المرشدة السياحيّة في ليثوانيا... لماذا تنحاز لإسرائيل؟

من احتجاجات مناصرين للقضيّة الفلسطينيّة، فرنسا | AFP

 

وقفت المرشدة السياحيّة المتطوّعة في وسط أحد شوارع البلدة القديمة بمدينة فيلنيوس الليثوانيّة، تشرح عن البلدة القديمة والوجود اليهوديّ فيها، مشبّهة الحارة اليهوديّة في فيلنيوس بالقدس. من الطبيعيّ أن ترتبط القدس الشأن الدينيّ، لكن من غير الطبيعيّ أن تنفصل المدينة دائمًا في العالم عن فلسطينيّتها وعروبتها.

عندما انتهت الجولة، اقتربتُ من المرشدة البالغة الثلاثين عامًا، وسألتها أكانت زارت القدس أم لا. كانت الإجابة أنّها شاركتْ في برنامج للمرشدين السياحيّين الأوروبّيّين المتطوّعين حول المدينة المقدّسة، تنظّمه «وزارة الخارجيّة  الإسرائيليّة». في الأعوام الأخيرة، انتشر مفهوم ’الجولات السياحيّة المجّانيّة‘ الّتي يقدّمها مرشدون محترفون شباب بشكل تطوّعيّ لمدّة ساعتين أو ثلاث، وفي نهاية الجولة يدفع المشاركون ما يمكنهم من تبرّعات تقديرًا للمرشد أو المرشدة. لكنّ هؤلاء المرشدين هم واجهة المدينة وما يربط المدينة بالعالم الخارجيّ، سواء دينيًّا كان ذلك أو سياسيًّا، أو اجتماعيًّا، أو اقتصاديًّا.

الرواية الفلسطينيّة قاصرة في الوصول إلى الخارج وفي التغيير، وفي إعطاء النضال الفلسطينيّ حقّه في روايته التاريخيّة...

مع مثل هذا الموقف، تعزّزت رؤية سابقة لديّ بأنّ الرواية الفلسطينيّة قاصرة في الوصول إلى الخارج وفي التغيير، وفي إعطاء النضال الفلسطينيّ حقّه في روايته التاريخيّة، المحميّة بقرارات الدول والدراسات الأكاديميّة والتاريخيّة، والمدعومة من المؤسّسات الدوليّة؛ فكيف لهذه المرشدة أن تكون أولويّة لنشر الرواية الإسرائيليّة، بينما هي مرشدة سياحيّة في مدينة صغيرة تبعد آلاف الكيلومترات عن القدس.

 

وسائل التواصل

أصوات عديدة ترى أنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ قد مَنَحَتْ الرواية الفلسطينيّة ومناصري القضيّة صوتًا في العالم، وعَمِلَتْ على تغيير الرواية لصالح الفلسطينيّين. من الصحيح أنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ قد وفّرت منبرًا قويًّا نسبيًّا لتغيير القواعد في نشر المعلومات حول فلسطين واستعمارها، خاصّة خلال الحروب على غزّة، وفي حوادث ذات حساسيّة معيّنة مثل اغتيال الصحافيّة شيرين أبو عاقلة، أو اجتياح جنين مؤخّرًا، ولكنّ التمعّن في كيفيّة استخدام هذه الأدوات التواصليّة لا يخرج عن مسارين مركزيّين: الأوّل نشر فضائح الاستعمار الصهيونيّ وجرائمه وقوّاته، والممارسات غير الإنسانيّة في حقّ الشعب الفلسطينيّ وأرضه وكرامته. والثاني أنّ استخدام وسائل التواصل الاجتماعيّ تغلب عليه أنّه ردّ فعل لأحداث جرائم، بعيدًا عن وجود رؤية منظّمة وعميقة لإحداث تغيير، ونشر الجذور الأساسيّة للمسألة الفلسطينيّة والاستعمار الاستيطانيّ.

لقد أصبحت الفجوة أعمق، وكلّما ازداد ردّ الفعل وانتشار الجرائم بعيدًا عن الجذور العميقة للمسألة، اتّسعت هذه الفجوة، وأصبحت القدرة على ترسيخ الرواية الفلسطينيّة أصعب. وما قد يستطيع الأفراد أو المؤسّسات فعله لإحداث تغيير في هذا الوضع قد يكون محدودًا، ولا سيّما في ظلّ صعوبة التحكّم في ما يُنْشَر ومَنْ يقرؤه؛ إذ ألغت الخوارزميّات صوت العديد من الفلسطينيّين وأغلقت حساباتهم، وجعلت الاعتماد عليها - أساسًا لنشر الرواية الفلسطينيّة - شديد الصعوبة.

 

العرب والمسلمون

إنّ قصّة المرشدة السياحيّة في إحدى جمهوريّات الاتّحاد السوفييتيّ السابق، ذات عدد السكّان الّذي لا يتجاوز المليونين، هي إحدى الأدوات في الإستراتيجيّة المتكاملة لنشر الرواية الإسرائيليّة، ومعها طمس الرواية الفلسطينيّة. بالتأكيد، هناك كثيرون مثلها قد شاركوا في برامج مماثلة في دول كبرى، مثل ألمانيا وأمريكا وإيطاليا وبريطانيا وغيرها.

لماذا لا ينجح الفلسطينيّون في نشر روايتهم، حتّى وصل الأمر إلى أنّ العرب، وهم الامتداد القوميّ للشعب الفلسطينيّ، لا يعرفون الجذور الأساسيّة للقضيّة الأهمّ من بين قضاياهم؟

لا يقتصر الخلل على غير العرب والمسلمين، الّذين يُفْتَرَض وعيهم وانحيازهم للفلسطينيّين أوتوماتيكيًّا؛ لكن هل فكّر أحدنا يومًا في طرح سؤال على بعض الشباب العرب حول ماهيّة القضيّة الفلسطينيّة؟ وما أساسها؟ وجذورها؟ بالتأكيد، الأغلبيّة لا تعرف الكثير عن فلسطين، وتتوقّف معرفتها على ما هو عاطفيّ وشعبويّ. قد لا يعرفون شيئًا عن النكبة، أو أنّ الممارسات الاحتلاليّة ليست فقط القتل والقصف في غزّة، كما لا تعرف الأغلبيّة أنّ ثمّة ملايين من الفلسطينيّين يعيشون في فلسطين التاريخيّة. هذا يطرح سؤالًا أكبر وأكثر حساسيّة: لماذا لا ينجح الفلسطينيّون في نشر روايتهم، حتّى وصل الأمر إلى أنّ العرب، وهم الامتداد القوميّ للشعب الفلسطينيّ، لا يعرفون الجذور الأساسيّة للقضيّة الأهمّ من بين قضاياهم؟ ومثلهم شعوب الدول المسلمة؟

 

طاقة الانقسام المهدورة

إنّ طرح قضيّة الرواية الفلسطينيّة، وتراجعها على جميع المستويات، يعود إلى أسباب متعدّدة. أوّلًا، يرجع القصور الأساسيّ إلى تحوّل حركات التحرير الفلسطينيّة، من كونها حركات تحريريّة تركّز إنتاجها الفكريّ والأدبيّ على محوريّة قضيّتها وروايتها، إلى مشروع إداريّ يركّز على مشاريع إنتاجيّة فكريّة هامشيّة، خاصّة أنّها ترتبط بتوفّر المصادر، وهذا يجعل الإنتاج الفكريّ بعيدًا عن محوريّة القضيّة وأساس الرواية الفلسطينيّة؛ فالمصادر الماليّة المتوفّرة عبر «وزارة الثقافة الفلسطينيّة» مثلًا، تصبّ في صالح فلسطين الداخل، وكيفيّة إدارة الشؤون الثقافيّة ضمن حدود فلسطين التاريخيّة، بعيدًا عن الخارج، بمَنْ في ذلك فلسطينيّو الشتات.

ولا يمكن الحديث عن الرواية الفلسطينيّة دون الحديث عن تحوّل دبلوماسيّين فلسطينيّين، على مستوى السفراء في بعض الدول، إلى نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعيّ، بدلًا من التركيز على رسم إستراتيجيّة واضحة لنشر الرواية الفلسطينيّة خارج إطار ردّ الفعل، وهو ما يدلّ على عدم وجود إستراتيجيّة، ووجود فراغ كبير في عمل تلك المواقع الدبلوماسيّة، ما يمكن أن يكون انعكاسًا لعدم وجود برنامج واضح للكيان الفلسطينيّ السياسيّ، سواء من السلطة الحاكمة في الضفّة الغربيّة، أو تلك الحاكمة في قطاع غزّة.

أدّى الانقسام الفلسطينيّ إلى وجود روايتين فلسطينيّتين، إحداهما إسلاميّة القضيّة وفلسطين، والأخرى رواية احتلال أراضي 1967، وإقامة دولة فلسطينيّة من منطلقات قرارات دوليّة ومنظّمات حقوق إنسان...

أمّا السبب الثاني؛ فيتمثّل في الانعكاس الخطير للانقسام الفلسطينيّ على الجاليات الفلسطينيّة، الّذي يظهر من خلال وجود خطّين سياسيّين في الخارج بين الجاليات، ما أدّى إلى الانشغال الكبير في التأطير والتحشيد الذاتيّ، مثلما حدث في «مؤتمر جاليات أوروبّا» في مدينة مالمو، الّذي شَهِدَ نتيجة لتواصل «السلطة الفلسطينيّة» مع السويد، واتّهام المنظّمين بأنّهم ينتمون إلى حركة «حماس»، طرد عضو البرلمان السويديّ من أصل فلسطينيّ جمال الحاجّ من عضويّة «لجنة الخارجيّة» في البرلمان، وانسحاب كلّ الأحزاب السياسيّة السويديّة من المؤتمر.

لقد أدّى الانقسام الفلسطينيّ إلى وجود روايتين فلسطينيّتين، إحداهما إسلاميّة القضيّة وفلسطين، والأخرى رواية احتلال أراضي 1967، وإقامة دولة فلسطينيّة من منطلقات قرارات دوليّة ومنظّمات حقوق إنسان، بعيدًا عن الرواية التاريخيّة للاستعمار الاستيطانيّ وتشريد الشعب خلال النكبة (1947-1949).

 

التجزئة

يمكن القول إنّ «اتّفاقيّة أوسلو» في عام 1993 قد عمّقت تشتّت الفلسطينيّين؛ من خلال التخلّي عن فلسطينيّي الأراضي المحتلّة عام 1948، والتركيز على جهود بناء الدولة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. لكن مع «انتفاضة القدس والأقصى» [المعروفة بالانتفاضة الثانية]، والحروب المتكرّرة على غزّة، وتعمّق التواصل والروابط عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعيّ - الّتي أسهمت بشكل كبير في التحشيد، وخلق مبادرات وطنيّة مهمّة - أصبح الشعب الفلسطينيّ أكثر ترابطًا، لكنّ الرواية الفلسطينيّة الشاملة استمرّت في تغييب أهمّ جزء من الشعب الفلسطينيّ، وهم اللاجئون في الشتات، وكذلك فلسطينيّو الأراضي المحتلّة عام 1948. نرى ذلك من خلال التركيز الكبير على قطاع غزّة والضفّة الغربيّة، وأحيانًا - إلى حدّ ما - القدس، وهذا يأتي على حساب الرواية الأوسع للقضيّة الفلسطينيّة.

سيؤثّر هذا التغييب المستمرّ - بلا شكّ - في كيفيّة رؤية الآخرين للفلسطينيّين ونضالاتهم المستمرّة ضدّ الاستعمار. بالرغم من استمرار ظهور الموادّ والتقارير الّتي تدعم الرواية الفلسطينيّة، إضافة إلى الأصوات المنادية بأصالة الرواية الفلسطينيّة وأحقّيّتها، لكن السؤال يكمن حول جدوى استغلال ذلك ضمن إطار شامل وموسّع لترسيخ الرواية الفلسطينيّة في الداخل والخارج.

 


 

تسمية

 

 

 

باحث وأكاديميّ فلسطينيّ حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسيّة من «جامعة ميلانو»، ومؤسّس مشارك في «أكاديميّة الشباب الفلسطينيّة»، وزميل في «معهد دراسات ما بعد الحروب» في البوسنة والهرسك، وباحث مشارك في «معهد أنواع الديمقراطيّة» في «جامعة جوثينبرغ».