’المغيّبات: النساء والمدن الفلسطينيّة حتّى سنة 1948‘... مَنْ يغيّب مَنْ؟

«المغيّبات: النساء والمدن الفلسطينيّة حتّى سنة 1948» (2022)

 

تنضمّ دراسة منار حسن في كتابها «المغيَّبات: النساء والمدن الفلسطينيّة حتّى سنة 1948»، الصادر عن «مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة»، ترجمة علاء حليحل، إلى إرث عريق في علم الاجتماع المعنيّ بسؤال المدينة: ما المدينة؟ وكيف تغيّر النفوس؟ ليفهم علاقات الذات بذاتها وبذوات الآخرين في المدينة. منار، إذن، تلتحق بقافلة مرموقة تضمّ مثلًا جورج زيميل، الباحث الألمانيّ الّذي قدّم مشاهداته الرائدة في ’جسد‘ الثقافة المدنيّة ليدرس ’روحها‘، روح الحضارة المدنيّة، ومكانتها في تركيبة النفس الّتي تقطنها، قليًّا، روحانيًّا، نفسيًّا، جسديًّا، وذلك في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ فتسير منار مع موكب هذا الفكر، الّذي يفحص مسارات الغياب والحضور كما فحصه زيميل، حين شاهد ما يؤدّي إلى تضخيم الفروقات الفرديّة مثلًا في المدينة، فيحجب عالم العواطف ليحضر العالم الذهنيّ، أو يغيّب العالم الداخليّ للفرد ليحضر العالم الموضوعيّ المنزوع الشخصيّة الذاتيّة، وذلك ليحمي الفرد ذاته من صدمة تضخّم المحفّزات والتحوّلات في المدينة الّتي تمضي على إيقاع سوق المال. بهذا المضمار، تنضمّ منار، وهي رياديّة في ذلك، إلى سؤال زيميل عن مسارات التغييب والحضور في المدينة، وعلاقتها بصيرورة الوعي الفرديّ والجماعيّ، وثنائيّة الحضور والغياب فيه، وهي ما سيقف في صلب مقالتي هنا.

 

النساء وتغييب المدينة

الادّعاء المركزيّ لمنار أنّ تغييب الحياة المعيشة الحضريّة في فلسطين أدّى إلى تغييب مكانة النساء الناشطات العاملات فيها. الأدهى من ذلك أنّه قد يؤدّي - ولربّما أدّى فعلًا - إلى تبنّي الخرافة الصهيونيّة عَمَّنْ كنّا وعَمَّنْ سنكون. لذلك تسعى منار من خلال مؤلّفها هذا إلى توضيح ضرورة الوصول إلى "فهم معمّق للتاريخ الحضريّ لفلسطين"[1]، فهذا سيجنّبنا نفي المدينة من الذاكرة الفلسطينيّة، وكذلك الوقوع في مصيدة الخرافة الصهيونيّة أنّ مَنْ جاء بالحرّيّة للمرأة الفلسطينيّة هو "الحياة بين اليهود"[2]، وأن لا علاقة لحياة المرأة عربيًّا في ما يحصل للمرأة فلسطينيًّا. ولكنّ أحد الأسئلة الّتي أرجو أن تعالجه منار في ما سيلي من بحوثها: لماذا أصلًا نسابق خرافة على بضاعة مشبوهة أخذت من الحرّيّة اسمًا لها؟

تطرح منار هنا سؤالًا استفتاحيًّا تكوينيًّا للكتاب أجده ثاقبًا جدًّا، والأهمّ من أيّ إجابة عنه، أن يكون وأن يبقى سؤالًا حاضرًا في وعينا: لِمَ غُيِّبَتْ ومُحِيَتِ ’المدينة‘ من الذاكرة الفلسطينيّة الجمعيّة؟ إذ وفق ما وجدته منار، فقدت عشر مدن من أصل إحدى عشرة صبغتها المدنيّة في فلسطين عقب نكبتها[3]. نحن، إذن، أمام كتاب يقاوم عمليّات الفقدان والنفي والمحو، الّتي تقوم بها الذاكرة تحت وطأة كلٍّ من النسيان والتناسي أيضًا. فما تقوم به منار، بكُنْهِه، توثيق صارخ يقرع من وراء جدران خزّان النسيان: نحن كنّا هنا، نحن كنّا هنا نساء ومدنًا، فلا تصدّقن ما يُحْبَك لنا عن عدمنا في خيوط الذاكرة والنسيان.

ولذا، أحسنت الباحثة همّت زعبي حين وصفت الكتاب كأنّه "وثيقة بيانات محكّمة" تُقَدَّم للاتّهام، أو لربّما بالأحرى للدفاع أمام المحكمة؛ لتثبّت حضور مَنْ غُيِّب؛ أي المدينة والمرأة: في الثقافة، بما فيها ثقافة الترفيه، والاقتصاد، والسياسة، بما فيه العمل الثوريّ المسلّح (مثلًا، نشاط زهرة الأقحوان). لكن لو هي مشت مع المرحوم غسّان كنفاني في أنموذج دقّ الخزّان، أنا أسأل: هل كان للكتاب أن يقوم بأكثر وأبعد ممّا دعا إليه كنفاني: ألّا يدقّ الخزّان فحسب ’معلنًا وجودًا ما‘، بل أن يدفع به أيضًا؟

نحن أمام كتاب يقاوم عمليّات الفقدان والنفي والمحو، الّتي تقوم بها الذاكرة تحت وطأة كلٍّ من النسيان والتناسي أيضًا...

تعرض منار نقاشًا في أقاصي الوعي والذاكرة الفلسطينيّة: من حيث الاهتمام بالنساء والمدينة حين ألتجئ ويلتجئ الوعي القوميّ الفلسطينيّ، أسوة بغيره، للريف والكينونة الفلّاحيّة، مغيّبًا المدينة وبالتالي نساءها، فيطرح هذا الكتاب أمامنا، ولربّما من حيث لا يدري أو يقصد، سؤال تأريخ وتحوّلات ومآلات هذا الوعي: لماذا صرنا الآن تحديدًا في مسيرة هذه الوعي، بعد 75 عامًا من تدمير فلسطين، جاهزين لمقارعة قضيّة المدينة في وعينا الفلسطينيّ، ما الشرط الّذي يجعل من عمل منار مع عمل آخرين، مثل شيرين صيقلي وكريم ربيع، عن الرأسماليّة والنيوليبراليّة الفلسطينيّة في مساءلة المدينة، ومكانها في كيّ وعينا ووجداننا فلسطينيًّا؟ هذا سؤال يتأتّى لنا حين نربط ما نكتب مع الشرط الّذي نكتب فيه: أنضج وعينا وترسّخ وجودنا في ’خريطة العالم‘، لدرجة أنّنا جاهزون لفتح مواضيع ما كنّا لنفتحها من قبل، أم أنّ العكس هو الصحيح؟

 

مَنْ يُغيِّبُ مَنْ؟ 

من باب الجدل الحواريّ، أسأل: بأيّ الظروف يصحّ لنا أن نتحدّث عن ’المغيَّبات‘ (بفتح الياء) في آن واحد بصفتهنّ ’مغيِّبات‘ أيضًا (بكسر الياء)؟ إجابةً، فإنّ المدينة والمرأة المعنيّين في كتاب منار هذا لا يقع عليهما فعل التغييب فحسب، بل التغييب هو ما يقومان به أيضًا، وما يمارسانه؛ أي أنّ الحاضرة ليست كلّيًّا أو دومًا ’المقصيّ‘ الّذي يعود، أفي رسمة تمام الأكحل أم في كتاب منار[4]، بل هو ما طغى فينا حتّى عَمِهْناه؛ أي نغفله.

 أتساءل بأيّ الطرق أظلم المنظور الليبراليّ العلمانيّ ذو عقيدة ’التقدّم‘ و’التخلّف‘ الطريق على منار، في قولها مثلًا: "كانت المدينة وعمليّة التحضّر معها... عنصرين محفّزين لمظاهر اجتماعيّة منوّعة، مثل نشوء الفنون وتطوّرها"[5]. ولكن هنا علينا أن نسأل: أليس هذا صنفًا من صنوف التغييب؛ أن ندّعي أنّ الفنّ انتظر المدينة كي يظهر ويتطوّر؟ أم القصد هنا نوع محدّد جدًّا من الفنّ؟ إلّا طبعًا لو كانت منار تقصد أنّ الفنّ كان معدومًا في القرية، غائبًا من نسيج أشكال الحياة فيها، مثل الدبكة والزغاريد والزجل. ولربّما هذا تحصيل حاصل حين نقرأ تاريخ المدينة ظاهرةً بشريّة من وجهة نظر المدينة ذاتها، لا من خارجها؛ فها هي منار تبدو موافقة مع پارك على أنّ "كلّ الثقافات الكبيرة هي وليدة المدن"[6]، ولكن ألم تكن الثقافات الكبيرة عمومًا وليدة ديانات، وهذه الديانات بنشأتها تعود لا إلى المدن فحسب، بل إلى البلدات الصغيرة والقرى، وحتّى الصحراء. ألم تكن هي هي البادية في بداية الديانات السماويّة الثلاث؟ بكلّ الأحوال: من الواضح أنّ مَنْ يكتب عن المدينة فعليها أو عليه أن يحدّد موقعه – أيرويها بصيغة المنتصر لها أم بصيغة المراقب الّذي يترفّع عن الانحياز إليها أو ضدّها؟

هل نحن كنّا حقًّا في حاجة إلى مدينة حتّى يبدأ النضال للدفاع عن حقّ المرأة التامّ في الحياة، بل الحياة الكريمة أيضًا...

سؤال ثانٍ أطرحه مثالًا من باب توضيح جدليّة المدينة: مغيَّبةً ومغيِّبة -هل نحن كنّا حقًّا في حاجة إلى مدينة حتّى يبدأ النضال للدفاع عن حقّ المرأة التامّ في الحياة، بل الحياة الكريمة أيضًا؛ إذ جاء في المتن القرآنيّ ضدّ عادات الجاهليّين من العرب: "وَإِذا الْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ * بِأيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ" (سورة التكوير، الآية 8)؟ مثال ثالث على ما قد حجبه الخطاب الليبراليّ- العلمانيّ في إنارة الطريق أمام منار، حين تدرج سلسلة من النضالات الّتي ظهرت خاصّة في المدينة، منها القوميّة والطبقيّة والجنادريّة[7]، وما يقصيه هذا الإدراج هو دور المدينة في تحفيز النضال الدينيّ، بل الدينيّ النسويّ كما تفيدنا بحوث صبا محمود، في كتابها الرائد بعنوان «سياسة التقوى» (2005) عن النساء الدعويّات في مساجد القاهرة. بالطبع، منار مطّلعة على الجوانب المظلمة لصعود المدينة في الوجدان الفلسطينيّ؛ فهي تقرّ بأنّ في المدينة "تنشأ (أيضًا) العلاقات الاجتماعيّة والظواهر القمعيّة والاستغلاليّة... مثلًا الاتّجار بالجنس"[8]. لكن حبّذا لو عمّقت في كتابها القادم، وهي تنوي الكتابة عن خراب المدينة الفلسطينيّة ومساعي ترميمها، كيف تكون ’الحرّيّة‘ وجهًا من أوجه القمع والطغيان، فلا يمكن اختزالها، في مشاركة النساء في سوق العمل، الرأسماليّ أصلًا، ولا في الاستهلاك الثقافيّ الحضريّ المنبثق منه، ولا العمل السياسيّ القوميّ المرافق له، حتّى لا تقع منار في تكريس مطبّ لم يَنْجُ منه زيميل أيضًا على شكل ثنائيّة بالية تزعم دونيّة المرأة الفلّاحة، والبدويّة، أمام المدنيّة.

 

ما يضمره تغييب المدينة

قد يسهل علينا إدراك "الوجه الآخر للحقيقة" (وللحقيقة وجهان لو اتّفقنا مع درويش) لو نحن تذكّرنا أنّ الحضارة قُرِنَت ومقرونة بالمدينة. قد نبدأ بإدراك هذا الوجه بخاصّة حين ننظر إلى التقارب اللفظيّ بين الحاضرة؛ أي المدينة، والحضارة؛ فمجرّد التحضّر، والحضريّة هي بعينها عمليّة تغييب للآخر الريفيّ، الفلّاحيّ، وبالطبع، البدويّ. ولربّما هنا نستطيع أن نبدأ بمقارعة السؤال المهمّ الّذي صاغته منار، وهو: "ما الّذي يضمره تغييب المدينة؟" في الذاكرة الفلسطينيّة، افتراضًا أنّ هذا فعلًا ما حصل.

بداية، يجدر بنا ألّا ننسى أنّ الوعي القوميّ بما فيه، وللمفارقة، الوعي القوميّ الّذي ’يمحي‘ المدينة على صعيدٍ ما، وعلى صعيد آخر يمحي القرية أيضًا، نتاج حضريّ بامتياز؛ أي أنّ ’القوميّة‘ بصفتها منتَجًا ظهر في المدن لا في القرى، هي الّتي من المفترض أن تكون قد محت القرية المعيشة، بما في ذلك نسيج العلاقات القرويّ، لتستحضرها رموزًا في ما بعد؛ فهل، يا تُرى، ما تصفه منار تغييبًا للمدينة هو ظاهرة تمحي المدينة فيها المدينة حين تُطَوِّر وتبثّ الوعي القوميّ المناهض للمستعمِر برمزيّة الفلّاحة؟

ثمّة سؤال آخر يفضي إليه كتاب منار: هل لنا أن نحيل ذلك الوعي القوميّ الحديث، الّذي يغيّب الفلّاحيّ معيشًا ويحضره رمزًا، إلى ’عودة المقصيّ‘ من قبل، وعلى يد الحضارة كما تُفْهَم عمومًا؛ كونها من سمات أهل المدن؟ والقصد ’بعودة المقصيّ‘ هنا، عودة التركيبة الأموميّة (من أمّ بمعنى الأوّليّة والبَدْئِيّة) للمجتمع الفلسطينيّ؟ لنذكر أنّ تركيبة المجتمع الفلسطينيّ فلّاحيّة رعويّة بامتياز عبر التاريخ، ومنذ الزمن الغابر. كما أنّ مَنْ بقي من العرب في أراضي فلسطين المحتلّة في عام 1948 هم بسوادهم من الفلّاحين، ومَنْ مَدّ الثورة في المخيّمات هم الفلّاحون المشرّدون عن أرضهم، كما يعلّمنا كتاب روزماري صايغ بعنوان «من فلّاحين إلى ثوريّين» (1979)، ومَنْ أجّج الإضراب وصان الثورة القسّاميّة المندلعة في عام 1936 هم من الفلّاحين، والبدو بلا شكّ، حتّى أنّها عُرِفَت بـ ’ثورة الفلّاحين‘، لا من أهل المدن. ونحن في انتظار الكتاب الّذي سيسلّط الضوء على دور النساء، فلّاحات وبدويّات، في ’ثورة الفلّاحين‘.

لربّما في هذا المضمار، نذكر هنا طرفة أهل المدينة الّذين تحوّلوا إلى اعتمار الحطّة بدل الطربوش؛ ليموّه الثوّار المستعمِر الإنجليزيّ؛ إذ هُتِفَ آنداك في المدن: "الكوفيّة بخمسة قروش... والنذل لابس طربوش"، و"حطّة وعقال بسبعة قروش... وعرص اللّي بيلبس طربوش". وأشار تيد سويدنبيرغ في كتابه «ذكريات الثورة: عصيان 1936-1939، والماضي الفلسطينيّ» (1995)، حين تحرّى كيف صار الفلّاح الفلسطينيّ حاملًا للدلالات القوميّة؛ أنّ في اعتمار أهل المدن الكوفيّة حصل ثمّة انقلاب في الهرميّة الاجتماعيّة، رأسًا على عقب، فصار الفلّاحيّ حين انقلب هذا الهرم دليل المدنيّ للعمل السياسيّ في عالم أوسع، وشرطًا كونيًّا عارمًا يتنكّر للريف، ويتمدّن في آن.

 

المَصْدَمَة

أختم هذه المساءلة  - مَنْ يغيّب مَنْ؟ - بأن نفكّر معًا في سؤال منحدر منها: لربّما في عمليّة التغييب هذه ثمّة اقتراب من مكان وزمان أسمّيه ’موقع الصدمة/ تراوما‘؛ أو بكلمة واحدة ’المَصْدَمَة‘ (بالمعنى الإكلينيّ للمفردة)؟ هل في رجوع الوعي القوميّ الفلسطينيّ إلى الريف، أو ما يُسَمّى لدى منار "تغييب الحاضرة" – إن صحّ التعبير – ثمّة ردّ فعل من دافع الرغبة في الحياة والبقاء أمام تغيبب مزلزل جارف وصادم، كان أوجه عام 1948 – حينذاك صار تعداد سكّان المدن بين 35 و40 % من سكّان فلسطين. هذا هو زمان ’صدمة‘ أو ’مصدمة‘ ومكانها في عالم الفلسطينيّ الريفيّ – الّذي أحاطت به ’الحضارة‘، وجلبت معها مستعمرًا زلزل واجتثّ عالمه وجرفه، وما زال باسم الحضارة وبأساليبها الأكثر فتكًا ودهاء، فما كان منه إلّا أن يعود كما عاد جبرا إبراهيم جبرا إلى «البئر الأولى»، وغسّان كنفاني في «ما تبقّى لكم» إلى الصحراء الّتي يعبرها حامد في بحثه عن أمّه؛ أي بدايته.     

هل في رجوع الوعي القوميّ الفلسطينيّ إلى الريف، أو ما يُسَمّى لدى منار "تغييب الحاضرة" ثمّة ردّ فعل من دافع الرغبة في الحياة والبقاء أمام تغيبب مزلزل جارف وصادم، كان أوجه عام 1948؟

 ختامًا، يجهّزنا هذا الكتاب للتبصّر في الواقع الّذي نعيشه: حيث ليس جليًّا تمامًا: هل المدينة هي دومًا مدينة الأفراح والأتراح في حاراتنا العربيّة مثلًا في المدن الساحليّة، أو القرية هي القرية بعد مئة عام من التغريب عن فلاحة الأرض وأكثر؟ فشاعت لفظة ’بلدات‘ الّتي هي بمنزلة رفض للحسم بينهما؛ أي اعتراف بعدم إمكانيّة الحسم ما بين القرية والمدينة في حاضرنا المستعمر. وعن هذه ’البلدات‘ تقول منار في خاتمة الكتاب: "لا يمكن اعتبارها مدنًا حقيقيّة، وإنّما قرًى تضخّمت، وحظيت بمكانة مدينة بفضل عدد سكّانها فقط"[9]، وهنا أسأل: ما القصد "بعدد سكّانها"؟ هل القصد سكّانها الأحياء أم القتلى؟ الناجين أم المغدورين تحت جائحة القتل المتفشّية بيننا؟ لربّما كتاب منار القادم هو فعلًا على مرمى حجر – بأن تكسر الياء لا أن تفتحها – فتحدّثنا عن المغيِّبات: كيف تبلع المدينة ما كان قرية يومًا ما وصار غيتو؟ لربّما ستكون في موقع ترشدنا منه كيف تكون الخرافة الصهيونيّة ما هي إلّا إفراز لخرافات ومغيّبات أعمق منها في عالم ليس لنا، ويدّعي "الحضارة".   

 


إحالات

[1] منار حسن، المغيّبات: النساء والمدن الفلسطينيّة حتّى سنة 1948، ترجمة: علاء حليحل (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2022)، ص 248.

[2] مرجع سابق، ص 248.

[3] مرجع سابق، ص 8.

[4] مرجع سابق، ص 7.

[5] مرجع سابق، ص 15.

[6] مرجع سابق، ص 17.

[7] مرجع سابق، ص 37.

[8] مرجع سابق، ص 243.

[9] مرجع سابق، 246.

 


 

خالد فوراني 

 

 

أستاذ مشارك في دائرة علم الاجتماع والإنسان في «جامعة تل أبيب»، وزميل بحث في «معهد فان لير» في القدس. من اهتماماته: اللغة، العلمانيّة، النظريّة الاجتماعيّة، تاريخ العلوم الإنسانيّة، العلاقة بين الجماليّ والسياسيّ في فلسطين.