تمسّك الأبيض ببياضه... حرب النور ضدّ الظلمات

دخان في شمالي قطاع غزّة من أثر القصف الإسرائيليّ، 25/10/2023 | رونالد سخيميدت، Getty.

 

شهدت الأيّام الأولى من الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة تصريحات وبيانات رسميّة كثيرة، صدرت عن رؤساء دول وحكومات غربيّة مثل الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وغيرها، عبّروا من خلالها عن دعمهم الشديد لحقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وإلحاق هزيمة بـ «حماس» باعتبارها حركة أو تنظيمًا إرهابيًّا مشابهًا لـ «تنظيم الدولة - داعش».

في المقابل، صدرت بيانات وكلمات وخطابات من سياسيّين وزراء وأعضاء برلمانات في أوروبّا، حملت في طيّاتها مواقف مندّدة بسياسات حكوماتهم الداعمة مطلقًا لإسرائيل، ورفضهم رؤية ما تقوم به إسرائيل من جرائم ضدّ الفلسطينيّين في غزّة، ومعارضين لازدواجيّة المعايير والسلوك.

بين مؤيّد وداعم، تنطلق عمليّة فهم هذين الطرفين في هذه المقالة؛ من خلال تحليل نصوص خطابات وبيانات وسواها، وتفنيدها وتقييمها، تبيّن هذه الجوانب.

 

استعلاء كولونياليّ

كان التصريح المقزّز لوزير الدفاع الإسرائيليّ، يوآب غالانت، عاكسًا فهم إسرائيل الرسميّ لعدوّها الفلسطينيّ، حين قال: "سنفرض حصارًا مشدّدًا على المدينة غزّة، لا كهرباء، لا غذاء، لا ماء، لا وقود. كلّ شيء مغلق، نحن نحارب حيوانات بشريّة، ونحن سنتصرّف بما يلائم".

ما زال غالانت، ككثيرين من ساسيّي إسرائيل، وحتّى من أكاديميّيها ومثقّفيها، ينظرون إلى الفلسطينيّ، وبالأحرى إلى العرب ككلٍّ، كـ ’حيوان بشريّ‘. لم تأتِ هذه العبارة التشبيهيّة من فراغ أو من باب الترفيه، إنّها نابعة من فكر استعلائيّ معمّد بالفكر الكولونياليّ التقليديّ، الّذي يرى في غير الأبيض وحشًا يهدّد كيانه ووجوده وبقاءه. ولأنّه ينظر إلى هذا ’الحيوان‘ من منطلق الدونيّة، فيسمح لنفسه أن يتعامل معه بأدوات قمعيّة مميتة، كالّتي تُرْجِمَت بتسديد ضربات غير متوقّفة على قطاع غزّة، حتّى الموت والدمار الكلّيّ.

ما زال غالانت، ككثيرين من مفكّري إسرائيل وسياسيّيها، وحتّى من مثقّفيها، ينظرون إلى الفلسطينيّ، وبالأحرى إلى العرب عمومًا، بصفتهم ’حيوان بشريّ‘...

وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما صرّح به غالانت في أعقاب العمليّة الّتي قامت بها «حماس» في مستعمرات غلاف غزّة، فإنّه تجاوز النتائج الّتي خلّفتها هذه العمليّة، وعمل على نزع الإنسانيّة عن الفلسطينيّين وشرعيّة أن يكونوا ’إنسانيّين‘. فإذا عدنا إلى نصوص دعاة الاستعمار الأوروبّيّ ومفكّريه في أفريقيا وغيرها، من مواقع في العالم في القرن الـ 19، نلحظ تلك النظرة إلى اعتبار الأفارقة ’وحوشًا‘؛ أي حيوانات. ولكونهم حيوانات متوحّشة يجب التعامل معها بما يتلاءم معهم. وما يتلاءم معهم، من خلال فهم خطاب غالانت، هو حرمانهم من حقّ الحياة، وممّا يسند حياتهم ويسيّر منظومتها؛ أي قطع سبل الحياة حتّى يموتوا.

ومن الطبيعيّ أنّ هذا الخطاب الأبيض الفوقيّ والاستعلائيّ والعنيف، مؤسَّس على رؤية إسرائيل لنفسها بوصفها الدولة المستنيرة الوحيدة في الشرق الأوسط. وبالتالي، يرتبط هذا التوجّه مع ما صرّح به رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو أنّ ثمّة حربًا بين ’عالم النور‘ و’عالم الظلمات‘. وهذا خطاب نرى أسسه في فكر توراتيّ فوقيّ يعتبر أنّ اليهود هم شعب مختار، حظي بمنحة من النور الروحيّ والفكريّ وأصالة الحياة، وأنّ ’عالم الظلمات‘ لا يستحقّ أيًّا من هذه الهبات والعطايا، بل يستحقّ السحق والقتل والتصفية. وبالرغم من أنّ نتنياهو ليس متديّنًا، لكنّه مشبع بفكر صهيونيّ اختلطت به قواعد وأسس مقتبسة من النصوص التوراتيّة الّتي تساند خطابه المتغطرس.

 

أوروبّا... وراء أمريكا في كلّ مكان 

استخدام سياسيّين إسرائيليّين لمثل هذه العبارات ذات الدلالات الفوقيّة والاستعلائيّة، حملوها معهم من مصادر متعدّدة، تتماهى مع رؤيتهم الكولونياليّة؛ فهم من المستوطنين الّذين وصلوا إلى فلسطين ضمن المشروع الصهيونيّ في القرن الماضي، بكلّ ما يحمله من توجّهات ورؤًى سياسيّة وفكريّة. كلّ هذا المخزون ينعكس في حياتهم وتصريحاتهم الّتي تُسْقِط الشرعيّة والإنسانيّة عن المستعمَر؛ أي الفلسطينيّ، وتبرّر أعمال المستعمِر الإسرائيليّ، وتزداد عمقًا في نفيها وجود الفلسطينيّ صاحب البلاد الأصلانيّ.

وكانت رئيسة «المفوّضيّة الأوروبّيّة» أورسولا فان دير لاين، في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2022، مع اشتداد الحرب في أوكرانيا، وكذا وزير خارجيّة الولايات المتّحدة أنتوني بلينكن، قد صرّحا أنّ الهجمات الروسيّة تستهدف البنية التحتيّة للمدنيّين؛ بِنِيّة واضحة لحرمان الرجال والنساء والأطفال؛ بقطع الماء والكهرباء والتدفئة مع قدوم فصل الشتاء، وقد وصفتها لاين بالـ "أعمال الإرهابيّة المحضة". في حين أنّ خطابها وبيانها فور وقوع عمليّة 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، في المنطقة المسمّاة إسرائيليًّا «غلاف غزّة»، خلا من أيّ شجب للخطاب الإسرائيليّ الّذي صرّح به غالانت أعلاه. وهذا يعني موافقتها على قطع سبل الحياة ومكوّناتها الرئيسيّة. هنا، وقع الخطاب الكولونياليّ في تبنّيه معايير مزدوجة في تعامله مع أزمات قد تكون في بعض مكوّناتها متشابهة. لكن، من الواضح أنّ صمت دير لاين أثار حفيظة موظّفي «الاتّحاد الأوروبّيّ» الّذين اتّهموها بهذه الازدواجيّة، داعين إيّاها إلى تبنّي خطاب مغاير يأخذ بعين الاعتبار الحالة الفلسطينيّة.

عرّت أزمة غزّة أوروبّا بالكامل، وبيّنت مَنْ الرجل الأبيض المتمسّك ببياضه، ومَنْ الأكثر انفتاحًا وعلى استعداد لفتح باب الحوار وقبول الآخر...

وهذا، بلا أدنى شكّ، يدلّل على التخبّط الّذي تعيشه الدول الغربيّة، وتحديدًا الأوروبّيّة، في أوقات الأزمات، فقد عرّتها غزّة بالكامل، وبيّنت مَنِ الرجل الأبيض المتمسّك ببياضه، ومَنِ الأكثر انفتاحًا وعلى استعداد لفتح باب الحوار وقبول الآخر ضمن سياق أوروبّيّ يسعى إلى التغيّر.

لم تأتِ مواقف الدول الأوروبّيّة الداعمة لإسرائيل إلّا على خلفيّة وقع قدمَي الرئيس الأمريكيّ جو بايدن، الّذي صرّح مباشرة بأنّ من حقّ إسرائيل الدفاع عن نفسها، وأنّ بلاده والعالم الحرّ ستقف إلى جانب إسرائيل في محاربتها ’البربر‘ و’الهمج‘. مثل هذه الأوصاف ليست غائبة عن نصوص الخطاب الكولونياليّ الّذي ينظر إلى الشعوب العربيّة كافّة بكونها متوحّشة، ويجب ترويضها وإخضاعها لتسير في دروب الحرّيّة والديمقراطيّة؛ فالقلق الأمريكيّ على مصير إسرائيل دفعه مع آخرين إلى حماية هذه القلعة الّتي تمثّل شجرة الديمقراطيّة في منطقة خالية منها. ليست الحماية فقط عسكريًّا-أمنيًّا، إنّما حماية للـفكرة نفسها.

 

لماذا كلّ هذا النفاق؟

مقابل نظرة الأبيض الكولونياليّة المرتعب على حضوره، تبرز في أوروبّا تيّارات مناهضة لتمسّك الأنظة وقوًى سياسيّة واجتماعيّة بـ ’الأبيض‘؛ فجاء خطاب ريتشارد بويد، النائب في البرلمان الإيرلنديّ؛ لينسف بياض الرجل الأبيض؛ معبّرًا عنى ذلك الجانب من أوروبّا الّذي يطمح إلى أن ينفض عن جلده الأفكار الفوقيّة والاستعلائيّة، وتفضيل اللون الأبيض على سواه. ومن الجيّد أن نقرأ بعضًا من مداخلته: "يظهر أنّ التعامل مع الشعب الفلسطينيّ ككلّ عرق أدنى؛ أعني أنّه لا يصبح أقوى من هذا. أنت سعيد باستخدام أقوى – وأصلب - لغة بشكل صحيح لوصف جرائم فلاديمير بوتين ضدّ الإنسانيّة، لكنّك لا تستخدم اللغة الحازمة ذاتها لوصف معاملة إسرائيل للفلسطينيّين، الّتي جرى توثيقها وتفصيلها من قِبَل أهمّ مؤسّستَي حقوق إنسان في العالم. ولكي نكون صادقين؛ فإنّ أيّ شخص ينظر بأمانة إلى عقود من الاضطهاد الوحشيّ واللاإنسانيّ للفلسطينيّين، والاعتداء على غزّة، وضمّ الأراضي، وتطبيق قواعد الفصل العنصريّ. أنت لا تريد حتّى استخدام عبارة ’فصل عنصريّ‘ بغضّ النظر عن العقوبات... خمسة أيّام عقوبات ضدّ بوتين وبلطجيّته، وسبعون عامًا من قمع الفلسطينيّين... ما الكلمة الّتي استخدمتموها؟".

إنّ الخطاب الأبيض في أزمة حقيقيّة في أوروبّا؛ فتيّار مُصِرّ على التمسّك بمسطرة قياسات للشعوب، وتيّار آخر يرفض هذه المسطرة، وينادي بإنسانيّة صرفة...

إنّ الخطاب الأبيض في أزمة حقيقيّة في الدول الغربيّة، وتحديدًا أوروبّا؛ فتيّار مصرّ على التمسّك بمسطرة قياسات للشعوب، وتيّار آخر يرفض هذه المسطرة، وينادي بإنسانيّة صرفة. وهنا يندرج خطاب راؤول هيدبو، النائب في البرلمان البلجيكيّ: "إلى متى يستمرّ الاعتداء الصهيونيّ؟ هذا هو السؤال الّذي أطرحه هنا منذ أسابيع... حين تعلّق الأمر بروسيا فالعقوبات تصدر بسرعة... إذا تعلّـق الأمر بإيران فالعقوبات آنيّة... لكن لمّا يتعلّق الأمر بالشعب الفلسطينيّ فهنا لا وجود للعقوبات، ولا حتّى للتنديد من طرف حكومتنا". ويضيف مركّزًا كلمته حول النفاق السياسيّ الّذي تتبنّاه الدول الغربيّة: "جموع دول الجنوب تجد أنّ التموقع والموقف للدول الغربيّة وأمريكا هو النفاق". ويضيف: "لديهم الحقّ في أن يفكّروا هكذا. الشعوب الأفريقيّة والآسيويّة، وهم يشاهدوننا يتساءلون: لماذا كلّ هذا النفاق؟".

ويُتَوَّج النفاق السياسيّ باستعلاء أمريكيّ واسع النطاق في تصريحات الرئيس بايدن طوال الأسابيع الماضية، منذ انطلاق العمليّة في 7 تشرين الأوّل (أكتوبر)؛ إذ أُطْلِق موسم الحجيج الغربيّ إلى إسرائيل؛ فقد زارها هو، ورئيس فرنسا، ورئيس حكومة ألمانيا، وبريطانيا؛ للتعبير عن وقوفهم إلى جانب صرح الديمقراطيّة، وممثّلة الحضارة المستنيرة في منطقة الشرق الأوسط. وهذا دعم غير مسبوق على الأصعدة الفكريّة والثقافيّة والحضاريّة، إلى جانب، بطبيعة الحال، الدعمين العسكريّ والماليّ. كلّ هذا لتبقى إسرائيل ذات الحقّ الإنسانيّ في الحفاظ على إنسانيّتها، وإنسانيّة العالم الغربيّ معها وحضارته الراقية، ولا أهمّيّة ولا مكانة للإنسان الفلسطينيّ، فهو من ’الحيوانات البشريّة‘.

 


 

جوني منصور

   

 

 

مؤرّخ ومحاضر فلسطينيّ من حيفا، له إصدارات عديدة منها «شوارع حيفا العربيّة»، «الاستيطان الإسرائيليّ»، «مسافة بين دولتين»، «إسرائيل الأخرى»، و«الخطّ الحديديّ الحجازيّ».