حيث الصواريخ تمحو الوصل

الشهداء باسل الخيّاط وطفلتيه إيلين وسيلين من قطاع غزّة | بإذن من العائلة.

 

التقيت عائلة زوجي الغزّاويّ للمرّة الأولى والأخيرة في يوم زفافنا في عام 2021، والده الجميل، الكادح، أستاذ الرياضيّات الّذي تشهد له رفح بتدريس معظم طلّابها، والدته اللطيفة، البسيطة، المحبّة، الأمّ المتفانية الّتي تصنع أزكى الطعام والكعك في العالم، أخته الصغيرة الحنون ضحى، وأحلامها الكبيرة، وجناحيها الجاهزين للطيران إلى الخارج، والصغير يوسف، صغير في نظري لكنّه يدرس الهندسة في «جامعة الأزهر»، ويسير صوب أحلامه بثقة.

كانت المرّة الأولى لي، ألتقي فيها بعائلة قادمة من غزّة، رغم أنّ غزّة لم تبعد عنّي خلال حياتي سوى كيلومترات معدودة. أثناء عملي في بئر السبع، كنت أزور شاطئ عسقلان باستمرار، وأصوّر الجهة المقابلة له؛ شاطئ غزّة، وأرسل الصور بشكل متتابع إلى أصدقائي الغزّيّين؛ عليا، ومحمّد الشيخ يوسف، ومريم. هذه الأخيرة استشهدت خلال القصف الإسرائيليّ الأخير على قطاع غزّة، ومحمّد توفّي في قطر بسكتة قلبيّة حسرةً في الغربة، وعليا في أبو ظبي وأهلها تحت القصف في شمال القطاع، ينظرون إلى الدبّابات تتوغّل فيه بصمت مطبق؛ خوفًا من قصفهم بتهمة أنّهم ’إرهابيّون‘!

تعرّفت بشكل أكبر على بيت عمّي خلال ذلك الشهر الّذي قضوه في تركيا، وتلاشت كلّ المخاوف حول الأشياء الّتي لن تجمعنا أبناءَ بلاد فرّقت بيننا حدود المحتلّ، وقوانينه، وحصاره للقطاع. اكتشفت للمرّة الأولى، معنى أن يكون الغزّيّ إنسانًا عاديًّا، بأحلام عاديّة عن العمل والدراسة والسفر والصداقة والحبّ والعائلة، وليس بالضرورة رجلًا خارقًا لا تخيفه الانفجارات، وطائرات «إف 16»، وصواريخ الفوسفور المحرّمة دوليًّا.

 

أن تحبّ غزّة من بعيد

لم تسمح لنا فكرة التنسيقات الأمنيّة على معبر رفح البرّيّ، لقاء هديل، وإيلين، وسيلين، وباسل، وفخري، وسندس، وناصر، آنذاك. هديل شقيقة كريم زوجي، باسل زوجها، إيلين وسيلين بنتاهما، فخري شقيقه الأكبر، سندس زوجته، وناصر ابنهما. على الغزّيّ أن يدفع مبالغ طائلة بما يُسَمّى ’التنسيق الأمنيّ‘ للجيش المصريّ؛ كي يتمكّن من الخروج من «معبر رفح». وكان من الصعب على العائلة أن تأتي دفعة واحدة، فاكتفوا بمجيء نصفها؛ على أمل اللقاء بالآخرين لاحقًا.

لكنّي أفكّر الآن، منذ بداية هذه الحرب، واستشهاد هديل وزوجها وبناتها وأبنائها، ماذا لو سمحت لي الحدود بلقائهم حقًّا؟ أيكون الحزن مضاعفًا، أم أنّ العائلة هي العائلة، حتّى لو لم نلتقِ إلّا من خلال محادثات الفيديو؟

 

الشهيدان هديل الخيّاط (أبو الروس) وطفلها محمود.

 

قبل ثلاثة أشهر، وُلِدَ ابني غسّان، ابننا الأوّل، يحمل هويّة مركّبة؛ أمّه من الجليل الأعلى، ووالده من غزّة، يسكن مخيّم اللاجئين يبنا في القطاع. هديل كانت حاملًا بطفلها الرابع محمّد حين كنت حاملًا بغسّان، ومررنا معًا بمرحلة الحمل الطويل وتعبه وانتظار الولادة؛ فكنّا نتحدّث كلّ بضعة أيّام لنطمئنّ. كانت أيّامها في الحمل صعبة بوجود ثلاثة أطفال: إيلين ابنة الأعوام السبعة، وسيلين ابنة الأعوام الخمسة، ومحمود بعام واحد فقط. كانت تقول في كلّ محادثة إنّني محظوظة لأنّي حامل بالطفل الأوّل، دون وجود أطفال آخرين يطلبون الاهتمام والحبّ والرعاية.

عند ولادة ابني، اتّفقت مع هديل على محاولة اللقاء في مصر أو تركيا في الصيف القادم، حتّى يتعرّف أبناؤها على غسّان، ويتعرّف هو على إيلين وسيلين ومحمّد ومحمود، لكنّ الصواريخ الإسرائيليّة القاتلة، حطّمت كلّ أحلامنا باللقاء، ومنعت غسّان من رؤية عمّته وأولادها وزوجها، ومنعت زوجي من رؤية أبناء أخته الّذين وُلِدوا بينما هو في الغربة، ومنعتني أنا، من احتضان أخت زوجي الأقرب.

 

"خالو خذنا عندك"

تتّصل هديل في أيّام الجمعة بشكل ثابت منذ زواجنا، تأتي إيلين وسيلين ضاحكتين صاخبتين إلى محادثة الفيديو "خالو كريم متى بدّك تيجي؟"، يخبرهما كريم أنّه لا يستطيع المجيء إلى غزّة رفقتي، وعليه البقاء معي في الخارج، فتقول له سيلين بشغب: "خذنا عندك خالو... أمانة"!

تتسابق كلٌّ منهما إلى الرسمات الّتي ترسمانها في حصص الفنون، وتأتيان لترياها كريمًا، تقول إيلين دومًا بأنّها ستصبح فنّانة بالتأكيد، ترسم بحرفيّة لا يتمتّع بها الكثير في السابعة من العمر. قبل أيّام من بدء الحرب، أرسلت هديل رسمة إلى كريم، رسمت فيها إيلين خالها وأنا وغسّان. تُرى، هل بإمكاننا نحن الذهاب إليهم الآن؟

قتلت إسرائيل عائلة هديل كاملة، لم يتردّد المجنّد في جيش الاحتلال من رمي الصاروخ على العائلة المختبئة في غرفة المعيشة. في يوم 13/10/2023، عند الساعة الثامنة صباحًا، أرسلت إليّ هديل رسالة تقول بأنّها تريد رؤية غسّان، وأرسلت أيضًا صورًا لمحمّد ابن الشهر والنصف، الّذي وُلِد مع ابني في ذات الفترة، ثمّ قالت لي: لا تقلقوا، أخبري كريمًا أنّنا بخير، وأنّنا نجلس جميعًا في غرفة المعيشة، مع عمّتي وزوجها وأبنائها.

بعد ساعة واحدة من هذه المحادثة، كنت أقلّب في الأخبار على تطبيق «تليغرام»، وباغتتني رسالة تقول: "قصف منزل لعائلة الخيّاط في حيّ الجنينة". كان هذا البيت بيت هديل وباسل، كان بيت إيلين وسيلين اللتين أحببتهما لحبّ خالهما لهما، استشهد كلّ مَنْ كان في البيت، سبعة عشر شخصًا، باستثناء طفلة واحدة تبلغ ثمانية أعوام.

 

أسماء الشهداء في القصف:

المهندس باسل محمود الخيّاط.

هديل ناصر الخيّاط (أبو الروس).

إيلين باسل الخيّاط (7 سنوات).

سيلين باسل الخيّاط (5 سنوات).

محمود باسل الخيّاط (سنة وثلاثة أشهر).

محمّد باسل الخيّاط (42 يومًا).

الدكتور محمّد ديب الخيّاط أبو باسل.

رجاء فخري الخيّاط (أبو الروس).

الدكتور تامر محمود الخيّاط.

الدكتورة رزان عوني الخيّاط.

ابنتهما روز تامر الخيّاط.

هبة محمود الدربي (الخيّاط).

عمر محمود الدربي.

جنان محمود الدربي.

بنان محمود الدربي.

إيلياء محمود الدربي.

 


 

ميساء منصور

 

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة متخصّصة في الدراسات العربيّة والإسلاميّة.