غزّة ترفض عذابها... مَنْ يحاصر مَنْ؟

مفاتيح العودة | FLICKR

 

يُعَدّ نظام الحصار والعزل من الإستراتيجيّات المعتمدة لدى الاستعمار الإسرائيليّ، منذ بواكير العمل الصهيونيّ العسكريّ الترهيبيّ على أرض فلسطين، مرورًا بإعلان الصهيونيّة دولتها، إسرائيل، على أنقاض العمران البشريّ والحضريّ الفلسطينيّ. لقد استخدم الاستعمار هذه الإستراتيجيّة من خلال قطع أوصال المناطق المحتلّة عام 1948، والمناطق المحتلّة عام 1967، وانتقاله لاحقًا إلى المرحلة الأكثر تعقيدًا وكثافةً في محاصرة الفلسطينيّ وعزله في جغرافيّته، وتقطيعها عبر الطرق الالتفافيّة والعموميّة، والحدائق، وغيرها من التشكيلات الهندسيّة بين القرى والمدن الناجية من تهجير النكبة. ومن أهمّ حوادث العزل والإقصاء في تاريخ فلسطين، حصار قطاع غزّة منذ عام 2006، الّذي يسكنه اليوم أكثر من 2.23 مليون نسمة[1]، بذريعة عمليّة أسر الجنديّ جلعاد شاليط[2] على يد «حركة المقاومة الإسلاميّة – حماس».

 

«حماس»... نحو الحركة الوطنيّة

بعد فوز «حماس» في الانتخابات الفلسطينيّة وحصولها على غالبيّة مقاعد المجلس التشريعيّ والحكوميّ، باشرت بعملها حركةَ مقاومة منخرطة في السياسة الفلسطينيّة، وفي ظلّ عدم توافقها مع «حركة التحرير الوطنيّ الفلسطينيّ - فتح»، وبعد رفض الحركة لقرارات الرباعيّة الدوليّة "نبذ العنف، والاعتراف بإسرائيل، واحترام الاتّفاقيّات المنعقدة بين السلطة الفلسطينيّة وإسرائيل"، زادت حدّة المأزق السياسيّ الداخليّ بين الحركتين، ممّا أدّى في النهاية إلى عودة قادة «حماس» إلى غزّة، مع بسط سيطرتها عليها، وحلّ «السلطة الفلسطينيّة» لحكومة الوحدة الوطنيّة في الضفّة الغربيّة.

دخلت «حماس» في مفاوضات مع الاستعمار الإسرائيليّ في ملفّ الأسير جلعاد شاليط المختطف، بعد أن كان الاستعمار قد سحب مستوطنيه من أراضٍ داخل قطاع غزّة، في المنطقة المسمّاة إسرائيليًّا «غوش قطيف»، إضافة إلى أربع مستوطنات في شمال الضفّة، على إثر قانون الانسحاب المعروف بـ «فكّ الارتباط»، الّذي نتج عن معركة «أيّام الغضب» الّتي خاضتها «حماس» مع إسرائيل في عام 2004[3]، واتّبعت إسرائيل في هذه المرحلة سياسة العزل والحصار في مختلف أنجاء الجغرافيا الفلسطينيّة.

هل اعتادت الحركات الفلسطينيّة المقاومة، وتحديدًا حركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلاميّ» على هذه العزلة، ما يجعل أولويّاتها ترتيب شؤونها ضمن هذا النطاق الجيوسياسيّ المحاصر والمعزول؟

 

نطرح السؤال: هل اعتاد المجتمع الفلسطينيّ في قطاع غزّة على حياة العزلة، بعد أكثر من ستّ عشرة سنة من الحصار؟ وهل اعتادت الحركات الفلسطينيّة المقاومة، وتحديدًا حركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلاميّ» على هذه العزلة، ما يجعل أولويّاتها ترتيب شؤونها ضمن هذا النطاق الجيوسياسيّ المحاصر والمعزول؟ وكيف تعاملت حركات المقاومة مع هذه الحالة كسرًا لها؟

إنّ لحركة «حماس» تاريخًا طويلًا من مواجهة التحدّيات، بداية من طرح ميثاقها الدعويّ الإسلاميّ، الّذي لم يلاقِ حاضنة شعبيّة فلسطينيّة في حينه؛ ما دفعها أكثر فأكثر نحو العمل الخدماتيّ الاجتماعيّ، ومن ضمن ذلك تقديم خدمات الصحّة والتعليم بشكل منظّم وذي جودة عالية نسبيًّا للمجتمع الفلسطينيّ، وبصرف مضبوط، بإشراف الحركة عليه لضمان أكبر قدر من الاستفادة من هذه الخدمات، ما يحقّق لها حضورًا اجتماعيًّا وشعبيّة[4]. ساعدت التحوّلات المحلّيّة والإقليميّة والعالميّة أيضًا، كانهيار الاتّحاد السوفييتيّ والكتلة الشرقيّة، وتوجّه المجتمع الفلسطينيّ نحو المحافظة أكثر إبّان الانتفاضة الأولى في عام 1987 [المعروفة شعبيًّا بانتفاضة الحجارة]، ودخول تيّارات سياسيّة دينيّة إلى البرلمانات العربيّة (كاثنين وثلاثين نائبًا إسلاميًّا من أصل ثمانين إلى البرلمان الأردنيّ)[5]، ساعدت على تقبّل «حماس»، وزيادة قاعدتها الجماهيريّة وفاعليّتها في المجتمع، فلسطينيًّا وعربيًّا وإسلاميًّا.

لقد تعرّضت «حماس»، من خلال الاختبار والتحدّيات، لمجموعة من التغيّرات، من حركة إسلاميّة إصلاحيّة دعويّة إلى حركة إسلاميّة مقاومة، ثمّ إلى حركة سياسيّة مقاومة منخرطة في العمل المؤسّساتيّ والعمل البلديّاتيّ، ولاحقًا موافقتها على الانضمام إلى «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» ضمن شروطها، وإلى دخولها معترك الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة مع الأحزاب الأخرى عام 2006[6]، ولاحقًا تطوّر فهم «حماس» لنفسها بوصفها حركة وطنيّة فلسطينيّة بمرجعيّة إسلاميّة[7]، حسب تصريحات قائد الحركة الأخيرة.

في خطاب إسماعيل هنيّة الأخير في سياق معركة «طوفان القدس» المنطلقة يوم 07 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، يواجه بخطابه فعل العزل والإقصاء، وحقيقته الاستعماريّة الّتي تُدْخِل كلّ الجغرافيا الفلسطينيّة إلى حالة من العزل والإقصاء مع غزّة: "إنّ معركة «طوفان القدس» ليست معركة غزّة وحدها، بل هي معركة الأمّة؛ فعلى الكلّ الفلسطينيّ أن يقاوم على اختلاف جغرافيّته، وبطرقه الممكنة"، وذلك تأكيدًا لاختلاف أشكال العزل والإقصاء الّذي يواجهه الفلسطينيّ في مناطق 48 ومناطق 67، وفي الخارج من اللاجئين"[8].

 

الضمير الجمعيّ ضدّ التفتيت

تأتي معركة «طوفان القدس» ضمن سلسلة من المعارك والحروب الّتي خاضتها «حماس» بشكل رئيسيّ، مع شركائها من فصائل المقاومة الفلسطينيّة؛ ردًّا على العدوانات والحروب الإسرائيليّة المختلفة، وهي «الفرقان» (2008)، و«حجارة السجّيل» (2012)، و«العصف المأكول» (2014)[9]، و«صيحة الفجر» (2019)، و«سيف القدس» (2021)، و«الفجر الصادق» (2022). تُظهر لنا هذه المعارك والحروب إرادة حركات مقاومة في رفضها حالة العزل والإقصاء المفروضة عليها من إسرائيل، عبر سلسلة كثيفة من العدوانات والحروب، على مدار تطوّر المقاومة المسلّحة ونضوجها لدى «حماس»، وغيرها من فصائل المقاومة في قطاع غزّة.

يجد غرامشي أنّ الهيمنة تكون عن طريق خلق أفكار متضاربة في عقل المهيمَن عليه، حتّى يتصالح مع مسألة عدم المساواة والاضطهاد حالةً طبيعيّة يستخلصها من واقعه الحتميّ...

 

من خلال هذه السلسلة من المعارك والحروب، نجد أنّ فعل العزل والإقصاء الاستعماريّ، انطلاقًا من هندسة المكان القابل للضبط والضغط، يمثّل عمليّة دقيقة استندت إلى نموّ الفعل المقاوم في القطاع، وأنّ خلاص الاستعمار الإسرائيليّ يكمن في الإبقاء على هذه الحالة، في منطقة جغرافيّة محصورة في ظروف معيشيّة قاسية، قابلة للرصد والتحكّم.

على الرغم من المساعي المستمرّة للمستعمِر الإسرائيليّ لممارسة فعل العزل والإقصاء والمراقبة والمعاقبة لحركة التحرّر الوطنيّ والمنخرطين فيها، بغضّ النظر عن أسلوب المقاومة المتّخذ، عنفيًّا أو غير عنفيّ؛ إلّا أنّ هذه الهندسة لا تتوقّف على هذه المنطقة فحسب، بل تشمل الكلّ  الفلسطينيّ عبر شرذمته بكلّ الطرق، أهمّها تفتيت الجغرافيا المتّصلة لصناعة مجتمعات من التمايز، وفقر الاتّصال وآثاره في تطوّر وتماسك الهويّة الوطنيّة؛ إذ يقف الفلسطينيّ أمام هويّته الجمعيّة متسائلًا عن أهمّ التحدّيات الّتي تواجهها، وهو نفيها، فيستعيض عنها بالضمير الجمعيّ حيلةً دفاعيّة، من خلال ما تحمله ذاكرته الجمعيّة من موروث معنويّ ومادّيّ مرتبط بالعودة والمطالبة بالأرض المسلوبة، وبمَنْ فقدهم بالموت أو الأسر أو اللجوء والنفي[10].

 

المستعمَر رافضًا الدونيّة

حيث تحتلّ الثقافة مكانة بارزة في المعضلة الاستعماريّة، ويجري استهدافها عند بدء أيّ عمليّة للاستعمار، يجد غرامشي أنّ الهيمنة تكون عن طريق خلق أفكار متضاربة في عقل المهيمَن عليه، حتّى يتصالح مع مسألة عدم المساواة والاضطهاد حالةً طبيعيّة يستخلصها من واقعه الحتميّ[11]، وإذا ما نظرنا إلى النسق الثقافيّ من منطلق سياسيّ واقتصاديّ، لنفهم التبدّلات والتغيّرات الّتي تجري عليه، نرى أنّ الهويّة الجمعيّة الفلسطينيّة والضمير الجمعيّ يتأثّران بسياسات المستعمِر والمجريات الّتي تدور في الساحة الفلسطينيّة الداخليّة، كالانقسام السياسيّ عام 2006، والتحوّلات الطبقيّة، والعجز الاقتصاديّ[12]، والّتي تخلق فجوة بين الانخراط في فعل التحرّر ووعي المستعمَر بصفته هذه ومكانته، وما بين التسليم والانصهار بالواقع الاضطهاديّ، والانبهار بالقوّة العسكريّة والاقتصاديّة للمستعمَر، فكيف لنا أن نقرأ حالة الخروج عن المكانة الدونيّة الّتي تهندس لها القوى الكولونياليّة بين الحين والآخر، عند الأفراد ومجتمعاتهم وحركات التحرّر الوطنيّ المنبثقة منها؟ هل أدوات القمع والهيمنة هي ذاتها الّتي تدفع المستعمَر إلى الخروج عليها؟ وهل الاستلاب الثقافيّ، واستدخال أفكار العجز والدونيّة والتسليم بها، تدفع الأفراد إلى إنتاج أدوات نضالهم، ورفضهم لهذه المكانة؟

في هذا السياق، يطرح لنا الأنثروبولوجيّ وعالم الاجتماع لوبروتون مقاربته عن الجسد بين التحطيم والانبعاث: "إنّ العذاب اختزال للجسد في المكان الوحيد لتوهّج الألم، ولا يعود للفرد أيّ مفرّ ولا أيّ ملجأ، ويظلّ بيده أن يقرّر إيقاف هذا الألم والعذاب؛ حتّى لا يظلّ سجين جسده الّذي لا يعترف به"[13]. إنّ ممارسة العزل عبر هندسة الجغرافيا لسلخ الفلسطينيّ عن سياقه السياسيّ، وبنيته الثقافيّة والهوياتيّة، وإنتاج حالة ثقافيّة جديدة مبنيّة على قبول الحالة الدونيّة وعدم المساواة، تضع الجسد في موقع العذاب، وتساؤله المستمرّ عن توقّف هذا العذاب.

لا يوجد أقسى من أن يواجه الإنسان جسده الّذي ينكره ولا يشعر به، ولا يقدر على تحمّل عذاباته وشعوره بالطفح الّذي لا ينتهي، لهذا؛ يصبح الفعل التحرّريّ هو مكنون الذات، وتجلّيات الجسد...

 

الجسد خروج عن الفردانيّة، وطفح في حدّ ذاته، وامتداد في المكان؛ ما يجعله موضعًا للسيطرة والإخضاع[14] في الحالات الاستعماريّة، الفلسطينيّة في تناولنا هنا، وهو موضوع للسلطة والإخضاع، ما قد يدفعه إلى الحراك والرفض دون التساؤل منطقيًّا عن الجدوى؛ فاللحم يتضمّن ما يكفي من ضواغط تدفعه إلى الرفض عبر جسده، ولو كان بنفي الجسد، مثل تنفيذ العمليّات الفرديّة ضدّ المستعمِر. فأن يكون الجسد أداة فرديّة للاحتجاج في حدّ ذاتها شكل من أدوات الالتفاف على قبضة السلطة العنيفة، وكشف لإحكامها القاسي على الفضاء العموميّ، وفاعليّة الحراكات الاجتماعيّة والسياسيّة، فعلى الرغم من خروج الجسد الميّت عن زمان المجتمع ومكانه، إلّا أنّه خلّف وراءه رسالة مستمرّة بالاحتجاج والرفض[15].

"حاصر حصارك لا مفرّ"[16] حالة رافضة للخضوع وتجريد الجسد المستعمَر من ذاته، وبلاغة صارمة في أساس الفعل التحرّريّ في سياق السؤال: مَنْ يحاصر مَنْ؟ فلا يمكن إنكار قساوة الفعل الاستعماريّ في الهندسة، والعزل الإقصاء، والتفتيت الجغرافيّ، وتهشيم الثقافة عبر أفكار اللامساواة وتقبّل الدونيّة، إلّا أنّه لا يوجد أقسى من أن يواجه الإنسان جسده الّذي ينكره ولا يشعر به، ولا يقدر على تحمّل عذاباته وشعوره بالطفح الّذي لا ينتهي، لهذا؛ يصبح الفعل التحرّريّ هو مكنون الذات، وتجلّيات الجسد على غير ما تطرحه مضامين مجتمع الفرجة من معايير للسعادة والحزن، فإنّ العيش في الحالة الاستعماريّة خارج عن كلّ أنماط الحياة ومدلولاتها، فهي عذابات مستمرّة في أبسط تفاصيل الحياة اليوميّة المعيشة، ولا يهمّ أن يكون الجسد مادّة موجودة أو منفيّة، على قدر أهمّيّة ألّا يشعر المستعمِر بدونيّتها وتمايزها.

 


إحالات

[1] الفلسطينيّون في نهاية 2022، الجهاز المركزيّ للإحصاء الفلسطينيّ، وكالة وفا للأنباء والمعلومات الفلسطينيّة، https://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=2357.

[2] إسرائيل/ فلسطين/ لبنان: الخروج من الهواية (الهاوية)، كرايسيز جروب (Crisis Group)، عدد 57 (2006) 7.

[3] رياض العيلة، الواقع الاستيطانيّ في قطاع غزّة في ضوء خطّة الانفصال الشارونيّة، جامعة الموصل، عدد 28 (2006)، 11.

[4] علي الجرباوي، حركة المقاومة الإسلاميّة (حماس)، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، عدد 13 (1993)، 5.

[5] المرجع السابق، 7.

[6] نافذ أبو حسنة، حماس والجهاد: المصالحة والمقاومة المسلّحة، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، عدد 119 (2017)، 6.

[7] إسماعيل هنيّة، حماس حركة تحرّر وطنيّ فلسطينيّ بمرجعيّة إسلاميّة، قناة المصري اليوم، 17 شباط (فبراير) 2019، مقابلة: https://www.youtube.com/watch?v=AzdylPqNDB0. 

[8] إسماعيل هنيّة، طوفان الأقصى بدأ من غزّة وسيمتدّ إلى الضفّة والقدس، قناة الميادين، 8 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، مقابلة: https://www.youtube.com/watch?v=GLBmKputhNI.

[9] عليّان الهندي، قراءة في العدوان الإسرائيليّ على قطاع غزّة، شؤون فلسطينيّة، عدد258 (2014)، ص 174 - 189.

[10] حسن عبد الرحمن البرميل، الضمير الجمعيّ الفلسطينيّ، المجلّة العربيّة لعلم الاجتماع، عدد 22 (2013)، 12.

[12] خيّرة مطّاي، التحرّر القوميّ بوصفه فعلًا ثقافيًّا، فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، أيّار (مايو) 2022.

[13] مرجع سابق. 

[14] دايفد لوبروتون. تجربة الألم بين التحطيم والانبعاث، تحرير فريد الزاهي (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2017).

[15] عياد أبلال، الجسد رأسمالًا احتجاجيًّا: تأمّلات سوسيولوجيّة في الدوافع الذاتيّة للاحتجاج، المجلّة المغربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، عدد 10 (2020)، 6.

[16] مرجع سابق، 7.

[17] محمود درويش، ديوان حالة حصار (رياض الريّس للنشر والتوزيع، 2002). 

 


 

إيهاب بزاري

 

 

 

خرّيج علم نفس وعلم اجتماع في «جامعة بيرزيت». يعمل في مؤسّسة «تامر للتعليم المحتمعيّ» منسّقًا للشباب والحملات، يهتمّ بحقل العلوم الاجتماعيّة.