النكبة مجدّدًا في بثّ حيّ ومباشر

طفل نازح إلى مخيّم للأونروا جنوبيّ قطاع غزّة، 19/10/2023 | بلال خالد، Getty.

 

بدأت الصور تأتي تباعًا على شاشة الموبايل: الصعود على دبّابة والرقص فوقها؛ مصادرة جيبّات عسكريّة إسرائيليّة؛ جنود يُقادون ورؤوسهم في الأرض. كان هذا بكلّ بساطة تدميرًا لصورة الجنديّ الإسرائيليّ الّذي لا يُهْزَم. سألت نفسي يومذاك: ما الثمن الّذي ستدفعه غزّة، وربّما وحدها، مقابل هذه الساعات القليلة من هذا الطوفان؟ المهزوم غير قادر على السخرية، والضحايا حين يسخرون فهم يسخرون من أنفسهم، لكن حين يستطيعون السخرية من عدوّهم فهذا شيء يكافئ الإحساس بالنصر أو يعوّضه.

في الأيّام التالية، صارت الصور تأتي من غزّة، أبراج وبيوت ومبانٍ من مدارس ومستشفيات وكنائس ومساجد ومكاتب للأمم المتّحدة، كلّها تنهار واحدة بعد الأخرى، وتنهار معها كلّ القيم الإنسانيّة، وقواعد الحرب، ومبادئ السياسة العالميّة. الركام والأشلاء تقفز من شاشة الموبايل وتستقرّ في دماغي. صور دامية تبقى مستيقظة لساعات، بل لأيّام وهي تتحرّك بالصوت والصورة في الذاكرة. وتتوالى الصور بلا انقطاع، بعضها يغطّي على بعضها الآخر، وبعضها يأخذ كامل انتباهي وحيّز انشغالي النفسيّ، خاصّة تلك الّتي تفوق بوحشيّتها كلّ ما يمكن تخيّله، أو تلك الّتي تفجّر مواقف إنسانيّة مؤلمة بشكل نادر، ولا يمكن بأيّ حال نسيانها: مثل صور الأمّهات وهنّ يكتبن أسماء أطفالهنّ على أيديهم للتعرّف على جثثهم بين الركام، أو الصبيّ الّذي كان يحمل أخاه الصغير المقتول، ويقف منتظرًا الدور في الحصول على كفن، أو الرجل الّذي كتب على الكفن الأبيض الملفوف حول جسد امرأته: حامل في الشهر السادس.

تمنعني هذه الصور من النوم، من شدّة ألمها الإنسانيّ وعمقه، تجعل ملامحي تتدلّى في المرآة صباحًا، كألوان سالت من لوحة. أسأل نفسي إلى أيّ مدًى يمكن لقدرة الإنسان على القتل أن تصل؟ ليست قدرته الآليّة بل النفسيّة. وفي المقابل، إلى أيّ حدّ قد تصل قدرة الإنسان على تحمّل الألم والمعاناة؟ هذان السؤالان كانا محاولة يائسة داخلي؛ لخلق حدود وإطار لما سيقع من فظائع لا تحدث في زمننا الحاضر إلّا في مدينة كغزّة.

 

التغطية الفرنسيّة 

في الأيّام الأولى، احترت في أن أشاهد الأخبار على أيّ قناة، اخترت «قناة آرتي» الفرنسيّة، على الثامنة إلّا ربعًا مساء، ثمّ مشاهدة أخبار الثامنة في قناة «فرنسا الثانية»، والقناتان تعكسان ميولًا يساريّة. تجنّبت النظر إلى القناة «الفرنسيّة الأولى» الّتي تحمل توجّهات يمينيّة؛ فلم أكن أملك من القدرة النفسيّة ما يسعفني على تحمّل ما يمكن سماعه من دجل سياسيّ وإعلاميّ، ومن بروباغندا وتهميش فظيع للأهوال البشريّة الّتي تحدث في غزّة. في الوضع الطبيعيّ يصيبني فضول لمعرفة ما تقوله القنوات اليمينيّة، لكن ليس في الحالة الّتي كنت فيها في الأيّام الأولى للأحداث.

ما يحدث في غزّة فيأتي في أحسن الحالات لصور بناية مدمّرة، لصور جموع من الناس تصرخ، لعبارات بكائيّة واستنجاد، لكنّها لا تقدّم قصص الناس وحكاياهم على شكل ريبورتاج سريع كما يفعلون عادة في تغطيتهم لأحداث أوكرانيا وإسرائيل...

ما كانت تعرضه «قناة آرتي» ذات التوجّهات اليساريّة لا يشفي الغلّ، تذكر قليلًا ما يحدث في غزّة، وتعرض باهتمام خاصّ ما يجري في إسرائيل. و«القناة الثانية» ما تكرّسه من مساحة لغزّة أقلّ من «قناة آرتي». تبدأ بالضحايا الإسرائيليّين، تعرض قصصهم، نرى ملامحهم ومشاعرهم كاملة على شاشة التلفاز، أمّا ما يحدث في غزّة فيأتي في أحسن الحالات لصور بناية مدمّرة، لصور جموع من الناس تصرخ، لعبارات بكائيّة واستنجاد، لكنّها لا تقدّم قصص الناس وحكاياهم على شكل ريبورتاج سريع كما يفعلون عادة في تغطيتهم لأحداث أوكرانيا وإسرائيل، ولا يُظهرون حجم معاناة الناس في غزّة الّتي فاقت كلّ تصوّر، بل تُذْكَر الخسائر باقتضاب، ومن باب المهنيّة الإعلاميّة المفروضة عليهم.

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ هذه القنوات تقدّم تغطية جزئيّة وموجّهة للمعلومات، تستخدم مصطلح ’المدن الإسرائيليّة‘ لوصف التجمّعات السكنيّة في ما يسمّى بـ «غلاف غزّة». وتطلق القنوات الفرنسيّة والأوروبّيّة لفظ ’مخطوفين‘ على الأسرى الإسرائيليّين في أيدي «حماس» وغيرها، بينما يطلقون كلمة ’السجناء‘ على الأسرى الفلسطينيّين في سجون إسرائيل. لا توحي كلمة ’سجين‘ بشرعيّة الحكم الصادر في إطار القانون، بينما كلمة ’مخطوف‘ تشير إلى جريمة بحقّ أفراد اخْتُطِفوا خارج القانون. لذا؛ لا يتساوى ’المخطوفون‘ الإسرائيليّون بـ ’السجناء‘ الفلسطينيّين حتّى لو بلغ عددهم الآلاف، وكان من بينهم نساء وأطفال.  

تقدّم القنوات الفرنسيّة «حماس» على أنّها «داعش»، ولم يكن هذا صعبًا، تطابقت لديهم الصورتان بسهولة جدًّا وسرعة قصوى، فرواية إطلاق النار على راقصين في حفلة، تذكّرهم بمشاعر سوداء وأليمة عن إطلاق النار في عمليّة إرهابيّة على الراقصين في المقهى الليليّ «بيتاغلانك»، الّذي وقع في باريس قبل سنوات، لكن لا أحد يسأل أو يسائل الراقصين الإسرائيليّين عن كونهم جنودًا، أو كانوا جنودًا وهم في الاحتياط، أو عن مدى قدرتهم النفسيّة على الرقص والاحتفال، على بعد بضعة كيلومترات من مدن وقرىً ومخيّمات محاصرة، يعيش فيها أكثر من مليوني إنسان هم بغالبيذتهم من أحفاد اللّاجئين، حرّيّتهم مسلوبة منذ عشرات السنين، ويعيشون تحت خطّ الفقر بفعل الاستعمار. لا أحد يسألهم عن مدى بلادة الإحساس وانعدام الأخلاق في أن تذهب للرقص في حفلة قرب أكبر سجن في العالَم، لأناس يعيشون مخنوقين ومحرومين ومسلوبي الحياة والحرّيّة، بل وعلى أرضهم الّتي هُجِّروا منها.

 

فلسطينيّ في الغرب

الصعب هنا في فرنسا أنّ عليّ الاستمرار في حياتي رغم كلّ ما أراه وأسمعه، أن أذهب للعمل وأنفّذ مهامّي بتركيز كافٍ، وأن أبقى فاعلًا رغم كلّ الصور الّتي تنزف داخل رأسي. بينما تُمْنَع معظم المظاهرات في هذا البلد، يُمْنَع رفع العلم الفلسطينيّ وتجري شيطنته. حتّى «جامعة باريس» الثامنة، الّتي هي تاريخيًّا معقل المناصرين للقضيّة الفلسطينيّة، أُزيلَت فيها الشعارات المتضامنة مع فلسطين والأعلام الّتي وضعها بعض الطلّاب في الأيّام الأولى للأحداث. بقيت عبارة واحدة معلّقة داخل الحرم الجامعيّ: "مناصرة الشعب الفلسطينيّ ليست جريمة". ولم يستطع الطلّاب تنظيم تظاهرة فيها إلّا بعد أسبوعين من المجازر المتواصلة في غزّة. رغم الموقف الفرنسيّ الرسميّ المتواطئ، كان هناك بعض النوّاب الفرنسيّين الّذين علت أصواتهم ضدّ مبدأ الكيل بمكيالين، ودعوا أوروبّا لتحمّل مسؤوليّاتها الإنسانيّة والأخلاقيّة تجاه ما يعيشه الفلسطينيّون من إبادة، لكنّ هذه الأصوات قليلة في الساحة السياسيّة الفرنسيّة، وليس لها ثقل كبير.

في كلمة متلفزة للرئيس الفرنسيّ ماكرون، لا يقدّمها عادة إلّا للتعليق على شأن فرنسيّ محلّيّ، صرّح قائلًا: "فرنسا تساند إسرائيل مساندة كاملة"، دون إشارة واضحة لما يتعرّض له الفلسطينيّون من مجزرة. جاءت كلمته قبل نشرة أخبار الثامنة، وكان صادمًا الفارق بين ما جاء في كلمته وما تبثّه الصور عن سكّان غزّة؛ من أطفال ونساء يصرخون من تحت الركام والبنايات الساقطة على رؤوسهم. قالت زوجتي الفرنسيّة إنّها شعرت بالخيبة من خطابه، أمّا أنا فشعرت بالقرف والغضب.

يبدو أنّ الأوروبّيّين في أعماقهم، أو في لاوعيهم الواعي، يشعرون بالارتياح أمام الجرائم الّتي ترتكبها إسرائيل في حقّ الفلسطينيّين...

 

ثمّة فكرة تراودني أحيانًا، يبدو أنّ الأوروبّيّين في أعماقهم، أو في لاوعيهم الواعي، يشعرون بالارتياح أمام الجرائم الّتي ترتكبها إسرائيل في حقّ الفلسطينيّين. ومصدر هذا الإحساس هو أنّ شعورهم بالذنب أمام ما ارتكبوه في الماضي من جرائم في حقّ مواطنيهم من يهود أوروبّا، يجعلهم يشعرون بالارتياح عندما يرون ضحيّتهم نفسها ترتكب جرائم في حقّ آخرين. كأنّ لسان حالهم يقول: إذا كنّا مذنبين فإنّ ضحايانا أيضًا مذنبون.

كنت في المترو حين رأيت على شاشة موبايلي خبر قصف «المستشفى المعمدانيّ»، نظرت إلى توقيت الخبر، كان قبل دقيقة واحدة، تمنّيت لو كان قبل ساعة أو ساعتين؛ لكي أتخيّل أنّ فرق الإسعاف قد وصلت وبدأت تنقذ الناس، وأنّ مَنْ مات مات ولم يَعُدْ يعاني. لكنّي شعرت بأنّي أعيش الحدث، بالتوقيت الحيّ، وهذا أكثر ما هو مؤلم في الخبر. وكنت منذ بداية الأحداث أتمنّى أمام أيّ خبر أن يكون قد حدث وانتهى، لكنّي كنت أعيش المجازر وقت حدوثها؛ لتقليبي الدائم للصور على الشاشة، وهذا ما كاد يسبّب لي انهيارًا عصبيًّا؛ نتيجة العجز عن عمل أيّ شيء غير المشاهدة الحيّة.

من المرعب القول إنّ قصف المستشفى منحني أملًا، قلت لنفسي إنّه الآن سيستيقظ ضمير مَنْ لا ضمير لهم في الغرب، وسينقلب موقفهم تجاه مساندة إسرائيل غير المحدودة، وستتوقّف هذه المجازر المتواصلة للبشر والحجر في غزّة. استطعت تلك الليلة، أن أنام قليلًا، بعد قصف المستشفى؛ نتيجة هذا الأمل الّذي بثّته المجزرة في نفسي؛ فمنذ أسبوع وأنا أصارع النوم، وأشعر بالإنهاك المتواصل أمام هذا المدى المفتوح من العذاب والقهر والعجز. أنام وفي سريري جثث ملفوفة بكفن أبيض لأجساد صغيرة، وفي عيني المغمضتين تتدلّى أشلاء في العتمة.

حين استيقظت صباحًا، وقعت على تصريح للرئيس الأمريكيّ بايدن وهو يقول: "إنّ الطرف الثاني هو مَنْ قصف المستشفى" وليس إسرائيل. شعرت بالمرارة الحارقة، الأمل الّذي جاءت به المجزرة ضاع منّي. إنّهم يزوّرون الواقع الّذي يصلهم بالصوت والصورة والأشلاء. الغرب لمّا يفهم بعد، أنّ القتلة يلهمون بعضهم بعضًا، وما ترتكبه إسرائيل في غزّة سيرتكبه بوتين لاحقًا في أوكرانيا؛ أي في أوروبّا نفسها.

 

الماضي المستمرّ

كنّا نعتقد أنّ النكبة ماضٍ لن يتكرّر، وأنّها حدثت في يوم لا نهار فيه، في غفلة من العالم، ومن وراء ظهور أجدادنا، الّذين لم يكونوا يملكون أدوات لوعي هول ما يحدث حولهم، وأنّهم لم يدركوا حجم الخطط والمشاريع الّتي كانت تُحاك خلف ظهورهم. حدثت في فترة كان فيها الشعب العربيّ منهكًا، متفرّقًا، لا تربطه حتّى وسيلة تواصل اجتماعيّ. وكنّا نقول: "كيف سمح أجدادنا بأن تحدث النكبة؟ كيف تركوا مدنهم وقراهم؟ حتّى لو كانوا تحت الخطر، ألم يجهّزوا أنفسهم جيّدًا، ألم ينتبهوا لما يجري حولهم؟". لكنّها تحدث الآن ونحن بكامل وعينا، ونعيشها بالصوت والصورة، بثًّا حيًّا ومباشرًا وعلى كلّ القنوات، وعلى شاشة أجهزتنا الخلويّة، وعلى مرأًى من العالم كلّه! تحدث بخسارات وفظائع أكبر، تملأ الشاشات الصغيرة والكبيرة والملوّنة والعالية الجودة، ولا نستطيع عمل شيء. ينزح مليون ونصف مليون إنسان حتّى الآن من شمال قطاع غزّة إلى جنوبه، وليس فقط سبعمئة ألف كما حدث في عام 1948.

ما نعيشه الآن مؤلم بشكل خاصّ؛ لأنّا كبرنا على قصص النكبة والنكسة وحكاياتهما، وكلّ ما يحدث الآن يثير عاصفة من الصور والحكايا والمشاعر الّتي استقرّت فينا منذ صغرنا، وساهمت في أمراضنا وهواجسنا وصفاتنا الشخصيّة. النكبة الّتي لم تتوقّف يومًا تحدث الآن من جديد بصورة أكثر مأساويّة، ونحن نشاهدها لحظة بلحظة مصدومين ومكتوفي الأيدي.

ينزح مليون ونصف مليون إنسان حتّى الآن من شمال قطاع غزّة إلى جنوبه، وليس فقط سبعمئة ألف كما حدث في عام 1948...

لكن في هذه المرّة، فإنّ الفظائع الّتي نعيشها الآن تعيشها شعوب كثيرة في هذا العالم الصامت؛ شعوب أكثر من واحد وعشرين بلدًا عربيًّا، فضلًا على بلدان أخرى في كلّ القارّات. الشعوب العربيّة تشعر بالعجز والعار والمهانة أمام ما نحياه من جحيم، وحين تشعر أمّة كاملة بالعار فقد وصلت الرسالة.

نعم، هذا لا يفيدنا بشيء الآن، ولكنّه يعني أنّنا لسنا وحيدين في هذا العذاب الكارثيّ، رغم أنّنا وحيدون في المذبحة. نهتمّ بأوروبّا، وبما تفكّر فيه، وبما تراه وكيف ترانا؛ لأنّها مركز لصنع القرار، ومركز للنفوذ في العالم، نعم، لكن بقيّة دول العالم، رغم ضعفها وغياب ثقلها السياسيّ والعسكريّ ترى وتسمع وتشعر وتحفظ ما نعيشه.

الصور الّتي تتركها هذه المجازر ستستقرّ في الهواتف الشخصيّة لأشخاص كثيرين في هذا العالم العاجز، وفي ذاكرة كلّ فرد منّا. لاحقًا لن نحتاج إلى الذهاب إلى أرشيف في مكتبة أو في مركز معلومات لمعرفة ما جرى، كما هو الحال في أحداث النكبة الأولى في عام 1948، بل إنّ صور ما يحدث لأطفال غزّة هذه المرّة محفوظة في هواتفنا، وفي فيديوهات لا تتوقّف على الدوران، والصراخ فيها لا يكلّ ولا يسكت مع الزمن. وكلّ ما سيبقى من صور، بوحشيّتها غير المألوفة، هي إشارة إلى مستقبل المنطقة، شئنا أو أبينا.

 


 

أنس العيلة

 

 

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ مقيم في باريس، أصدر عدّة مجموعات شعريّة تُرجمت إلى الفرنسيّة، آخرها "عناقات متأخّرة". ينشر مقالاته في مجلّات ثقافيّة وأكاديميّة.