’الحسّون‘ يغنّي في زروب عكّا القديمة

من مدينة عكّا المحتلّة | Getty

 

كان يومًا صيفيًّا لطيفًا جدًّا، عرّجت إلى مدينة عكّا بطريق عودتي من الشمال إلى مدينة حيفا. توجّهت إلى مدينة ’الأسوار القديمة‘، اخترت الجلوس في مطعم «أبو خريستو» قبالة البحر. راودني هواء الشاطئ، أعطيت نفسي لنسيم البحر. أحضر النادل لي فنجانًا من القهوة. بينما كنت أراقب تلاعب نور الشمس على سطح مياه البحر، الّتي تشبه حبّات اللؤلؤ.

بدأ نور اليوم يتساقط، قرّرت أن أعود إلى حيفا، قبل أن يُقْبِل المساء. سرت في نفس الطريق الّتي جئت منها، بلحظة معيّنة سلكت طريقًا أخرى، هدتني إليها قدماي. دخلت إلى زرب من زروب المدينة، لم أبتعد كثيرًا؛ إذ صادفني منظر أعجبني وأثار فضولي؛ عبارة عن أحذية متنوّعة ومختلفة ألوانًا وأحجامًا معلّقة على طول الجدار المؤدّي إلى «سباط الإفرنج»، زُرِعَتْ فيها نباتات خضراء جميلة؛ من حبق ونعنع ومرقدوش وشتل من البندورة المثمرة ونباتات أخرى. بالإضافة إلى الأحذية، لاحظت أيضًا لوحة على الجدار، عبارة عن رغيف خبز عربيّ حقيقيّ يتوسّطه رأس بصل، ولوحات أخرى لوجوه بدون ملامح، وعدد من أيادٍ مبتورة ممتدّة كانت لدمًى بلاستيكيّة كبيرة الحجم، وحقائب نسائيّة وطناجر وقنانيّ تزيّنها النباتات والزهور.  

 

رغيف خبز | تصوير: روضة غنايم.

 

استوقفتني هذه الأعمال. أحببت الفكرة، ونسيت عودتي المبكّرة إلى حيفا. بيني ونفسي قلت: لا بدّ لمَنْ صنعها من فلسفة ونظرة حياتيّة خاصّة. في بدء الأمر، اعتقدت أنّ هذه الأعمال لفنّان معروف أعرفه من عكّا؛ إذ ذكّرتني هذه الأحذية بعدد من القصص الّتي تمحورت حولها؛ فمثلًا قصّة حذاء سندريلا وزواجها من الأمير، وقصّة التاجر أبو قاسم الطنبوري مع حذائه المرقّع الّذي أصبح مع الزمن يتشاءم منه.

اقتربت من الجداريّة أكثر، أمعنت النظر في كلّ لوحة ولوحة، شعرت بأنّ اللوحات تريد أن تحدّثني وكأنّها تنتظر شخصًا ما. وبدأت أتخيّل القصص والحكايات الكامنة في الأحذية. ثمّة كندرة نسائيّة حمراء تعيش في داخلها نبتة، فتخيّلت امرأة جميلة كانت تنتعلها واسمها ساندرا، وعمر الكندرة عشرة أعوام، وقد شاركت صاحبتها الحفلات الراقصة والأعراس. وذات يوم، عادتا من حفلة ليليّة صاخبة، وفي الطريق كُسِر كعب الكندرة؛ فقرّرت ساندرا تركها في الشارع والصعود إلى بيتها دونها. تساءلتْ: بالنسبة إلىساندرا، لا بأس، يأتي غدًا، وتشتري لها كندرة جديدة. وفي نفس الوقت تعاطفت مع الكندرة الّتي تركت وحيدة مكسورة الخاطر في الشارع. ما أثار فضولي أكثر هو كيف وصلت إلى هذا المكان.

 

الكندرة الحمراء | تصوير: روضة غنايم.

 

وثمّة قصّة أخرى قصّها عليّ الحذاء الرياضيّ، وقال: أنا اسمي سندباد، سنّي عامان، سافرت الهند والسند، كنت سعيدًا على الرغم من التعب والمشقّة الّتي واجهتني في أسفاري. في أحد أيّام الربيع،  كنت مع صاحبي يزن في «معهد اللياقة البدنيّة»، وفي حديث دار بينه وبين مدرّبه عرف منه عن نوعيّة أحذية رياضيّة جديدة، أفضل منّي، للأسف عندما عاد إلى البيت ألقى بي من النافذة إلى حاوية النفايات، ولحسن حظّي وقعت أرضًا. وبعد أن أنهى قصّته سألته: لطفًا، مَنْ أحضرك أنت ورفاقك إلى هنا؟ فأجاب: أكملي سيرك، ستجدينه داخل الخان جالسًا في آخره.

 

لوحات البلبل 

أكملت سيري، تارة أتأمّل الجداريّة وتارة ألتقط الصور، وعندما وصلت نهاية الخان التفتُّ يمينًا. رأيت زاوية جميلة نظيفة مرتّبة والخضار يلفّها، وثمّة رجل يقف في داخلها، ألقيت عليه التحيّة، وسألته: مَنْ صنع هذه التحف الفنّيّة الباهرة؟ ابتسم، وتفتّحت أسارير وجهه، تفضّلي اجلسي هنا لأحضر إليكِ عصيرًا من البرتقال الطازج، وبعدها أقصّ عليك. أجابني. أفهم أنّك أنت صاحب الفكرة؟ قلت. هزّ رأسه مبتسمًا: دعيني أحضر العصير ونتحدّث. قلت في سرّي: حسنًا، إذن، هذا هو ’البلبل‘.

بداية، أخبرني عن المكان، وماذا كان هنا؟ قلت له. أخبرني أنّه كان هنا سبيل ماء للشرب والوضوء، وبُنِي في الفترة العثمانيّة، وكان السبيل مهملًا ومليئًا بالنفايات، ويخرج منه روائح كريهة سنوات عديدة. وفي صباح أحد الأيّام، في عام 2013، نهض باكرًا، ونزل من البيت إلى سبيل الماء الّذي يقع تحت بيته في الخان، قرّر تنظيف السبيل والمكان من هذه النفايات والروائح المقيتة، فأخرج منه أطنانًا من الأوساخ الّتي تكدّست على مرّ السنوات. وبعد تنظيفه بدأ بجمع الأغراض، وكلّ مَنْ عرف عن الفكرة بدأ يحضر له أغراضًا قد بدت له قديمة، ويريد التخلّص منها، رويدًا رويدًا أحيا هذا المكان من الرماد. استهواه تطوير شيء مِنْ لا شيء؛ ليصبح جميلًا ولافتًا للأنظار، وهذا الأمر يسعده لأنّه جلب إليه وإلى المارّين من هنا والزائرين الفرح والشعور بالراحة النفسيّة. هذا ما حصل معي تمامًا.

كان في حديثه شغف وحسّ إنسانيّ وانتماء وطنيّ كبير. أصغيت له بتمعّن وتمتّع عندما حدّثني عن الأعمال المعلّقة على جداريّة الخان. استهلّ حديثه قائلًا: "استوحيت فكرة الزراعة في الأحذية بعد أن رأيت أنّ الحذاء نرميه ونستغني عنه بسهولة، بعد أن مشينا فيه أميالًا، وله فضل علينا؛ إذ حمى أقدامنا من حرارة الصيف وبرد الشتاء. ولا نستطيع الخروج من بيوتنا بدونه؛ لذلك جمعتها قبل أن تُرْمى بلا عودة، وحاولت إحياءها بزرع النبات فيها، وهكذا يصبح الحذاء مأوًى لحياة جديدة؛ أي النبات. وبذلك؛ يكوّنان علاقة تبادليّة مستدامة". "يا لها من فكرة رائعة حقًّا"، قلت.

وبعدها، رافقني في جولة بين الأعمال، شارحًا لي المغزى من كلّ عمل وعمل.

«رغيف الخبز»؛ "يرمز هذا العمل إلى القناعة والعيش الهنيء. أعطِني خبزة وبصلة وصحّة جيّدة أعيش كما يعيش الملوك. المال لا يجلب السعادة. يوجد ناس راضية بقليلها ومبسوطة، وناس يوجد معها مال وتعيسة ومهمومة".

«اليد المبتورة الممتدّة»؛ "بُتِرَت اليد نتيجة حروبات كانت وما زالت مشتعلة. يرمز العمل إلى الأرض والحياة، فمهما أبعدتني أو أقصيتني عنهما فسوف أمدّ يدي لأتناولها. وهذه الناس الّتي بُتِرَت أياديها وأقدامها، أو تشرّدت، تشتاق إلى أن تعيش بكرامة في وطنها؛ لأنّه إن لم يوجد وطن فلا توجد حياة. وسأبقى أحاول وأبذل كلّ ما بوسعي لأصل إلى الحرّيّة والنور رغم الجراح؛ لأنّني أستحقّ أن أعيش".  

 

اليد المبتورة الممتدّة | تصوير: روضة غنايم.

 

«القبقاب الأسود»؛ "كان لي صديق حدّثني أنّه أحضر حذاءه من عند الإسكافيّ. فصّل له حذاء طبّيًّا جديدًا حفاظًا على صحّة قدميه. قلت له ساخرًا: "مبارك، البني آدمين تذهب، وأمّا الأغراض فتبقى". بعد يومين، سمعت نعي صديقي قادمًا من الجامع، وقد توفّي بنوبة قلبيّة مفاجئة، وهكذا بقي القبقاب، بعد انتهاء فترة الأجر طلبت القبقاب من ابنه، وزرعت فيه، وعلّقته على الحائط، ذهب صديقي وبقي أثره".  

 

القبقاب الأسود | تصوير: روضة غنايم.

 

«وجوه بدون ملامح»؛ "الوجوه غير معروفة، جعلتها بدون ملامح أو تفاصيل؛ لأنّ وجوه البشر بدون التفاصيل متشابهة، وبهذه الوجوه أرمز إلى عدم الإصغاء، الكلّ يصرخ، الكلّ يتحدّث، ولا أحد يفهم على أحد، والكلّ مضغوط وحالات اكتئاب كثيرة، والبشر يسابقون الزمن".

 

محمّد حسّون

اسمه محمّد خليل يوسف دوبان، المعروف بـ ’محمّد حسّون‘ أو ’البلبل‘. وُلِدَ في مدينة عكّا بتاريخ 14 شباط (فبراير) 1954، ويعود أصل عائلته من طيرة حيفا[1]. وعن اسم ’حسّون‘ الّذي أصبح يحمل اسم العائلة الّتي ينتمي إليها، عرفت منه أنّ ’حسّون‘ هو لقب، ولكنّه أصبح اسم العائلة المتداول. في الماضي، ما قبل نكبة عام 1948، كان عمّه شقيق والده يعيش في الطيرة، وفي فترة الاستعمار البريطانيّ على فلسطين كان يرتاد مقاهي مدينة حيفا، وعندما كان مزاجه رائقًا كان يغنّي، وكان روّاد المقهى يطربون له، وكانوا يقولون له إنّ صوته جميل، ويشبه صوت الحسّون؛ وهكذا أُطْلِق عليه لقب ’الحسّون‘ لجمال صوته.

أمّا لقب ’البلبل‘ فعرفت منه كيف أُطْلِق عليه، منذ أن كان في جيل سبعة أعوام حتّى بداية جيل العشرين، كان يُحْضِر فراخ البلبل، ويعتني بها ويربّيها، وكان يعرف ترويضها فتنشأ بينهما علاقة جميلة. أَحَبّ الحسّون هذا الطائر؛ لأنّ صوته جميل، وابن البلاد لا يهاجر؛ فهو طائر عربيّ فلسطينيّ، وطائر ذكيّ جدًّا كما يصفه. على سبيل المثال: إذا جاء حيوان مفترس بالقرب من عشّه ينتقل فورًا إلى شجرة أخرى، ويبدأ بالتغريد والتصفير لكي ينتقل الحيوان عنده؛ أي هي عمليّة تمويه تدلّ على ذكاء البلبل.

ذات يوم، جرت مع محمّد حسّون حادثة جعلته يترك تربية البلابل، أخبرني أنّ في أحد الأيّام زارهم أقرباء، وعندما شاهدوا البلبل كيف يطير بحرّيّة في البيت، أرادت إحدى الزائرات الإمساك به، وسفقت يدها عليه، لكن للأسف أردته قتيلًا.

 

محمّد خليل يوسف دوبان ’محمّد حسّون‘، أمام جداريّة وجوه بدون ملامح | تصوير: روضة غنايم.

 

أطال الوقت، وكان عليّ أن أعود إلى حيفا، لكن قبل مغادرتي أشار إلى عمل آخر هو حقيبة سفر، وبجانبها عكّاز، وأخبرني أنّ رجلًا عجوزًا كان يجلس هنا، أتاه رجل غريب وقال له: "هل تسمح أن تأتي معي لحظة؟"، فذهب معه وترك أغراضه، حتّى هذه اللحظة لم يعد، وهي لحظة، وفي لحظة راحت الأوطان وفلسطين، وجاءت لحظات كثيرة وأغراض الرجل ما زالت بالانتظار، وهذا مثل الشعب الّذي ينتظر العودة والحرّيّة.

بعد هذا المشهد، ودّعته شاكرة. وفي سفري من عكّا إلى حيفا فكّرت بهذا اللقاء الخاصّ، وكيف يُسَيِّرُ القدر أحيانًا طرقاتنا الّتي أوصلتنا إلى هذا المكان الخاصّ لأصادف الجداريّة، وأتعرّف على صاحب الفكرة، ولغته المباشرة الّتي تدلّ على لغة ابن البلد العكّاويّ الأصيل. هي لغة الطبيعة الّتي خاطبني بها؛ فأذناه تطربان لموسيقى خرخشة أوراق الشجر الساقطة في الخريف، ولقلبات موجات البحر، حين توشوشه بأسراره يطرب لها كأنّه يستمع لسيمفونيّة رائعة؛ فهو صاحب الأفكار الوطنيّة ذات العبر الكبيرة. أستخلص ممّا عبّر عنه أنّ الوطن نُهِب، وما زال يُنْهَب بشكل تدريجيّ؛ من مصادرة أراضٍ وتضييق؛ إذ لم يتبقَّ لنا أين نزرع، سنزرع بكلّ شيء، ولا أحد يمنعنا من استمراريّة الحياة، سنزرع حتّى داخل الأحذية إذا اقتضى الأمر.

 


إحالات

[1] طيرة حيفا، وتُسَمّى أيضًا طيرة اللوز أو طيرة الكرمل، قرية فلسطينيّة هُجِّر أهاليها واحتُلَّت في عام 1948، تقع جنوب مدينة حيفا على خطّ السهل الساحليّ.

 


 

روضة غنايم

 

 

 

باحثة في التاريخ الاجتماعيّ وكاتبة مقالات، من سكّان مدينة حيفا. صدر لها كتاب «حيفا في الذاكرة الشفويّة، أحياء وبيوت وناس»، عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات» في عام 2022.