مذكّرات إسعاف محمّد جمال عزيز. 

[7] انظر/ ي: روضة غنايم، "زكريّا حسين زهرة، سائق قطار خطّ حيفا-درعا"، مجلّة فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، 18 كانون الثاني (يناير) 2023. 

[8] مقابلة شخصيّة: نزار زهرة.

[9] هو مكتب وكالة الأمم المتّحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين في مجال التدريس.

[10] في ذكرى يوم المعلّم العربيّ توفيق عزيز يستحضر الماضي الجميل، حاوره رئيس التحرير، المجتمع والقانون، عدد 8، 2018. 

 


 

روضة غنايم

 

 

 

باحثة في التاريخ الاجتماعيّ وكاتبة مقالات، من سكّان مدينة حيفا. صدر لها كتاب «حيفا في الذاكرة الشفويّة، أحياء وبيوت وناس»، عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات» في عام 2022.