صورة لبيت الخوري في البصّة

بيت الخوري قبل الهدم في البصّة | عرب 48.

 

في السابع عشر من آب (أغسطس) 2019 زرت وعائلتي البصّة، في جولة زيارات قمنا بها في أرجاء الوطن. لم أكن أعلم يومها أنّ ما سأصوّره للمكان وبيوته سيتحوّل إلى وثيقة تاريخيّة توثّق النكبة المستمرّة. لفت نظري يومذاك بشكل خاصّ مبنًى مجاور لـ «كنيسة الروم»، حافظ على قوامه وجماله المعماريّ الخاصّ، رغم الهدم والتهجير. كان البيت مؤلّفًا من طابقين، في الطابق العلويّ زيّنت واجهته ثلاث غرف تتوسّطها غرفة، مع ثلاث نوافذ مرتفعة، قسمها العلويّ على شاكلة أقواس، بدت كأنّها غرفة ضيوف، وبجانبيها غرفتان واسعتان مع نوافذ مرتفعة مستطيلة الشكل، تبدو كأنّهما استُعْمِلَتا غرفتَي نوم، حيث يمكّن تصميمهما المعماريّ بنوافذه المرتفعة الشمس من الدخول مباشرة، واحدة من جهة الكنيسة، والأخرى من جهة الشمال باتّجاه لبنان.

قبل سنة أيضًا، كان لي زيارة عائليّة مجدّدة للبصّة، في يوم إحياء ذكرى النكبة، وصوّرتها، وعدت وصوّرت المبنى ذاته المجاور للكنيسة، وكان على ما هو عليه صامدًا شامخًا جميلًا تحيط به أشجار التين.

حين صوّرت بيت عائلة الخوري في البصّة، في السابع عشر من آب (أغسطس) 2019، لم أكن أعلم يومها أنّ هذا البيت سيُهَدَّم في آب (أغسطس) 2023، وسأزوره مجدّدًا في السابع عشر من الشهر نفسه، بشكل يحمل من المفارقة قدر ما تحمله جريمة الهدم.

 

بقايا وطن

عهدت أن أزور القرى وأصوّرها من جديد، وألتقط التغييرات الحادثة في منظر المكان، الّتي تعكس جغرافيا الترحيل والاستعمار. هكذا أيضًا نهجت أن أفعل في مدينتي حيفا، خاصّة حيّ وادي الصليب، حيث أتابع بعدستي، وبريشتي أيضًا، المتغيّرات الاستعماريّة الاحتلاليّة الحاصلة فيه.

أصوّر وأرسم ما أقدر على رسمه، حتّى شكّلت مجموعتي الخاصّة الّتي أطلقت عليها اسم «بقايا وطن». وحين أضيف لوحة إلى مجموعتي هذه، الّتي تعكس ما صوّرته ممّا تبقّى من القرية المهجَّرة والمهدومة، وأحيانًا كثيرة ما تبقّى يكون كومة أحجار أو بضعة حجارة مفرّقة، أو بضع درجات لبيت كان يومًا عامرًا بأهله، وأحاول تخيّل منظر البيت، عمّا كان عليه قبل النكبة، قبل هدمه وتهجير أهله. أحاول بتقنيّة رسم معماريّة بسيطة أن أخطّط شكل البيت الأصليّ، باستكمال  الأجزاء الناقصة قبل الهدم، وحين تكتمل الصورة تكتمل أيضًا أمامي جريمة التهجير والهدم. ما حدث اليوم في البصّة كان عمليّة عكسيّة.

زرت قبل أيّام قرية البصّة، حيث عُقِد اجتماع تشاوريّ هناك، بعد أن تبيّن لأهل البلد واللجنة المسؤولة أنّ بيت عائلة الخوري – ذات البيت الجميل الّذي التقطته عدستي؛ ذلك المكوّن من طابقين، الموازي لـ «كنيسة الروم» هناك - قد هُدِّم، وادّعت بلديّة «شلومي» الّتي استعمرت أراضي البلدة، وتضع يدها على ما تبقّى منها، وتمنع أهلها من العودة؛ ادّعت أنّ المنزل سقط من تلقاء نفسه.

 

صورة بيت الخوري من عام 2019 | تصوير جنان عبده. 

 

حين وصلت هناك، رأيت هول النكبة المستمرّة متجسّدًا أمامي من جديد. لم يبقَ من البيت إلّا كومة من الحجارة، ونافذة على الأغلب هي النافذة الظاهرة في الصورة الّتي التقطتها في عام 2019. في الطابق الأوّل من الجهة اليمنى من البيت الأقرب إلى الكنيسة. هُدِّم البيت، وتكوّمت حجارته، سقط الطابق الأعلى بأقواسه الجميلة، واختفى، وهُدِّمت الغرف بكاملها. أكوام سقطت على شجرات التين؛ فكسرت بعضها، وبقي بعض أغصان التين يطلّ من بين أكوام الحجارة. ولم يبقَ من البيت إلّا نافذة.

لم تكن هذه المأساة الوحيدة؛ فبجانب البيت تقف «كنيسة الروم» وقد تصدّعت جدرانها، وسقطت قطع كاملة من سقفها القرميديّ. وخلف البيت والكنيسة حيث كانت تقف بقايا عدد من بيوت قرية البصّة، كان هناك ساحة واسعة كبيرة؛ حيث سُوِّيَتْ الأرض كلّيًّا على يد بلديّة «شولمي»، وأُخْلِيَتْ من أيّ بقايا بيوت، وتحوّلت إلى مصفّ سيّارات. منظر يذكّر بالمصفّ الّذي أقيم في الطنطورة فوق القبر الجماعيّ؛ الشاهد على مجزرة الطنطورة، حيث أُخْفِيت آثار الجريمة كلّها.

 

حين كانت عامِرَة

مَنْ لا يعرف المكان مسبقًا لا يتخيّل أنّ هذه المنطقة كانت قبل ذلك حيًّا من أحياء البصّة، وأنّها كانت تعجّ بحياة قطعها الاستعمار. لا يتخيّل أنّ هذه البلدة كانت عامرة بالحياة، وكان فيها مدرسة ثانويّة، وحياة ثقافيّة واجتماعيّة ورياضيّة، وحياة اقتصاديّة، وسوق يعجّ بالحركة، وصدرت فيها مجلّات ونشرات أدبيّة وطنيّة، وأُجْرِيَتْ فيها مسابقات، واستُقْطِبَ القاصي والداني إلى موقعها الجليليّ، على سفوح التلّة الصخريّة على طريق بيروت – عكّا، في خطّ جوّيّ ليس بالبعيد عن قرية الزيب المهجَّرة ورأس الناقورة شمال غرب البلدة.

هُجِّرَ أهل البصّة، وهُدِّمَتْ بيوتها، ووُطِّنَ مستوطنون مستعمرون فيها في سنوات الاستعمار الأولى. في البصّة، في عام 1943، شغل حماي المرحوم الأستاذ حنّا فارس مخّول، منصب مدرّس للّغة العربيّة وآدابها، في «المدرسة الوطنيّة الأسقفيّة الثانويّة»، وكان أستاذه المربّي خليل السكاكيني، مؤسّس «كلّيّة النهضة» بالقدس، قد أوصى إدارتها بأن تستقطب الأستاذ حنّا خرّيج الكلّيّة. وقد عهد إليه، كما جاء في رسالة بقلمه كتب فيها عن السنة الدراسيّة 1944/1945، "التدريس في الصفّ الأوّل الابتدائيّ والصفوف المتوسّطة والثانويّة، والإشراف على «العروة الوثقى» الخطابيّة، الّتي كانت تعقد لقاءاتها مرّة في كلّ أسبوع".

نعرف من تلك الرسالة عن الأجواء والحياة الثقافيّة الفنّيّة الرياضيّة، وإصدار المجلّات، وحضور الفتيات المهرجانات والأنشطة في المدرسة - رغم أنّها مدرسة للبنين - وعلاقة الصداقة بين المربّي وتلاميذه؛ سائرًا على درب معلّمه خليل السكاكيني. وعن كبر المدرسة، وكون قسم منها داخليًّا للطلّاب القادمين من بعيد، يكتب الأستاذ حنّا: "تفاعلت مع تلاميذي؛ أصدقائي وإخوتي، وتباروا في كتابة الإنشاء، وفي النقد والإلقاء؛ فكانت عُرْوَتُنا الوثقى عكاظًا تضجّ الحياة في عروقها، ويزهر الأدب فيها... وغنّينا في الصفوف ولا سيّما في دروس العَروض، غنّينا من الشعر ما طاب لنا، وتحوّلت هذه الدروس إلى مناسبات طرب وموسيقى وغناء، تبعًا لوزن الشعر، طويلة وكاملة وبسيطة ووافرة وخفيفة..."، ويضيف: "وأقبل الطلّاب على دروس الأدب واللغة والعروض يتمدّحون بها ويتشوّقون إليها، ويشجّعون معلّمهم الشابّ على نقل أفكار معلّمه السكاكيني ومبادئه إليهم"، و"رضيت عن نفسي حين أيقنتُ أنّهم أحبّوا اللغة وتذوّقوا أدبها، وتبيّنوا جمالها"، ويضيف: "وأصدرنا العدد الأوّل من «الرسالة»، الّذي حرّره معلّمو المدرسة وتلاميذها، وتولّيت عرافة ’المهرجانات‘ الرياضيّة والأدبيّة، الّتي كان أولياء الأمور يحضرونها، من البصّة ومن مواطن الطلّاب الداخليّين، والأصدقاء وسائر أبناء القرية وبناتها". وقد نُشِرَتْ الرسالة ضمن الكتاب الصادر عن العائلة بعد وفاته في يوم 26 تمّوز (يوليو) 2015.

 

صورة ما تبقّى من بيت الخوري – نافذة | تصوير جنان عبده. 

 

كانت مدرسة البصّة تستقطب طلّابًا ومدرّسين من بعيد؛ وهذا ما يدلّ على مكانتها وكبرها، وعلى موقع البصّة ذاتها، وعن الأجواء الوطنيّة وانعدام التمييز. ممّا جاء بقلم الأستاذ حنّا في رسالة أخرى كتبها في يوم 24 نيسان (أبريل) 1994، إلى البروفيسور الأمريكيّ يوسف أيّوب حدّاد - تلميذه البصّيّ سابقًا - "كانت «المدرسة الوطنيّة الأسقفيّة» في البصّة مكانًا مميّزًا، توافد إليه الطلّاب من حيفا وعكّا وصفد وجنين وطولكرم وطبريّا وقباطية، وبعض قرى الحدود اللبنانيّة؛ ليعيشوا في جوّ دافق بالمحبّة والتعاون والتعايش، لا مكان فيه للعنصريّة أو الطائفيّة أو الطبقيّة، ودرّس فيه معلّمون من كلّ أرجاء فلسطين، ومن جنوب لبنان".

وعن أجواء المدرسة، والإصدارات الأدبيّة في هذه الرسالة أيضًا: "كان أبناء تلك المدرسة يتبارون على امتداد السنة المدرسيّة، ويتسابقون، ويقيمون أعراس الرياضة والأدب، ويتميّزون بالمحبّة المتبادلة والاعتزاز بمدرستهم، ويحرصون على الكرامة وعلى النظافة بكلّ ما تعنيه... ويصدرون نشرتين فصليّتين، واحدة منهما بالعربيّة سمّوها «رسالة الكلّيّة»، وشرّفوني فعهدوا إليّ رعايتها والإشراف عليها لغة ومضمونًا وهدفًا. والأخرى بالإنجليزيّة يشرف عليها ويرعاها معلّم اللغة الإنجليزيّة الأستاذ إبراهيم بركات، اللبنانيّ".

 

الحجر

بالرغم من ادّعاءات بلديّة «شولمي» أنّ بيت عائلة الخوري سقط بنفسه، إلّا أنّ عمليّة الحفر القريبة، وتسوية الأرض، وتجريف المباني الأخرى وهدمها ومنع ترميمها، من قِبَل أهل البصّة، تدلّ على أنّ الأرض مرّت بعمليّة أدّت إلى خلخلة أساسات المباني الممنوع ترميمها، وأنّ الاحتمال الأكبر أن تكون هي السبب الرئيسيّ لسقوط بيت عائلة الخوري، ولتصدّع جدران الكنيسة وسقوط قطع من سقفها.

كان من الممكن لـ «كنيسة الروم» في البصّة، الّتي رسمتها قبل سنة تقريبًا، أن تسقط هي أيضًا إن لم يجرِ صيانتها وتدعيمها، وإن سقطت فلن تكون سقطت بفعل الطبيعة ومرور الزمن، بل بفعل الاستعمار وتشويه المكان وتهويده، حيث تحوّل كلّ ما حول هذه القطعة المتبقّية من البصّة إلى منطقة صناعيّة قذرة، تشتمّ رائحة عفونة وقاذورات منطلقة للجوّ.

 

كنيسة البصّة من الخلف حيث آثار التشقّق | تصوير: جنان عبده. 

 

المفارقة الإضافيّة كانت أنّ قوّة شرطة كانت قد حضرت إلى المكان ووقفت تراقب ما يحدث. في نهاية الجولة، بعد أن تفرّق جميع الحضور تقريبًا، وبقي عدد قليل منهم، اقترب شرطيّ من أحدهم وقد كان حمل حجرًا من أكوام الردم من البيت المهدوم، ووضعه في سيّارته. بدأ الشرطيّ بالتحقيق معه، وطلب منه إخراج الحجر من سيّارته. اقتربنا منه في محاولة فهم ما يحدث، حاول الشرطيّ منعنا. عرّفت نفسي بكوني محامية، وطلبت أن أعرف سبب التحقيق مع الشخص والتهمة الّتي يحاول أن يلصقها به، وأخبرت الرجل أنّه لم يقم بأيّ جرم، وإذا احتاج إلى مساعدة فليطلب. حاول الشرطيّ بفظاظة منعي من الاقتراب والتدخّل وتعريف الشخص بحقوقه، فأخبرت الشرطيّ أنّ للشخص حقًّا في المعرفة لأيّ سبب يعوقه، وإن كان متّهَمًا بشيء ما.

تحدّث الشرطيّ إليّ بالعبريّة، رغم أنّ شارة الاسم تدلّ على أصوله العربيّة. طلبت منه التحدّث بالعربيّة، وتحدّثت إليه بالعربيّة. حاول الشرطيّ المماطلة، وفهمت من الشرطيّ الآخر الّذي اقترب منّا أنّ الحديث يدور عن "سرقة الآثار وبقايا البيوت"، فقلت له بما معناه إنّ هذا بيت وليس آثارًا، وليست حفريّات في العمق، والرجل لم يكن يحفر في الأرض ليبحث عن آثار، بل هو يحمل دليلًا على آثار جريمة الهدم الواضحة الّتي لم تحاول الشرطة أن تمنعها، بل تحاول التضييق على هذا الرجل دون سبب. قلت للشرطيّ إنّ الجريمة هي ما حدث للبلدة من تهجير وهدم، والجريمة هي هدم بقايا البيوت، وتحويلها إلى مصفّ سيّارات، وليس الحفاظ على حجر من بيوت البيت.

تلقّى أفراد الشرطة استدعاء لحادثة عاجلة أخرى؛ دهس فيها أحدهم شرطيًّا؛ فسارعوا بترك المكان. تركنا البصّة وعلامات الدهشة والغضب والحزن مجتمعة. تساءلت كم بالإمكان التمادي بالقهر والعنف والتشويه والاستعمار. ما حدث هناك كان دليلًا واضحًا كيف تعمل أدوات القمع والقهر، كان دليلًا على نكبتنا المستمرّة. 

 

منظر المكان اليوم بعد تحويله إلى ساحة مصفّ سيّارات | تصوير: جنان عبده. 

 

حين عُدت للبيت لم أحاول هذه المرّة، كما أفعل بالعادة حين أرسم، أن أبني البيت من بقاياه، بل ألصقت صورة النافذة الوحيدة المتبقّية من بيت عائلة الخوري في مكانها الأصليّ، على صورة البيت الكاملة الّتي لم تعد موجودة.

لربّما سيحاول أحد آخر أن يرسم هذا البيت، من خلال استكماله عبر زيادة البيت لصورة النافذة - ما تبقّى منه - لكنّ المفارقة أنّ صورة البيت السابقة الّتي يظهر فيها بيت عائلة الخوري كاملًا جميلًا بأقواسه وطابقيه الاثنين، ما زالت موجودة رغم أنّ البيت لم يَعُدْ موجودًا.

 


 

جنان عبده

 

 

 

محامية وفنّانة تشكيليّة، من سكّان حيفا. ساهمت في تأسيس عدد من الأطر الأهليّة، ولها إسهامات بحثيّة. صدر لها كتاب «الجمعيّات النسائيّة والنسويّة الفلسطينيّة في مناطق 48» عن «مدى الكرمل». تنشط وتكتب عن قضايا الأسرى والمرأة.