فوكو في ’تايمز سكوير‘... أجساد تراقب نفسها بنفسها

تايمر سكوير في نيويورك | Getty.

 

يفتتح المفكّر الفرنسيّ ميشيل فوكو (1926-1984) كتابه «المراقَبة والمعاقَبة: ولادة السجن» (1957) بمشهد تعذيب مفصَّل ودمويّ، لرجل فرنسيّ يُدْعى روبرت فرانسوا داميينز في عام 1757، بتهمة محاولة اغتيال الملك لويس الخامس عشر (1710-1774). وقع التعذيب وما تلاه من إعدام وتنكيل بالجثّة في ساحة عامّة على رؤوس الأشهاد؛ حشد كبير من الناس يراقب جسد داميينز في مركز الساحة، وهو يتمزّق أمام أعينهم في مشهد يحتفي بانتقامِ الملك برمزيّته وأذرعه ومؤسّساته، وفرض سلطته على جسد مَنْ حاول المساس به.

في المشهد الّذي يلي مشهد الإعدام الوحشيّ، ينتقل فوكو إلى عام 1838، ويورد فيه جدولًا زمنيًّا لحياة المحكومين داخل «سجن الأحداث في باريس»، كما دوّنه رجل السياسة والاقتصاد الفرنسيّ، ليو فوشيه (1803-1854). نرى في الجدول الزمنيّ تفاصيل حياة السجناء، ابتداء بساعة نهوضهم صباحًا على صوت الطبول، مرورًا بأوقات الصلاة، والعمل، والأكل، والدراسة، بين أشياء أخرى، ووصولًا إلى الصلاة المسائيّة، وإغلاق الزنازين، وتأكّد المشرفين في السجن من التزام السجناء بالهدوء والانضباط.

بعد عرض المشهدين بتفاصيلهما، يعرض فوكو بصورة مباشرة فكرة اختفاء العقاب العلنيّ للجسد بوصفه حدثًا مشهديًّا دمويًّا مطلع القرن التاسع عشر، وصعود السجن جزءًا من آليّة السلطة في التحكّم بروح السجين، من خلال السيطرة لا على الجسد مباشرة بل على تفاصيل حياة ذلك الجسد اليوميّة، وفرض سلطة المؤسّسة الحاكمة عليها، وإعادة صياغتها وتعريفها.

يدّعي فوكو أنّ فكرة البانوبتيكون تسرّبت إلى خارج السجن وخارج المنظومة القضائيّة كلّها لتدخل في إطار المؤسّسات الّتي تنطوي على جانب تأديبيّ في عملها...

يتجلّى معنى التحكّم بروح السجين مقابل التحكّم بجسده، بحسب قراءة عالِم الاجتماع توماس ماثيسيِن لكتاب فوكو، في "خلق أشخاص يسيطرون على أنفسهم عبر ضبط أنفسهم بأنفسهم؛ ليتناسبوا تمامًا مع ما يُدْعى بالمجتمع الرأسماليّ الديمقراطيّ"[1]. بكلمات أخرى؛ ينتقل مفهوم العقاب من المسّ المباشر بجسد السجين عبر التعذيب العلنيّ، إلى المسّ بشخصه، أفكاره، دوافعه، أهدافه، وإعادة إنتاج تلك الروح لاستثمارها بما يعود بالفائدة على السلطة نفسها؛ ليتحوّل الجسد الأصليّ إلى ’جسد طيّع‘، بحسب تعبير فوكو، يمكن السيطرة عليه، وضبط سلوكه، ومعرفته، وتحسينه بما يخدم السلطة. في سبيل تحقيق ذلك، كان لا بدّ من تصميم سجن يمكن من خلاله إنتاج جسد طيّع، وهندسة سلوكيّات السجين وتصرّفاته فيه.

يعرض فوكو في كتابه تصميم سجن البانوبتيكون (Panopticon)، وهو تصميم كان اقترحه عالم القانون والفيلسوف الإنجليزيّ، جيريمي بنثام (1748-1832)، يضمّ مبنًى دائريًّا يتوسّطه برج مراقبة مركزيّ يكون محاطًا بزنازين انفراديّة تفصل السجناء عن بعضهم بعضًا. يمكث داخل البرج، نظريًّا، مراقب من السجن، يستطيع رؤية كلّ واحد من السجناء من غير أن يراه أحد منهم، ويدخل المراقب إلى البرج من خارج المبنى بعيدًا عن أعين السجناء. بهذه الطريقة، يكون المراقب موجودًا أو غير موجود في كلّ لحظة[2]. وعليه؛ تكون فكرة احتمالِ وجود المراقِب وحدها، كافية لتُلْزم السجناء، نظريًّا، بالسلوك حسب ما هو متوقّع منهم، من حيث الانضباط والهدوء والسلوك.

يدّعي فوكو أنّ فكرة البانوبتيكون تسرّبت إلى خارج السجن وخارج المنظومة القضائيّة كلّها لتدخل في إطار المؤسّسات الّتي تنطوي على جانب تأديبيّ في عملها، مثل المدارس والمستشفيات والمصانع، وحتّى المؤسّسات العسكريّة وغيرها، لتتبع بذلك المبدأ نفسه: مجموعة قليلة تراقب مجموعة كبيرة، وتفرض عليها سلوكيّاتها وانضباطها داخل بنيتها[3]؛ فينتج عن ذلك تصوّر نموذجيّ للطالب، والمعلّم، والسجين، والوزير، والعسكريّ، في خيال الناس. كلٌّ منهم يتصرّف بموجب الصورة النموذجيّة الّتي صنعتها منظومة المراقبة داخل البنية الّتي أنتجت تلك الفئات المجتمعيّة. مع تطوّر التكنولوجيا، أصبح الأمر أكثر سهولة بدخول كاميرات المراقبة إلى البنايات والغرف والشوارع، فاتّسعت بذلك رقعة الأجساد الطيّعة الخاضعة لسلطة المراقبة.

لكنّ الّذي غاب عن توجّه فوكو حول مأسسة البانوبتيّة في المجتمع، حسب محاججة ماثيسيِن، هو صعود وسائل الإعلام وتطوّرها، مثل الجرائد والسينما والتلفزيون والإنترنت، لاحقًا[4]، كأدوات مراقِبة – بخلاف البانوبتيكون – تخضع فيها القلّة لمراقبة الكثرة، وتتصرّف تلك القلّة بحسب توقّع الكثرة منها، مثل تصوير مؤتمر لرئيسة وزراء، أو إجراء مقابلة مع نجم سينمائيّ؛ كلاهما يتصرّف بموجب بروتوكول ضمنيّ يأخذ بعين الاعتبار تصوّر الجمهور عن ذلك الشخص؛ فتتصرّف رئيسة الوزراء بموجب الصورة الّتي يتوقّعها الجمهور، ويختار النجم السينمائيّ مفرداته على نحو يناسب صورته لدى معجبيه.

 

نموذج للبانوبتيكون الفرنسيّ | مصدر: Romain Veillon

 

اقترح ماثيسيِن مصطلحًا بديلًا يعبّر عن الحالة أعلاه، يُدْعى السينوبتيّة (Synapticism)، ويعرّفه بأنّه آليّة "تمثّل حالة ينصبّ فيها تركيز مجموعة كبيرة من الناس على شيء مشترك ومكثّف. بكلمات أخرى؛ يمكن وضع تلك الآليّة على النقيض من حالة تراقب فيها القلّة الكثرة. بهذا المعنى... نحن نعيش في مجتمع مُشاهد (Viewer Society)"[5]. يتوصّل ماثيسيِن، أخيرًا، إلى أنّ البانوبتيّة والسينوبتيّة تغذّيان بعضهما بعضًا في مجتمع من هذا النوع؛ فوجود الأولى يستلزم وجود الثانية، والعكس صحيح.

 

قلّة تراقب الكثرة، كثرة تراقب القلّة

في مركز ساحة «تايمز سكوير» بمدينة نيويورك، ينتصب على قاعدة تمثال حجريّ للقسّ الكاثوليكيّ والملحق الدينيّ العسكريّ، فرانسيس ب. دفي (1871-1932)، الّذي صعد نجمه ملحقًا دينيًّا عسكريًّا، بشكل خاصّ، في الحرب العالميّة الأولى. يتميّز التمثال بنظرة صارمة تعلو وجهه، وبلباس عسكريّ نموذجيّ، وبوقفة منتصبة جادّة تعطي انطباعًا بثبات الشخصيّة وعزيمتها في الشدائد. يشارك التمثالَ على القاعدة نفسها صليب ضخم نُقِشَت على ظهره تفاصيل من سيرة القسّ نفسه. تشمل تلك التفاصيل اسمه وألقابه الدينيّة والعسكريّة والأوسمة الّتي حازها، والحروب الّتي شارك فيها، والفرق العسكريّة الّتي خدم في صفوفها. وتتوسّط كلّ تلك التفاصيل عبارة بخطّ بارز: "حياة بُذِلت في خدمة الربّ والوطن".

يحيط بالتمثال، في ساعات الذروة، جمع كبير من الناس: محلّيّون وأجانب؛ يلتقطون لأنفسهم صورًا ومقاطع فيديو بِشَرَه كبير يزداد مع تقدّم الوقت ليلًا. يتوسّط هذا الجمع حلقة أوسع تشملهم والتمثال؛ تتألّف من لوحات مضيئة وشاشات رقميّة عالية الجودة، تعرض توليفة واسعة من الإعلانات بأجساد افتراضيّة متنوّعة، من ضمنها شاشة عملاقة خلف تمثال القسّ مباشرة، تطلب من الناس أن يرسلوا مقاطع فيديو قصيرة أو صورًا منوّعة تظهر فيها أجسامهم بسياقات مختلفة، وتُعْرَض على تلك اللوحة لثوانٍ معدودات أمام حشد الناس الكبير مقابل مبلغ ماليّ. تتخلّل الحلقات كلّها، كاميرات مراقبة تنتشر في الساحة، وفي المدينة كلّها. حلقة من صور لأجسام افتراضيّة، تحيط بحلقة من أجسام بشريّة يتوسّطها جسد حجريّ رمزيّ مع صليب ضخم، وكاميرات ترصد ذلك كلّه.

وقفتُ هناك واحدًا من مجموعة الأجساد البشريّة، متأمّلًا هذه المتاهة المتداخلة من الأجساد والصور والكاميرات، فاستدعى المشهد فكرة فوكو: السجن وامتداده إلى خارج المنظومة القضائيّة المباشرة، ودخوله حياة الناس في سياقات أخرى. لكن، بعد تأنٍّ، تبيّن لي أنّ المشهد هو المثال الممتاز على تمازج المراقَبتَين: مراقبة القلّة للكثرة والكثرة للقلّة في حيّز واحد يُسْتَثْمَر فيه الجسد بوصفه غرضًا اقتصاديًّا ضمن نظام رأسماليّ يفرض عليه نوعًا معيّنًا من السلوك.

تجدر الإشارة هنا، إلى أنّ هذا التمازج ليس حكرًا على «تايمز سكوير» في مدينة نيويورك، وإن كان يبرز فيها باعتبار المدينة حاضرة اقتصاديّة وثقافيّة تجمع الأضداد، في إطار رأسماليّ يصبح التركيز فيه على الجسد مكثّفًا على نحو يصعب تجاهله.

مراقبة القلّة للكثرة تتمثّل في حضور السلطة داخل الساحة بسيّارات وعناصر شرطيّة يراها الناس في الحيّز، وكاميرات أمنيّة يجلس خلفها أشخاص بعيدون عن أعين الناس...

أمّا مراقبة القلّة للكثرة فتتمثّل في حضور السلطة داخل الساحة بسيّارات وعناصر شرطيّة يراها الناس في الحيّز، وكاميرات أمنيّة يجلس خلفها أشخاص بعيدون عن أعين الناس، تعبّر عن صورة من صور البانوبتيّة في الحيّز العامّ؛ إذ يتصرّف الناس، نظريًّا، في وسط ذلك الحيّز، على نحو يلائم توقّع السلطة منهم: التقيّد بالقانون – السلوك على نحو لا يعرّض الناس أو أنفسهم لأذًى جسديّ أو نفسيّ، والالتزام بتعليمات القانون للحفاظ على حدّ أدنى من النظام، يتيح للسلطة فرض سيطرتها على المكان إذا استدعى الأمر ذلك.

إنّ التقيّد بسلوكيّات معيّنة تناسب توقّع الأشخاص الجالسين وراء الكاميرات، ووجود حرّاس يحرصون على الالتزام بتلك السلوكيّات داخل الحيّز، يُعْتَبَر صورة من صور المراقبة البانوبتيّة الّتي تسرّبت من داخل جدران السجن إلى الحياة العامّة، فساهمت في خلق مجتمع يتّبع نظامًا سجنيًّا (Carceral System) "يدمج في صورة واحدة خطابات وهندسات معماريّة كتلك الّتي في تايمز سكوير... وأنظمة تأديبيّة تصحّح حالات الجنوح وآليّات وتجمّدها"[6]. على أنّ هذا النظام السجنيّ ليس وحده ما يميّز هذه الساحة الرأسماليّة؛ فمراقبة القلّة للكثرة، كما سبقت الإشارة، ليست سوى جانب واحد من جوانب المراقبة.

 

إعدام معنويّ في ساحة عامّة

الجانب الآخر، مراقبة الكثرة للقلّة السينوبتيّة، يبدو أكثر تعقيدًا؛ فالكثرة لا تراقب أجسادًا مختلفة عنها فقط، كالأجساد الافتراضيّة الّتي تحيط بها والجسد الحجريّ في وسطها، بل إنّها تراقب نفسها بنفسها، وتساهم فعليًّا في خلق الأجساد الافتراضيّة حولها، بإرسال صورها أو مقاطع الفيديو الّتي تصوّرها إلى شاشة عملاقة يراها الناس ويتفاعلون معها. وبذلك، يفرض هذا الشكل من صياغة الصورة خيالًا ما عن نمط سلوكيّ يوافق تصوّر الناس وتوقّعاتهم في سياق رأسماليّ يستثمر الجسد لمنفعته أوّلًا. هنا، تبرز السلطة بصورتها السينوبتيّة. لكنّها لا تتوقّف هناك، بل تتغلّل أكثر في تفاصيل المشهد، وتمتزج مع المراقبة البانوبتيّة كما استنتج ماثيسيِن في مجتمع مُشاهد. لعلّ تمثال القسّ-الجنديّ ذي الملامح الجادّة والوقفة الصلبة خير مثال عن ذلك الدمج بين نوعَي المراقبة.

لم يكن من الغريب بمكان أن يفتتح فوكو فصله عن الأجساد الطيّعة بنشوء وتطوّر صورة الجنديّ، وصناعتها في خيال الناس؛ فالمؤسّسة المراقِبة تنتج صورة الجنديّ بفرض أنماط سلوكيّة معيّنة، حتّى إذا خرجت تلك الصورة إلى الحيّز العامّ، وسكنت خيال الناس، صنع خيال الكثرة تمثالًا يلائم صورة الجنديّ النموذجيّ الّتي يعرفونها؛ فتتبنّى الكثرة المراقِبة الصورة الّتي أنتجها نظام القلّة المراقِبة، وتصبح تلك الصورة مثالًا أعلى لما يتعيّن على الجنديّ أن يكونه: شخصًا ببنية قويّة، وملامح صارمة، يتّبع ملّة قومه بصليب ضخم يذود عنه، ويقاتل في سبيل الربّ والوطن، فتحتفي به الكثرة، وتقيس عليه معاني الشجاعة والبطولة.

لكنّ المفارقة أنّ التمثال، بكلّ معانيه، يتوسّط مساحة لا يعيره فيها أحد ذلك الاهتمام بكلّ تلك المعاني السامية. كان مشهد التمثال غريبًا وسط الشاشات، والناس الثملة، والموسيقى الصاخبة، وكان أقصى اهتمام شهدتُه هناك يتمثّل في أخذ صورة سيلفي مع التمثال، ما تلبث أن تغيب بين آلاف الصور الأخرى في الهاتف النقّال.

كان ذلك، على نحو ما، شكلًا من أشكال الإعدام المعنويّ في ساحة عامّة لما يمثّله الجنديّ الحجريّ، أحالني إلى مشهد الإعدام العلنيّ الّذي افتتح به فوكو كتابه مع اختلاف الجسديّ، وما يدعوه فوكو بـ ’الروحيّ‘.

 

السيطرة على الروح

إنّ اختصار الجسد في صورة رقميّة، سواء كان على شاشة عملاقة أو داخل هاتف نقّال، يعبّر عن تسلّط مراقبة الكثرة وإنشاء سجون رقميّة تتجاوز البانوبتيكون الّذي ابتدعه بينثام؛ بل هي طريقة رقميّة للإعدام العلَنيّ الّذي لا يكترث أحد به.

أثناء مراقبتي للتمثال، سمعت صوت رجل متسوّل قريبًا من الموقع الّذي كنت أقف فيه، تعلو وجهه تعابير تجمع بين الحزن والأسى. كان يصرخ بطريقة دراميّة: "ساعدوني، أرجوكم!" ويعيد تلك الجملة بصوت أعلى المرّة تلو الأخرى. لم أعرف ما إذا كان الرجل متسوّلًا حقًّا أو ممثّلًا دراميًّا يختبر ردّ فعل الناس في الساحة. بعد دقائق معدودات، مرّ رجل بكاميراته، ووقف قبالة المتسوّل. نظر إليه لثوان، ثمّ رفع كاميراته إلى وجه المتسوّل حتّى كادت عدستها تلامسه. استمرّ المتسوّل في صراخه: "ساعدوني، أرجوكم!" دون أن يعير رجل الكاميرا أيّ اهتمام.

هذا التمازج بين سلطة القلّة في مراقبة الكثرة، وسلطة الكثرة في مراقبة القلّة (...) ويُبرز مجتمعًا مراقِبًا ومراقَبًا تتحرّك السلطة بين قطبَيه، وتعيد إنتاج نفسها بأدواتها...

التقط الرجل صورًا عديدة للمتسوِّل عن قرب، ثمّ تابع طريقه لتصيّد مشهد مثير آخر. لم يختلف المتسوّل عن الجنديّ تحت سلطة الكاميرا: أداة الكثرة في مراقبة القلّة والقلّة في مراقبة الكثرة. نجحت الكاميرا في التقاط (Capture) روح المتسوِّل داخلها، ووضع صورته بين آلاف الصور الأخرى كزنازين منفردة يراها شخص واحد ويمنحها أسماءها، ويغيّر ألوانها، ويخلق لها سياقاتها، ويشاركها مع عدد أكبر من الناس، تعود عليه بالفائدة الّتي قد تكون معنويّة أو مادّيّة. لم ينتهِ عهد الإعدام العلنيّ، ولكنّه اتّخذ أشكالًا أخرى تدعم ادّعاء فوكو، في الانتقال من السيطرة على الجسد إلى السيطرة على الروح.

إنّ هذا التمازج بين سلطة القلّة في مراقبة الكثرة، وسلطة الكثرة في مراقبة القلّة، يجمع بين فوكو وماثيسيِن، ويُبرز مجتمعًا مراقِبًا ومراقَبًا تتحرّك السلطة بين قطبَيه، وتعيد إنتاج نفسها بأدواتها، فتخلق أشخاصًا، على حدّ تعبير ماثيسيِن، يسيطرون على أنفسهم بأنفسهم ليتناسبوا تمامًا مع مجتمع رأسماليّ يخلقهم ليستثمرهم بما يعود بالفائدة على السلطة الّتي صنعتهم أوّل الأمر.

 


إحالات

[1] Thomas J. Mathiesen, “The Viewer Society.” Theoretical Criminology, vol. 1, no. 2, SAGE Publishing, May 1997, pp. 215–34.

[2] Jeremy Bentham, “The Panopticon: Readings in Rehabilitation.” Offenders or Citizens?, edited by Philip Priestley and Maurice Vanstone, (Routledge, 2012), pp. 40–44.

[3] Michel Foucault, Discipline and Punish: The Birth of the Prison, (Vintage, 1995) pp. 216.

[4] عندما صدر مقال ماثيسيِن سنوات التسعين، لم يكن تأثير الإنترنت طاغيًا كما سيصبح لاحقًا. لذا؛ كان تطرّق ماثيسين إليه محدودًا. من هنا، كتب آرون دويل من جامعة كارلتون مقالًا في عام 2011 عنوانه: Revisiting the synopticon: Reconsidering Mathiesen’s ‘The Viewer Society’ in the age of Web 2.0، ينقد فيه رؤية ماثيسيِن ويستكمل ما قصّر عنه في جزئيّة الإنترنت.

[5] “The Viewer Society.” pp. 219.

[6] Discipline and Punish, pp. 217.

 


 

إياد معلوف

 

 

 

محاضر ومترجم مستقلّ من فلسطين، حاصل على ماجستير الأدب الإنجليزيّ من «جامعة حيفا»، وطالب دكتوراه في الأدب المقارَن في «جامعة تل أبيب».