لماذا لا تعترف الأكاديميّة الإسرائيليّة بعلم النفس التحرّريّ؟

المفكّر البرازيليّ باولو فريري (1921 - 1997).

 

يواجه طلّاب فلسطينيّي الأراضي المحتلّة عام 1948 في الجامعات الفلسطينيّة، العديد من المشاكل والعراقيل المتعلّقة بالاعتراف بشهاداتهم ومصادقتها في «وزارة الصحّة» أو «وزارة التربية والتعليم الإسرائيليّة»، ما يعيق من قدرتهم على مزاولة ما درسوه في أراضي 48، خاصّة الّذين التحقوا بتخصّصات اجتماعيّة وإنسانيّة، مثل علم النفس وعلم الاجتماع.

أثناء دراستي في ماجستير «علم النفس المجتمعيّ» في «جامعة بير زيت»، اضطررنا نحن الطلّاب من أراضي 48، المُجَنَّسين إسرائيليًّا، ومن القدس، إلى أن نأخذ مساقات إضافيّة؛ لأنّ «وزارة التربية والتعليم الإسرائيليّة» لم تعترف ببعض المساقات الموجودة في الخطّة الدراسيّة؛ بحجّة أنّ هذه المساقات لا يمكن إدراجها تحت المعارف الّتي تحاكي مجال علم النفس، ومن بينها مثلًا، «المجتمع الفلسطينيّ: الثقافة والصحّة النفسيّة»، الّذي يتناول موضوع الصحّة النفسيّة ضمن السياق الثقافيّ والمجتمعيّ والتاريخيّ للشعب الفلسطينيّ، ويشجّع على الاستعادة الذاتيّة وتعزيز الهويّة؛ لتحقيق التحرّر النفسيّ والثقافيّ من آثار الاستعمار، وذلك من خلال إعادة اكتشاف الهويّة الأصليّة، وتعزيز القوّة النفسيّة.

 

خصوصيّة علم النفس التحرّريّ

تناولت المقالات والقراءات في مساق «المجتمع الفلسطينيّ: الثقافة والصحّة النفسيّة»، التحوّلات الّتي حصلت في التاريخ الفلسطينيّ، وفي نظمه الاجتماعيّة، ملقية الضوء على طبيعة العلاقات والطبقات في المجتمع الفلسطينيّ، مثل قراءة «بعد النكبة: تجربة من المنفى في إنكلترا»، الّذي يتناول مذكّرات الكاتبة غادة الكرمي بعد النكبة، وانتقالها إلى بريطانيا، الّتي ساعدتنا على أن نفهم تأثير الحركة الصهيونيّة في مسار حياة الفلسطينيّ المنتكَب بطريقة سرديّة. إضافة إلى مقالة «البنية الاجتماعيّة للانتفاضة الفلسطينيّة»، الّتي من خلالها استطعنا أن نفهم بشكل معمَّق طبيعة البنية الاجتماعيّة الفلسطينيّة، في فترة الانتفاضة الأولى [المعروفة أيضًا بانتفاضة الحجارة]، الّتي كانت متماسكة ومتلاحمة إلى درجة الاحتذاء بها؛ إذ يبيّن المقال أنّ فلسطين كانت في أشدّ فتراتها ازدهارًا، وكان فيها نهضة أيديولوجيّة وفعليّة، كان للجميع - دون استثناء - دور في خلقها؛ فقد شارك فيها العمّال والطلّاب والنساء، وحتّى البرجوازيّات الصغيرة كان لها دور تصعيديّ في حينه.

لأنّ الانتفاضة الأولى من الأحداث الفارقة في تاريخنا الفلسطينيّ؛ فإنّ فهمها يسهّل عمليّة  فهم ذواتنا فلسطينيّين داخل هذا السياق...

ولأنّ الانتفاضة الأولى من الأحداث الفارقة في تاريخنا الفلسطينيّ؛ فإنّ فهمها يسهّل عمليّة  فهم ذواتنا فلسطينيّين داخل هذا السياق، وفهم مقوّمات الشخصيّة والتركيبة السيكولوجيّة للفلسطينيّين، وبالتالي صياغة صحّتهم النفسيّة وتـأطيرها من منظور تاريخيّ ومحلّيّ. كما ساهم هذا المساق في رؤيتنا للمستعمِر، ورؤيته لنا ولأرض فلسطين، ففي مقال «Palestine: its Resources and Suitability for Colonization»، الّذي يقرأ استعمار فلسطين في سياق أهدافه الإستراتيجيّة، وأنّ مكانها الجغرافيّ هو الّذي قاد المستعمرين إلى استعمارها، وليس العقائد الدينيّة كما يروّج البعض، ولا مواردها أو مناخها؛ الأمر الّذي يبيّن لنا أنّ المستعمِر لا تربطه بفلسطين أيّ أبعاد وجدانيّة؛ فهو ينظر إليها على أنّها ’شيء‘ يُتَعاطى معه من منظور براغماتيّ محض.

يعبّر ما سبق عن تخصّص «علم النفس المجتمعيّ التحرّريّ»، الّذي ينظر إلى الاستعمار باعتباره ظاهرة اجتماعيّة نفسيّة تؤثّر كثيرًا في البنية النفسيّة والثقافيّة للأفراد والشعوب؛ إذ يشير إلى كيفيّة تأثير الاستعمار في الهويّة والصورة الذاتيّة للشعوب والأفراد؛ إذ إنّ الأوّل يمكن أن يكون عاملًا من عوامل تشويه الهويّة الثقافيّة والتاريخيّة للشعوب، الّذي يؤدّي إلى الشعور بالقهر وفقدان الهويّة الأصليّة؛ ولهذا استند برنامج «جامعة بير زيت» إلى افتراض أنّ رفاهيّة الفرد النفسيّة في السياق الاستعماريّ تتأثّر إلى حدّ كبير بالاستعمار الصهيونيّ المستمرّ، والقمع والقهر والاستغلال، وسعى إلى استكشاف تأثير الاحتلال الاستعماريّ المستمرّ وإظهاره، الّذي يتجلّى بالعنف العسكريّ، والجدار الاستعماريّ الفاصل، ونقاط التفتيش، والحصار الاقتصاديّ، والسجن، والتعذيب، واغتيال النشطاء، وإغلاق المدارس، وتدمير بنية المجتمع الفلسطينيّ... إلخ. كانت الفكرة من البرنامج أنّ الإشارة إلى هذا القمع تُعْتبَر في حدّ ذاتها عمليّة للتحرّر النفسيّ، وتعزيز المرونة والصحّة النفسيّة.

يؤمن علم النفس المجتمعيّ بقراءة الظواهر والإشكالات النفسيّة تبعًا للسياق الموجود فيه، ويركّز على علاقات القوّة في تشكيل معاني الصحّة النفسيّة، وينظر إلى الاستعمار بصفته مستوًى تحليليًّا، لا بدّ من أخذه في عين الاعتبار عند التعامل مع مفاهيم الصحّة النفسيّة؛ فهو علم ما بعد استعماريّ نشأ في أمريكا اللاتينيّة، وهو نهج نظريّ في علم النفس يركّز على التحرّر من الهيمنة والاضطهاد، ويهدف إلى تحقيق التحرّر النفسيّ والاجتماعيّ للأفراد والمجتمعات.

 

رفض الاعتراف

أثناء إجراء اجتماع بعاملة فلسطينيّة في «قسم الصحّة النفسيّة» في بلديّة القدس، قالت إنّ الادّعاء الإسرائيليّ لرفض بعض مساقات البرنامج يستند إلى أسباب أكاديميّة بحتة، تأتي بشكل أساسيّ من كون هذه المساقات لا تحاكي مجال علم النفس. هنا قد يعتقد البعض أنّ الموضوع يتجاوز الأيدولوجيا والعلاقة الاستعماريّة، في حين أنّ عدم الاعتراف فيه أكاديميًّا إنّما هو برمّته سياسة بحتة؛ إذ ليس ثمّة مشروع معرفيّ خارج علاقات القوّة، أو بكلمات أخرى؛ مشروع حرّ؛ لأنّ السلطة وعلاقات القوّة جزء لا يتجزّأ من تكوين المعرفة؛ فمن خلال الفصل بين المعرفة الشرعيّة وتلك غير الشرعيّة، يجري مسح معرفة ’الآخر‘ أو إقصائها إلى خارج الحيّز الأكاديميّ، وتقديم المعرفة الّتي تعتبرها المؤسّسة شرعيّة بوصفها معرفة محايدة، في حين أنّها لا يمكن أن تكون حياديّة ذات طابع شموليّ.

يقول إدوارد سعيد إنّ هذا الادّعاء يعبّر عن منظور فئة واحدة، وهي الفئة ذات النفوذ والقوّة، الّتي تصمّم الأكاديميا بطريقة تحقّق مصالحها؛ أي أنّ السلطة في حقيقة الأمر غير موجودة خارج المعرفة، بل في صميمها؛ فلطالما أدّت مسألة تدخّل النخب والقوّة المهيمنة في الجهاز التربويّ دورًا رئيسيًّا في إخضاع الأقلّيّات والسيطرة عليها، وذلك لغرض إبادة هويّتهم ودفنها. في هذا السياق، يُعَدّ كلٌّ من التعليم والجهاز التربويّ وسيلة للسيطرة الاجتماعيّة والسياسيّة؛ إذ تخلق المجموعة المهيمنة، بواسطة المؤسّسة الأكاديميّة، سرديّة خاصّة بها تتيح لها حفظ مكانتها الاقتصاديّة، وتفوّقها الثقافيّ.

ليس ثمّة مشروع معرفيّ خارج علاقات القوّة، أو بكلمات أخرى؛ مشروع حرّ؛ لأنّ السلطة وعلاقات القوّة جزء لا يتجزّأ من تكوين المعرفة...

في مقال «صعود وهبوط مجتمع علم النفس الأكاديميّ في فلسطين والطريق إلى الأمام»، يتحدّث إبراهيم مكّاوي عن التحدّيات، الّتي واجهت تطوير برنامج علم النفس المجتمعيّ في «جامعة بير زيت» في ظلّ الاستعمار، وكيف يمكن لعمليّة إنتاج المعرفة أن تتشابك مع السياق السياسيّ، وذلك من خلال مقارنة علم النفس المجتمعيّ التحرّريّ في فلسطين بنموذج علم النفس المجتمعيّ التحرّريّ في أمريكا اللاتينيّة وأفريقيا. فبخلاف تأسيس علم النفس المجتمعيّ التحرّريّ في أمريكا اللاتينيّة وجنوب أفريقيا، خلال فترات تحوّل ثوريّ وتحرّريّ؛ جاء تأسيس برنامج علم النفس المجتمعيّ الأكاديميّ في فلسطين، في لحظة تاريخيّة من هزيمة حركة التحرّر الوطنيّ الفلسطينيّة، وظهور الاستعمار الجديد من خلال التمويل من المانحين والاعتماد الاقتصاديّ، الّذي فتح المجال للجدل والتفاوض بشأن هويّة البرنامج الّذي لم يتلقَّ دعمًا مؤسّسيًّا كافيًا، في ظلّ العولمة وهيمنة الرأسماليّة الغربيّة من خلال تمويل المانحين.

 

الحساسيّة الثقافيّة الإسرائيليّة

أثناء تصفّحي لبرامج ماجستير علم النفس المطروحة في الجامعات والكلّيّات الإسرائيليّة، وجدت برنامجًا في «كلّيّة أحفا» بعنوان: «علم النفس الإكلينيكيّ والحساسيّة الثقافيّة»، في وصف البرنامج كُتِب أنّ فكرته مستمدّة من التنوّع وعدم التجانس وكثرة الأقلّيّات الموجودة في المجتمع الإسرائيليّ، وبالتالي فإنّ هذا البرنامج يفضّل أن يستقبل طلّابًا تعود خلفيّاتهم إلى هذه الأقلّيّات الّتي تتمثّل في: الوسط العربيّ، والوسط الإثيوبيّ، والمثليّين، والمتطرّفين؛ على افتراض أنّ هذه الفئات هي الأقلّ حظًّا في تلقّي خدمات نفسيّة قادرة على أخذ الخصوصيّة الثقافيّة للسياقات الّتي جاؤوا منها. بالتالي يزعم هذا البرنامج أنّه يسعى إلى تخريج معالجين نفسيّين واعين للحساسيّة الثقافيّة، ويحملون توجّهًا ورؤية حول أهمّيّة السياق وموازين القوى في العمليّة العلاجيّة، وفي المحصّلة خلق قواعد جديدة تحيل إلى وجود علم نفس محلّيّ.

للوهلة الأولى تبدو الفكرة المستمدّ منها هذا البرنامج الأكاديميّ مثيرة للاهتمام، وتحمل خطابًا تحرّريًّا، يؤمن بأنّه من الجدير الذهاب لمعالجة القضايا حيث تحدث، وبأنّ العمل والبحث مع مجموعة معيّنة من الأشخاص يحتّم على الباحث/ ة أن يتواصل مع ثقافة هذه المجموعة، ومحاولة فَهْم خصوصيّتها ضمن السياق الموجودة فيه.

لذلك؛ فإنّ علم النفس - ضمن هذا التوجّه - هو علم يهدف إلى معرفة كيف يؤثّر السياق والأفراد في بعضهم بعضًا، وتشجيع قدرة الناس على التغيير، وليس معرفة أنماط السلوك العالميّة الّتي يتقاسمها الجنس البشريّ، بل يجب دراسة البيئة الاجتماعيّة الّتي يعيش فيها الأفراد بكلّ ما تحتويه من طقوس وعادات ورموز وتاريخ.

لكن لو فكّرنا مرّة أخرى لاكتشفنا أنّ المنظومة الأكاديميّة الإسرائيليّة – كعادتها - تدسّ السمّ في العسل، وتقع في فخّ نفسها؛ فمحاولة دمج هذه الفئات، وإدراجها جميعًا تحت ما يُطْلَق عليه جزافًا أقلّيّات، والتعامل معهم وحدةً تحليليّة واحدة، ما هو إلّا ضرب من السطحيّة؛ لأنّه يغيّب السياق الاستعماريّ؛ فكيف، إذن، سوف يكون الفلسطينيّ زميل الإسرائيليّ المتطرّف في النضال ضدّ التهميش؟ وكيف يمكن اعتبار المثليّين وحدة تحليليّة متجانسة بغضّ النظر عن هويّاتهم الأخرى؟

كيف، إذن، سوف يكون الفلسطينيّ زميل الإسرائيليّ المتطرّف في النضال ضدّ التهميش؟ وكيف يمكن اعتبار المثليّين وحدة تحليليّة متجانسة بغضّ النظر عن هويّاتهم الأخرى؟

إنّ في هذا إلغاءً لمفهوم ’التقاطعيّة‘ الّتي تحاكي التداخل بين هويّات ومميّزات مختلفة للأفراد، مثل العرق، والطبقة الاجتماعيّة، والجندر، والديانة، والإعاقة، وغيرها من العوامل الّتي تشكّل هويّة الشخص؛ اذ يقوم مفهوم التقاطعيّة على فَهْم أنّ هذه العوامل لا يمكن فصلها بشكل مستقلّ، بل تتشابك وتتداخل لتشكّل التجربة الإنسانيّة. وبدلًا من ذلك تبني المقاربة الثقافويّة، الّتي تمنح اهتمامًا بالغًا للعامل الثقافيّ في تكوين الظواهر والبنى الاجتماعيّة الّتي وصفها مهدي عامل، على أنّها نمط من التحليلات البرجوازيّة الفوقيّة، الّتي تعبّر عن أزمة مروّجيها بقدر ما هي تفسير للظاهرة الّتي تدرسها. ذلك أنّ المقاربة الثقافويّة بقدر ما تظنّ أنّها تقترب من الظاهرة، فإنّها، حقيقةً، تتعالى عليها. الأمر الّذي يحيلنا إلى أنّ النظر إلى أيّ فئة كانت، فئةً منكفئة على ذاتها، ما هو إلّا منطق مسموم له جذور تاريخيّة ومتشعّبة، وربّما يكون علم النفس بصيغته الكلاسيكيّة من أدوات هذه الخطابات؛ إذ يعولم الاتّجاهات ومفاهيم الصحّة النفسيّة، ويضرب السياق التاريخيّ والثقافيّ والسياسيّ للأفراد عرض الحائط.

لذلك؛ من الجدير بالذكر أنّ الأكاديميا الإسرائيليّة ليس لديها مشكلة في مراعاتنا بوصفنا أقلّيّةً عربيّة ذات خصوصيّة معيّنة، بل مشكلتها في النظر إلينا  بصفتنا مستعمَرين يتوقون إلى التحرّر، ومتواصلين مع أبناء شعبهم في الضفّة الغربيّة وغيرها من جغرافيّات؛ ففي حين أنّ الشعب الفلسطينيّ اليوم لا يعيش معًا في مجتمع حيويّ ومتماسك في فضاء جيوسياسيّ محدّد بوضوح، يمكن للجامعات الفلسطينيّة فيه أن تشكّل فضاء جامعًا؛ إذ تُعْتبَر الجامعات الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة ليس فقط مراكز للتعليم العالي، بل أيضًا رموزًا للبقاء والمقاومة أمام الاحتلال الاستعماريّ الإسرائيليّ.

 


مراجع

[1] Freire, P. Pedagogy of the oppressed (revised). (New York: Continuum, 1996) 356, 357-358

[2] Makkawi, I. The rise and fall of academic community psychology in Palestine and the way forward. South African Journal of Psychology, (2017), 47(4), 482-492.

 


 

غدير محاجنة

 

 

باحثة وطالبة ماجستير في برنامج «علم النفس المجتمعيّ» في «جامعة بير زيت». كتبت في عدد من المجلّات والمنصّات العربيّة.