شمشون ينتقم لعينيه ويدمّر مَسادا

قصف إسرائيليّ على مدينة رفح، قطاع غزّة، بتاريخ 15 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 | AFP

 

إلى النوارس الّتي لم تقنَع بالشاطئ وحده، والأشجار الّتي لم تذبل أمام رائحة الأزهار الميّتة، والأرواح الّتي احتفت بحياتها في حضرة الحرب والموت، وإلى العربيّ والفلسطينيّ اللّذَيْن لم يعترفا بمفهوم المستعمِر أو الدولة عن الوطن: نحن أبناء سرديّة ثوريّة، ولغة جريحة لا يفهمها المستعمِر الصهيونيّ ابن السرديّة الغيتويّة المؤلِّهة لذاتها، المشيطِنة للآخر؛ أيّ آخر لا ينتمي إلى مصفوفتها، ذات المعايير الثابتة المحدّدة لمَنْ هو الإنسان، فمنحت نفسها حقّ طرده من الجنّة.

في حروب الإبادة والتهجير الإسرائيليّة، ومن ضمنها الحاصلة الآن تحت اسم «السيوف الحديديّة» إسرائيليًّا، إثر تنفيذ المقاومة الفلسطينيّة عمليّة «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الجاري، ثمّة ممارسات خطابيّة ترتبط بأساطير دينيّة يهوديّة؛ بهدف تشكيل حسّ جمعيّ إسرائيليّ يعتمد على الرواية والمخيال الدينيّين، ركيزة أساسيّة في منح الاستيلاء على الأرض والقتل من أجلها سرديّة ذات شرعيّة.

أحاول في هذا المقال الوقوف على توظيف الاستعمار للأسطورة الدينيّة، المساهِمة في نزع إنسانيّة الفلسيطينيّ لشرعنة التوحّش بحقّه، مركّزةً على أسطورتي «شمشون ودليلة» و«قلعة مسادا».

 

شمشون يحرس «مسادا»

في العهد القديم، وتحديدًا «سفر القضاة» (18-11)، ترد حكاية معاقبة الربّ بني إسرائيل على شرّهم، ونفيهم أربعين عامًا، ووقوعهم تحت أيدي الفلسطينيّين، وكان من بينهم رجل يُدْعى ’منوح‘ له امرأة عاقر لم تلد، فأرسل لها الربّ ملاكًا يبشّرها بحملها، ثمّ تلد ولدًا تسمّيه ’شمشون‘. يكبر شمشون ويقع في حبّ فتاة فلسطينيّة، ويتزوّجها رغمًا عن والديه، ثمّ يملّ منها فيعيدها إلى والدها، وبعد فترة يحنّ إليها فيذهب لاستعادتها، لكنّ والدها يرفض ذلك. يقرّر شمشون الانتقام منهما بإحراق كروم الفلسطينيّين الّذين يلاحقونه لكنّهم يعجزون عن قتله؛ لامتلاكه قوّة عظيمة يجهلون سرّها. ينجو شمشون منهم بفضل قوّته، ويحبّ فتاة أخرى اسمها ’دليلة‘ ويتزوّجها. تقبل به دليلة بتوصية من الفلسطينيّين؛ لتعرف سرّ قوّته ويتمكّنوا من قتله.

تسأل دليلة شمشون ثلاث مرّات عن مصدر قوّته، فيتحايل عليها، ولا يقول الحقيقة إلّا في المرّة الرابعة، معترفًا بأنّ قوّته تكمن في جدائله، فإذا حُلِقَتْ خسرها. حينذاك، قصّت دليلة سبع خصلات من شعره في أثناء نومه، ففارقته قوّته، وانتقم منه الفلسطينيّون بقلع عينيه، وأوثقوه بسلاسل نحاسيّة. وأثناء احتفالهم بالنصر أشفقوا عليه، وطلبوا من غلام إحضاره مكبَّلًا ليرقص لهم ويحتفل معهم، ولم ينتبهوا إلى أنّ شعره قد نما مرّة أخرى. حين صعد إليهم طلب من الغلام أن يسمح له بإمساك أعمدة البيت، ودعا ربّه: "يا سيّدي الربّ! اذكرني، وشدّدني يا الله! هذه المرّة فقط، فأنتقم نقمة واحدة عن عينيّ من الفلسطينيّين" (16:29)، فسقط البيت على شمشون والفلسطينيّين، وماتوا جميعًا.

صيت أسطورة «قلعة  مسادا» مع صعود الصهيونيّة خلال العقود الأولى من القرن العشرين، خاصّة مع كتابة المهاجر الأوكرانيّ يتسحاق لامدان لقصيدة بعنوان «مسادا»...

تذكر روايات أنّه في عام 73 ميلاديّ، بعد تدمير ابن تيطس الرومانيّ لأورشاليم ومعبدها، حاول الاستيلاء على «قلعة  مسادا» اليهوديّة، الّتي تحصّن فيها نحو 900 يهوديّ بقيادة ليزر بن زائير بعد سقوط أورشاليم[1]. أدرك اليهود آنذاك أنّ الهزيمة حتميّة، ولينقذوا أنفسهم من إذلال الأسر؛ قرّروا الانتحار الجماعيّ، ونفّذوه قبيل اختراق الجدران الأخيرة مباشرة.

تختلف رواية «قلعة مَسادا» عن الأولى في أنّها مستقاة من كتاب يوسيفوس فلافيوس عن الحرب اليهوديّة، وكان الكتاب مكتوبًا بالآراميّة واليونانيّة، ولم يُعْرَف خارج الكنيسة المسيحيّة، ولم تُذْكَر الحكاية في «التلمود»، ولا في «المدراش»، أو أيّ نصّ دينيّ آخر.

ذاع صيت أسطورة «قلعة  مَسادا» مع صعود الصهيونيّة خلال العقود الأولى من القرن العشرين، خاصّة مع كتابة المهاجر الأوكرانيّ يتسحاق لامدان (1899-1954) لقصيدة بعنوان «مَسادا»[2]، ونشرها في عام 1924[3]، عقب المذابح، والحرب العالميّة الأولى و«الثورة البلشفيّة»:

"عند قدميكِ أضع روحي المفتّتة...

ها أنا، كلّي، أمامك، هارب...

أبوابك:

افتحيها، مَسادا، وسآتي أنا، الهارب..."[4].

 

البأس واليأس

ماذا يمكننا أن نفهم من الأسطورتين أعلاه؟ شمشون، ذو الجدائل الجبّارة والقوّة اللامتناهية، هو مدلَّل الربّ الّذي يحيل إلى شعب إسرائيل القديم، في ما تمثِّل دليلة غدر الفلسطينيّين وتعطّشهم إلى الانتقام، مهما مرّ الزمان. يتمرّد شمشون على حياة الأسر والذلّة، ويقرّر أن ينتقم لعينيه، ويستردّ كرامته من الفلسطينيّين ولو كلّفه الأمر قتل نفسه.

هذا ما نلاحظه أيضًا في الأسطورة الثانية الّتي تُعْتبَر نداء حربيًّا عبر الزمان والمكان، كما ترمز إلى الشجاعة العسكريّة، والالتزام الوطنيّ، والعزيمة، فإمّا النصر وإمّا الفداء. يُسْتخدَم اليوم بيت "لن تسقط مَسادا مرّة أخرى"، الّذي يرد في القصيدة، على نحو شعبيّ في إسرائيل، ولا سيّما خلال فعاليّات وطنيّة مختلفة؛ تعبيرًا عن الإرادة وخوف اليهود من أن تسقط «مَسادا» الثانية، بنفس الطريقة الّتي سقطت بها الأولى عبر التدمير الذاتيّ. هكذا أُحيلَت القلعة في القصيدة إلى سياق مختلف عن سياقها التاريخيّ الأصليّ، الّذي كان يتعلّق بشعور المستوطن وإدراكه أنّ الصهيونيّة كانت خيارًا أخيرًا ضدّ تيه المصير؛ فتحوّلت فلسطين من مجرّد أطلال تحفّز الحنين إلى مصدر للأمل، إلى جانب تعزيز الأنا الجماعيّة.

يُسْتخدَم اليوم بيت "لن تسقط مَسادا مرّة أخرى"، الّذي يرد في القصيدة، على نحو شعبيّ في إسرائيل، ولا سيّما خلال فعاليّات وطنيّة مختلفة؛ تعبيرًا عن الإرادة وخوف اليهود من أن تسقط «مَسادا» الثانية

في الأسطورتين نوع من الثنائيّة الشعوريّة المتراوحة بين التفاؤل المتمرّد والتشاؤم المتطرّف، وبين هذين الشعورين يحلّق توتّر أبديّ.

يرد في دراسة[5] ناقشت قصيدة «مَسادا»، الّتي لا تخلو من هذه المشاعر أيضًا، أنّ التوتّر المستمرّ بين البأس واليأس يُسَمّى هوسًا اكتئابيًّا (Manic Depressive)، وهي تسمية تليق بالحياة اليهوديّة الفلسطينيّة بحسب الدراسة. اسْتُعيرَ هذا المصطلح من علم النفس، وقد استخدمه فرويد سريريًّا، إلّا أنّه وُظِّفَ في هذا السياق لوصف نمط ثقافيّ، وسمة اجتماعيّة للمشاعر الجمعيّة المتناوبة بين الأمل واليأس للإسرائيليّين.

من هنا، وإحالةً إلى إدوارد سعيد في «الاستشراق»، الّذي ساهم عبره في تفكيك جانب من بنية المركزيّة الثقافيّة الغربيّة، وبيّن آليّة استخدام قوّة الرواية والصورة في إقصاء الآخر وتنميطه، وفرض السلطة عليه، نرى أنّ الميثولوجيا اليهوديّة لطالما كانت سلاحًا ضدّ الآخر وسرديّته ولغته؛ فالتأويل الصهيونيّ يغيّب ويشوّه الحضور الفلسطينيّ في المبنى السرديّ، بحيث نصبح الطرف الّذي يبيد ويقتل وينتقم دون رحمة.

هذه من المرجعيّات الأسطوريّة الجمعيّة الّتي يستند إليها المستعمِر الإسرائيليّ في حروبه وحملاته المختلفة على الفلسطينيّين، وآخرها معركة «السيوف الحديديّة» الحاصلة الآن.

يُثبِتُ حجم الدمار الّذي أحدثته إسرائيل في حربها على القطاع حتّى الآن، ترسّخ الميثولوجيا في عقليّة الشعب والجيش وعاطفتهما، ومن ثَمّ تمريرها إلى العالم الغربيّ، وإعادة إنتاجها من الأخير.

عقدة مسادا (Masada Complex)[6] تتمثّل في أولئك الّذين فضّلوا "ترك حياتهم على الجدران" كما تقول القصيدة؛ من أجل الحرّيّة السياسيّة والدينيّة والروحيّة، لذا؛ اختاروا الموت بدلًا من الخضوع. إلّا أنّ تأكيد البطولة والكرامة يقصي بشكل واضح أيّ عمليّة مصالحة تاريخيّة محتملة، أو سلام، إن بقي لهذا اللفظ معنًى جوهريّ. وهذا لا يتعلّق بأسطورة «مَسادا» وحدها، بل شمشون أيضًا.

الخطورة الكامنة في هذا المخيال الدينيّ وتعميمه وتذويته لدى أجيال من يهود المستعمَرة الإسرائيليّة، وكذلك العالَم الغربيّ، أنّه قادر على التحكّم في القوانين وفرضها أو حذفها، ولا يمكن فصله عن ممارساته الوحشيّة خلال ممارساته العسكريّة، مثل «بروتوكول حنبعل» المستخدم في حالة الحرب، والّذي يقضي بقصف أماكن وجود الجنود الإسرائيليّين المختطفين بهدف قتلهم ’بكرامة‘، على أن تتحمّل المستعمَرة عبء تحريرهم لاحقًا. وفي القصف الأخير على غزّة، أعلنت «حركة المقاومة الإسلاميّة - حَماس» مقتل عدد من أسرى الاستعمار، 22 حتّى الآن، جرّاء قصفهم في الأماكن الّتي تأسرهم فيها.

 

الغرب يمحو السرديّة الفلسطينيّة

في الـ 17 تشرين الأوّل، ارتكبت إسرائيل مجزرة بقصفها «المستشفى الأهليّ المعمدانيّ» في غزّة، راح ضحيّتها ما يزيد على 500 شهيد حتّى الآن؛ في محاولة منها ردع المقاومة عبر تدفيع المدنيّين الثمن.

يمكن الادّعاء أنّ عمليّات استهداف المدنيّين الفلسطينيّين في بيوتهم، أو في المستشفيات والمدارس، ترتبط بحالة الهوس الشمشونيّ باستعادة إسرائيل لعينيها، واستعراض قوّتها الهائجة على حساب تجريد الفلسطينيّ، وتحديدًا الغزّيّ، من إنسانيّته، واعتباره حيوانًا لا إنسانًا، يمكن الاعتداء عليه وانتهاكه جسديًّا وروحيًّا مع الإفلات من العقاب؛ لأنّه مجرّد حيوان وليس شخصًا يتمتّع بحقوق إنسانيّة، مدّعية أنّ هذه الإبادة هدفها القضاء على «حماس»، الّتي لا يمكن استهدافها إلّا بقصف كلّ ما هو مدنيّ؛ بادّعاء عملها في أنفاق تحت تلك المباني.

جميع عمليّات استهداف الأطفال والنساء والمدنيّين (...) تعود إلى حالة الهوس الشمشونيّ باستعادة إسرائيل عينيها، واستعراض قوّتها المطلقة على حساب تجريد الغزّيّ من إنسانيّته...

على المستوى الخطابيّ الإعلاميّ المحلّيّ والعالميّ في إسرائيل والغرب، ثمّة إقصاء ملحوظ للسرديّة الفلسطينيّة، حدّ المحو، وإن حضرت فإنّ حضورها يتضمّن إمّا استخدامًا لمصطلحات تجريميّة مقابل تعزيز الرواية الصهيونيّة، وإمّا عرضًا لأجساد الأطفال الفلسطينيّين المدماة، وادّعاء أنّها أجساد أطفال إسرائيليّين كما فعلت «قناة BBC». في يوم المجزرة، وقبل قصف المستشفى، تبنّت حسابات عدّة تابعة للاستعمار الإسرائيليّ عمليّة القصف، وتبريرها بأنّها "صراع بين أبناء النور وأبناء الظلام، بين الإنسانيّة والوحشيّة..."، كما ورد في تغريدة محذوفة لمكتب رئيس الوزراء الإسرائيليّ، ومنشور لصفحة «إسرائيل تتحدّث بالعربيّة».

فضلًا على ذلك، عرض موقع «The Jerusalem Post» مؤتمرًا لـ «حركة معاداة الساميّة» (CAM) قبل أيّام، بعنوان «النجاة من المذبحة»، متضمّنًا مشاركة الناجين "روايات الألم والأمل"، مستذكرين ليس أحداث 11 أيلول (سبتمبر) فحسب، بل الهولوكست أيضًا. في العنوان، وفي أصوات المتحدّثين الإسرائيليّين والأجانب، وفي مصطلحاتهم، تُعاد أشباح «مَسادا» وشمشون مرّة أخرى، في ما يكون الفلسطينيّون ضمن اللغة وخارجها في آن، هناك مَنْ يتحدّث نيابة عنهم، ويسمّيهم، ويسمح لنفسه باستباحتهم، وسلب حيواتهم وحناجرنهم وكلماتهم، ويحيلهم إلى الموت بطريقة معيّنة، بطريقة بشعة جدًّا.

 


إحالات

[1] يُذْكَر أنّه كان قائد اليهود منذ عام 66 حتّى 73 وسقوط «مسادا». المرجع:

Y. Lamdan, “Masada,” trans. L. I. Yudkin, in The Literature of Destruction: Jewish Responses to Catastrophe, ed. D. G. Roskies (Philadelphia: Jewish Publication Society, 1989), 367−370. Roskies replicates the selections in Payn un gvure.

[2] ترجّح الأدبيّات أن يكون إمّا جوكوفسكي وإمّا زوكرمان مسؤولًا عن ترجمتها. المصدر:

Roskies, D. G. (2022). The Jewish Anthological Imagination in the Holocaust, 1940− 1945. Prace Filologiczne. Literaturoznawstwo [PFLIT], (12 (15), (2022), pp. 179-195.

[3] ثمّة جدل حول تاريخ نشر هذه القصيدة، ورد في بعض المراجع أنّها نُشِرت في عام 1924، وفي أخرى في عام 1927، لكنّني تبنّيت التاريخ الّذي ورد في الكتاب المتضمّن للقصيدة المترجمة إلى الإنجليزيّة:

Y. Lamdan, “Masada,” trans. L. I. Yudkin, in The Literature of Destruction: Jewish Responses to Catastrophe, ed. D. G. Roskies (Philadelphia: Jewish Publication Society, 1989), 367−370. Roskies replicates the selections in Payn un gvure.

[4]  Ibid. 3.  

[5]  Schwartz, B., Zerubavel, Y., & Barnett, B. M. (1986). The recovery of Masada: A study in collective memory. Sociological Quarterly, 27(2), 147-164.

[6]  Ibid. 5.

 


 

دنيا الطيّب

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة من مواليد مدينة بيت لحم عام 1999، دَرَسَتْ «الإعلام» في «جامعة بير زيت»، وصدرت لها عدّة روايات، وتكتب في عدد من المنابر الإعلاميّة الفلسطينيّة والعربيّة.