عبور الجسد الفلسطينيّ

مواطنون غزّيّون فوق دبّابة إسرائيليّة عُطِبَت خلال عمليّة طفوان الأقصى | هاني الشاعر، Getty.

 

يعيش الشعب الفلسطينيّ الآن حالة جمعيّة من الذهول المعجزيّ، المعجون بألم متوارث عمره أكثر من 75 سنة. في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)، استيقظ الشعب الفلسطينيّ بكلّ أطيافه من داخل فلسطين التاريخيّة، ومن بلاد العالم خارجها، على مشهد تراه العينان ولا يصدّقه الذهن. الكلمة الّتي كان يخجل البعض من تردادها أو كانوا يهزؤون بـالسذّج أو الحالمين أو الماضويّين، الّذين اتّخذوها حقيقة مستقبليّة أصبحت تأخذ شكلًا واقعيًّا مادّيًّا، حدثًا فازعًا طارئًا. الكلمة هي ’التحرير‘.

ولأنّ الحلم أو ذلك الشيء الأبعد منه، الّذي يدفع الشعب الفلسطينيّ مجازر جمعيّة ثمنًا له، يأخذ أشكالًا مادّيّة أمام أعيننا، لنخض أكثر في موضع الجسد الفلسطينيّ، فرديًّا وجمعيًّا من هذا الحدث الجليل.

يجدر الذكر أوّلًا أنّ هذه المقالة ليست في صدد رَمْنَسَةِ الجسد الفلسطينيّ بوصفه جسدًا لا يشعر بالألم أو يتعدّاه، أو لا تصله شحنات الخوف والتوجّس، أو جسدًا لا يتعب، أو جسدًا لا يعي ثمن دكّ أسوار الاستعمار الأبيض. صور الرضّع الشهداء الّذين يهدهدهم أهاليهم في غزّة مثل دمًى، صور الأمّهات المفجوعات بين الجموع، الصارخات بأنّ أولادهنّ استشهدوا جائعين، صور الشباب الّذين عُذِّبوا، ومُزِّقَت أجسادهم، ودُهِسَت، صور أجساد الفتيان المتفحّمة من النار ليست صورًا رومانسيّة. هي صور تخترق الحلق مثل خنجر، وتلبث فيه.

لكن فوق الألم الّذي لا يُحْتَمَل، والخوف، والذهول، والسخط الحارق، يشعّ الجسد الفلسطينيّ في مواضع مختلفة في سياق هذا الحدث الفلسطينيّ التاريخيّ؛ فما الأشكال الّتي يتّخذها الجسد الفلسطينيّ؟ وما الوظائف الّتي يحقّقها الآن؟

 

الجسد الفلسطينيّ في نظر السياسات البيضاء

إنّ الجسد الفلسطينيّ، في عين السياسات البيضاء ليس جسدًا آدميًّا؛ فحسب وزير دفاع الدولة الكولونياليّة الصهيونيّة، فإنّ الجسد الفلسطينيّ هو جسد حيوانيّ، تمامًا مثل الجسد الأسود أو العربيّ بشكل عامّ؛ إذ ينوّه المفكّر فرانز فانون (1925 - 1961)، إلى أنّ "اللغة الّتي يوظّفها المستعمِر حين يتكلّم عن المستعمَر لغة حيواناتيّة؛ فالمستعمِر يحكي عن جلد المستعمَر الأصفر كالزواحف، نتن بيته، تكاثره وأهله كالقطعان، قذارته، تفريخه، شرحه الإيمائيّ"[1].

إذن، فالجسد الفلسطينيّ مثل غيره من الأجساد غير البيضاء للمستعمِر الأبيض، جسد حيوانيّ مقزّز يتكاثر ويفرّخ ولا يشعر بشيء. يجدر الإشارة هنا إلى أنّ الجسد الفلسطينيّ، تحت الاستعمار الصهيونيّ، يواجه مفارقة هي أنّ الجسد الفلسطينيّ بوصفه جسدًا مقزّزًا، لكنّه في الوقت نفسه جسد مخفيّ[2]. وفي هذه المفارقة، لا يوجد الجسد الفلسطينيّ، ويوجد، في الوقت ذاته، كجسد نجس.

الجسد الفلسطينيّ، في عين السياسات البيضاء ليس جسدًا آدميًّا. حسب وزير دفاع الدولة الكولونياليّة الصهيونيّة، فإنّ الجسد الفلسطينيّ هو جسد حيوانيّ، تمامًا مثل الجسد الأسود...

 أبدأ بعرض صورة الجسد الفلسطينيّ كما يُقَدَّم في المخيّلة البيضاء لسببين؛ أوّلهما لدحض الشعارات المنهزمة والمنافقة والبكائيّة، الّتي تطالب الفلسطينيّ بالدفاع عن إنسانيّة الجسد الأبيض، وحقّه في الحياة في الوقت الّذي تُذْبَح فيه عائلات الفلسطينيّ أمام عينيه، وعلى مرأًى من العالم. ثانيًا، للتباين بين هذه الصورة البيضاء، وصورة الجسد الفلسطينيّ الفرديّ والجمعيّ الجدير بالحبّ والحياة، ونعم، بالاستشهاد.

أعني بالجسد الفلسطينيّ الجسدين الفرديّ والجمعيّ. الجسد الجمعيّ يشير إلى كلّ الفلسطينيّين في داخل فلسطين وفي خارجها، الأحياء منهم والشهداء، أجسادهم المادّيّة وحضورهم الرقميّ. هذه الأجساد كافّة هي أجساد فلسطينيّة. والقصد بالجسد الفلسطينيّ الجسدين المادّيّ والميتافيزيقيّ اللذين يمتلكهما كلّ فرد فلسطينيّ: أي الجسد المادّيّ الموجود في المكان المادّيّ تحت الاحتلال، تحت السلطة الفلسطينيّة، تحت الحصار، تحت القصف، في الملاجئ، في الشتات، في المنفى؛ والجسد الميتافيزيقيّ الّذي يوجد على هيئة ذكرى أو حدس أو حلم جمعيّ نحو فلسطين، قبل النكبة وبعد التحرير، والّذي يضاهي الجسد المادّيّ قوّة وكمونيّة وقدرة على تحويل الآلام الفلسطينيّة الجمعيّة إلى ممارسات ثوريّة. عبارات مثل "فيها كسر عظم" الّتي تصف حالة أهالي الشهداء النفسيّة، و"ظهري مكشوف" الّتي تصف استهداف الشتات الفلسطينيّ المدافع عن قضيّته، هي إحالات تومئ إلى هذا الجسد.

الجسد الفلسطينيّ هو الجسد الثائر بامتياز؛ الرافض للحياة المذلّة والضائقة الّتي لا يمكن للجسد فيها أن يتحرّك بحرّيّة، أن يتمتّع بصحّة بدنيّة جيّدة، أن ينعم بالأمان. الجسد المقبل على الخطر؛ الّذي يتحرّك نحو مقوّمات إنهائه لخلق مساحات الحياة للأجساد الأخرى الّتي تشارك الجسد ألمه القديم؛ هو الجسد الّذي يجابه بمادّيّته أدوات الاستعمار المادّيّة من الأسلحة، والطائرات، والدبّابات، والقنابل، والجدران الفاصلة، ونقاط التفتيش، والسجن، ووهن الجسد عند ارتقاء الأجساد الأخرى المرتبطة به.

 

 

وهو الجسد المرتبط بأرضه، فرديًّا وجمعيًّا؛ من خلال السورياليّة البيئويّة الفلسطينيّة الّتي تفسح المجال للجسد الفلسطينيّ بكلّ أطيافه الالتحام مع أرض فلسطين، حتّى في إقصائه المادّيّ عنها، واستمداد مقوّمات حياته المستقبليّة منها.

ثمّة أمثلة على ذلك أيضًا في بعض الأغاني الفلسطينيّة المتداولة حاليًّا لتوصيف عنفوان التحرير مثل أغنية «في ميعاد» الّتي نسمع فيها صوت الفلسطينيّ مردّدًا ضدّ عدوّه: "مش خايف خال تبلعنا الأرض وآخرها تُفْرَج"؛ فنرى في هذا التوصيف صورة الجسد الفلسطينيّ يرجع إلى الأرض حماية كأنّها عودة إلى الرحم، ثمّ يُولَد من جديد عندما تُفْرَج؛ أي عند التحرير. وبذلك؛ تصبح أرض فلسطين الّتي يلتحم الجسد الفلسطينيّ مع الأخطار المادّيّة دفاعًا عنها، تصبح فاعلة في عمليّة التحرير نسبة إلى حضورها، الفعّال في المخيّلة الجمعيّة الفلسطينيّة الّتي تغذّي الفعل المقاوم.

 

فلسطين الحلم

الجسد الفلسطينيّ هو معقل للذكريات المتوارثة أيضًا؛ فالتاريخ الفلسطينيّ الّذي يشكّل التاريخ الشفويّ أو المحكيّ[3] جزءًا كبيرًا منه، خاصّة مع عمليّات إبادة الدولة الصهيونيّة للكتب الفلسطينيّة وسرقتها، يأخذ أشكال الشهادات والقصص. لذلك؛ فإنّ القصص الّتي تربّى الفلسطينيّون على الاستماع لها منذ الصغر، والّتي تحكي عن أوجه المعاناة والبطولات الفلسطينيّة، كانت تتّخذ مساحات محرّرة داخل الجسد، وكانت تنمو معه. لذلك؛ عندما يشاهد فلسطينيّو الشتات واللجوء والمنافي صور فلسطين الدامية، ولكن الثائرة في هذا الوقت، تتحرّك في أجسادهم تلك المساحات المحرّرة، وتفعّل شعورًا فلسطينيًّا جمعيًّا لا يأخذ شكل توق قويّ للتحرير والعودة فقط، لكنْ شعور آخر غريب مرتبط بمساحات الحلم.

في إحدى الجلسات الّتي حاضرت فيها عن الواقعيّة السحريّة في الأدب الفلسطينيّ، ناقشْتُ ثيمة الأحلام الّتي تُوَظَّف بزخم في النصوص الأدبيّة الفلسطينيّة ووقعها السرياليّ. من هناك، تفرّع الحديث إلى الأحلام الّتي تنتاب الحاضرين عن فلسطين. لدهشتي ودهشتهم؛ تكشّف لنا أنّ أكثر الأحلام حيّة؛ أي الأحلام الّتي تُوَظَّف فيها الحواسّ الخمس بأقوى الدرجات، حيث إنّ الألوان والأصوات والروائح والملامس والأطعمة اخْتُبِرت على درجات فوق حقيقيّة، كانت أحلامًا عفويّة عن العودة إلى فلسطين. أحلام عن رواق حجريّة لقرًى قديمة، عن فوّهات في سقوف حجريّة؛ عن البحر؛ عن بيوت الفلسطينيّين.

الجدير بالذكر هنا أمران: أوّلًا، معظم الّذين تحدّثوا عن أحلامهم بدقّة تتيح لهم رسم الأماكن لو كانت عندهم الموهبة، هم من الشتات الّذي لم يزر فلسطين يومًا. ثانيًا؛ أنّ معظم الأحلام كانت تشمل الطيران؛ الطيران إلى فلسطين أو فيها.

بعد بضعة أيّام من تلك الجلسة، ظهر على المنصّات الرقميّة فيديو لجدّات فلسطينيّات يتحدّثن عن طيرانهنّ إلى فلسطين في الأحلام، ليس حدثًا عرضيًّا لكن مقصود. تروي لنا إحداهنّ مبتسمة أنّ "كل يوم بروح على لوبيا، بحلم فيها مثل ما كنت فيها، بشوف الأرض، بروح عالزيتون، بروح عالبيوت، وبروح عالبيدر، وبروح على كل إشي، تحت اللوزة نمت ليلة".

 

الجسد العابر للمادّيّة

إذن، فالجسد الفلسطينيّ جسد عابر للمادّيّة الّتي تشمل الواقع المادّيّ المفروض. في رواية «سرايا بنت الغول» (1992) لإميل حبيبي (1922 - 1996)، نقرأ عن فراشة، وهي "امرأة نحيلة خفيفة الطول والعرض، سريعة الحركة، ولا ترتدي من الثياب إلّا الخفيف الهفّ كأنّها فراشة. وقيل إنّها تخترق الحدود من غير أن يلقوا إليها بالًا أو ينتبهوا إلى وجودها؛ وقيل إنّها تنقل الرسائل بين الباقين والنازحين، وتخفيها في زنّار خفيف في لون جسمها تزنّزت به على جسمها"[4].

نجد هنا أنّ فكرة اختراق الحدود الصهيونيّة المزعومة، بالرغم من مادّيّتها المهيمنة، لطالما كانت موجودة عند الفلسطينيّات، يطبّقها الفلسطينيّون مادّيًّا الآن. نرى، إذن، كيف يلتحم ذلك الجسد الميتافيزيقيّ أو الشعريّ أو السحريّ مع الجسد المادّيّ، في الوقت الآنيّ والمكان الفعليّ، على الصعيدين الفرديّ والجمعيّ.

فكرة اختراق الحدود الصهيونيّة المزعومة، بالرغم من مادّيّتها المهيمنة، لطالما كانت موجودة عند الفلسطينيّات، يطبّقها الفلسطينيّون مادّيًّا الآن...

في هذه اللحظة التاريخيّة، الّتي ربّما توازي بألمها أنماطًا من النكبة الفلسطينيّة الّتي لم نتعافَ منها حتّى يومنا هذا، يلتحم الجسد الفلسطينيّ بكلّ أطيافه؛ إذ إنّ الجسد الفلسطينيّ الموحَّد الآن، هو جسد فتيّ عمره 76 سنة؛ جسد يشعر جسمانيًّا بألم النكبة ونار الثورة، وذلك التوق المهيمن إلى العودة: العودة إلى المكان المسروق؛ إلى الحياة الطبيعيّة الّتي تفسح المجال للفرد الفلسطينيّ ليعيش حياة إنسانيّة حتّى لو غلب عليها بعض النزاع في أوّل الأمر، إلى الوقت الّذي يختبره الفلسطينيّ فكرةً أو مفهومًا لا تجربة حقيقيّة منذ 1948، إلى ألم النكبة الّذي لم يستطع حتّى اللحظة مواجهته والتعافي منه. بذلك يصبح الجسد الفلسطينيّ متحكّمًا في الوقت أيضًا؛ فمن خلال مقاوماته المادّيّة على أشكالها يحدث تلاحم الجسد الفلسطينيّ الّذي يريد العالم الأبيض محيه تمامًا، في النقطة البرزخيّة الفلسطينيّة الّتي يُعْجَن فيها الوقت والمكان بيدَي الجسد الفلسطينيّ الفتيّ.

بالرغم من الألم الّذي لا يُحْتمَل الّذي يختبره الشعب الفلسطينيّ الآن، في كلّ بقاع الأرض، وخاصّة في فلسطين، فإنّ هذا التوحّد واجب على كلّ أطياف الشعب الفلسطينيّ؛ فإنّ الجسد قد قدّم كلّ ما يستطيع في سبيل الحرّيّة، مثبتًا بضراوة أنّ الّذي يحدث في الحال الفلسطينيّ الآن، لم يطبّق الواقعيّة السحريّة فقط بل تعدّاها؛ فأين ما كان الجسد الفلسطينيّ الفرديّ الآن: معاينًا الدمار الّذي ألحقه الصهيونيّ، راكضًا نحو الاقتتال، مودّعًا أحبّ الناس إلى قلبه، في الشتات يُضْرَبُ بهراوات الشرطة، أو يُمْحى بالعلم الصهيونيّ في باحات المدن الأوروبّيّة، أو يُرْفَع العلم الفلسطينيّ في وجوههم الحاقدة، تترامى إلى سمعه أصوات شهدائنا وشهيداتنا بأن "يا فلسطينيّ وحّد جسدك!".

 


إحالات

[1] Franz Fanon, The Wretched of the Earth, trans. by Constance Farrington (London: Penguin Classics, 2001 [First published in 1961]), 33.

[2] للاطّلاع أكثر على هذه الجزئيّة، أرشّح رواية "سفر الاختفاء" للكاتبة ابتسام عازم.

[3] للاستماع إلى شهادات فلسطينيّة وقصص خرافيّة مسجّلة؛ أشير إلى موقع أرشيف التاريخ المحكيّ، على موقع مكتبة الجامعة الأمريكيّة في بيروت: https://www.aub.edu.lb/ifi/Pages/poha.aspx

[4] إميل حبيبي، سرايا بنت الغول: خرافيّة (بيروت: دار عربسك للنشر، 1991)، 201.

 


 

سنابل عبد الرحمن

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة تهتمّ بالأدب والفنّ المعاصر، مرشّحة دكتوراه في الأدب الفلسطينيّ، بالتركيز على الواقعيّة السحريّة في «جامعة ماربورغ».