نزع الإنسانيّة كي تكون الإبادة

غزّيّ يودّع شهيدًا(ة) من أقاربه بعد قصف إسرائيليّ، 25/10 | عبد زقّوت (Getty).

 

منذ حداثتها، اعترفت الدول الأوروبّيّة بثقافات وحضارات غيرها من الشعوب، ولكن ليس باعتبارها تعبيرًا عن تنوّع بشريّ، وإنّما باعتمادها أساسًا لممارسة القمع والاستغلال؛ فصنّفت شعوب الأرض وثقافاته ضمن بنًى وعلاقات هرميّة؛ هي العليا وما دونها في مكانة دنيا. وقدّمت نفسها، بثقافتها ومعارفها، معيارًا تقيس من خلاله ما عند غيرها، فمَنْ يشبهها فهو آمن، ومَنْ يختلف عنها في لغته ودينه ولون جلده وغيره، يحلّ اضطهاده.

هكذا، حملت أوروبّا البيضاء راية التحضّر، وجابت أسقاع الأرض تنهب البلدان وتُهْلِك أهلها، تراهم بشرًا غير مكتملين، تصفهم بحشرات البقّ، أو تصدّق أنّ لهم ذيول كلاب ورؤوسها. هكذا فعلت فرنسا وإيطاليا وألمانيا والبرتغال وبلجيكا وإنجلترا وهولندا وغيرها. هكذا فعلوا بأصحاب البلاد في أمريكا، بشمالها وجنوبها، وبأصحاب البلاد في أفريقيا، بشمالها وجنوبها. هكذا فعلوا بآسيا في شرقها، وهكذا يفعلون بنا في غربها.

 

نزع الإنسانيّة باسم الاختلاف

لقد قامت حداثة أوروبّا على منظورات عنصريّة، وعلى ممارسات دمويّة، تجسّدت في خطاب ينزع عن الشعوب إنسانيّتها. لم يكن ذلك لغويًّا فقط، بنعت الشعوب المستعمَرة بالحيوانات مثلًا، أو بالحيوانات البشريّة، ترميزًا أو استعارة، أو لإلحاق الضرر بهم معنويًّا، بل استخدمته أوروبّا وسيلة، من ضمن وسائل أخرى، للقضاء على الشعوب فيزيائيًّا.

إنّ خطاب نزع الإنسانيّة عن الآخر، الغريب المختلف، يتضمّن تصويره على أنّ فيه من النقص والعيوب ما يجعله أقرب إلى الحيوانات، أو الجمادات، منه إلى البشر. هذا التعامل يجرّد الآخر، أوّلًا، من صفات الإنسان وسماته مثل التحضّر والعقلانيّة والمكانة الأخلاقيّة، كما ويجرّده، ثانيًا، من المشاعر الإنسانيّة؛ فيُرى كأنّه فارغ من الإحساس؛ لا يحبّ ولا يتعاطف، لا يحزن ولا يشعر بالآلام ولا بالأوجاع، ويُشَكَّك في معاناته بل حتّى في موته. هل حقًّا يعاني كما يعاني البشر؟ وهل حقًّا يموت مثلما يموتون؟

كلّ ذلك يؤدّي إلى، وينبع من، رؤية الآخر على أنّه أقلّ استحقاقًا للاعتبارات الأخلاقيّة، ولا حقّ له في التمتّع بالحقوق الّتي يتمتّع بها مَنْ هم في خانة البشر. لذلك لا يجري التعامل مع اضطهاده وقمعه بوصفه خطأ أخلاقيًّا، بل تُطَبَّع ممارسة العنف أيضًا تجاهه بلا تردّد.

يحاول المضطهِد أن يعيد تشكيل علاقات الآخر بالزمان والمكان؛ فزمانيًّا، يسعى المضطهِد إلى تبيين الآخر كأنّ لا ماضي له ولا تاريخ، ويصوّره كمَنْ لا أحلام له ولا غد...

بوجود هذا الخطاب، يحاول المضطهِد أن يعيد تشكيل علاقات الآخر بالزمان والمكان؛ فزمانيًّا، يسعى المضطهِد إلى تبيين الآخر كأنّ لا ماضي له ولا تاريخ، ويصوّره كمَنْ لا أحلام له ولا غد، بل يهدف إلى القضاء على مستقبله؛ فيتعامل المضطهِد مع مَنْ ينزع عنه إنسانيّته بأنّه عالق في الحاضر فقط، يعيش ليصارع ويقاتل لمجرّد البقاء، كما الحيوانات تحاول بغريزتها أن تنجو، وليس كما البشر، يحيون ضمن حضارة بشريّة، ويعيشون لتحقيق تطلّعات لهم في المستقبل، وكاستمراريّة لتاريخ هم امتداد له. ومع حصر الآخر في حاضره زمانيًّا، فإنّه كذلك يكون عرضة لمحاولة حصره مكانيًّا، وذلك بجعله مقيّدًا، عالقًا في مكانه، ومقصيًّا عن محيطه. لا يكون حرًّا في اتّصاله بالعالم متى يرغب، كأنّه ليس جزءًا منه، كأنّه لا ينتمي إليه.

 

خلق الهوّة النفسيّة

هذا التجريد للشعوب من إنسانيّتها ركيزة مهمّة من ركائز الإبادة؛ لكنّ هذا لا يعني أنّ الاستعمار يبيد المستعمَرين لأنّه يراهم حيوانات بشريّة؛ إذ إنّ إبادتهم لا تُفَسَّر ولا تُفْهَم نتيجة للإيمان بوجودهم كائناتٍ لا ترقى إلى البشر، ولا يعني أيضًا أنّ لدى المستعمِر من الأخلاق ما يمنعه من أن يكون دمويًّا تجاه مَنْ هم في خانة البشر، وأنّه يبيد فقط مَنْ يؤمن بأنّهم بشر غير مكتملين؛ فالاستعمار دومًا ما يمارس عنفه لتحقيق أهدافه في كلّ أحواله، بغضّ النظر عن معتقداته؛ سواء حقًّا آمن بأنّ مَنْ يقتلهم ليسوا بشرًا تمامًا، أو آمن بأنّهم بشر مثله، أنداد له وأعداء.

المقصود بأنّ نزع الإنسانيّة ركيزة مهمّة في الإبادة من حيث كونها وسيلة، من ضمن وسائل أخرى، يلجأ إليها الاستعمار ليمارس عنف الإبادة تجاه الشعوب، وليحقّق مراده؛ فالدور الّذي يلعبه خطاب نزع الإنسانيّة عن الآخر في عمليّة الإبادة يكمن في أنّه، أوّلًا، يسهم في تمكين المضطهِد من أن يبيد؛ وثانيًا، يشرعن عمليّة الإبادة؛ وثالثًا، يحفّزها ويشجّع عليها؛ فمن حيث المساهمة في التمكين، فإنّ سعي المضطهِد لتصوير المضطهَد على أنّه حيوان بشريّ، يخلق هوّة نفسيّة عنده تجاه مَنْ يعتدي عليه؛ الأمر الّذي يمكّنه بشكل أكبر من ممارسة أقصى درجات العنف عليه دون تردّد؛ إذ تحظى عمليّة الإبادة بالقبول النفسيّ والأخلاقيّ لديه.

يؤدّي نزع الإنسانيّة عن الآخر الغريب إلى شرعنة فعل الإبادة؛ فبتصويره على أنّه الحيوان البشريّ الهمجيّ، تُعْطى المبرّرات والحجج، وتأخذ القيود الأخلاقيّة بالتلاشي...

ويؤدّي نزع الإنسانيّة عن الآخر الغريب إلى شرعنة فعل الإبادة؛ فبتصويره على أنّه الحيوان البشريّ الهمجيّ، تُعْطى المبرّرات والحجج، وتأخذ القيود الأخلاقيّة بالتلاشي؛ لتسمح للمستعمِر أن يمارس، بشكل ’شرعيّ‘، الجرائم والمجازر الّتي قد تكون في ظروف أخرى أفعالًا محرّمة يعاقب عليها القانون؛ إذ يريح نزع الإنسانيّة ضمائر المشاهدين، ويصبح من السهل على العالم أن يتفهّم، ويتقبّل، ويوافق على الوحشيّة الّتي يمارسها المستعمِر ضدّ الشعوب الّتي تُصَوَّر على أنّها بشر غير مكتملين، دون أدنى شعور بالندم أو بالذنب أو العار؛ فمَنْ هو إنسان غير مكتمل، أو حيوان بشريّ، لا يكون عقلانيًّا، ولا أخلاقيًّا، ويكون عنيفًا لا يعرف الحوار، فتستوجب ممارسة العنف ضدّه؛ كونها اللغة الوحيدة الّتي يستطيع فهمها. بهذا؛ يصير العنف شرعيًّا لا غبار عليه.

ولا يقف الأمر عند ذلك فحسب، فخطاب نزع الإنسانيّة لا يؤدّي فقط إلى شرعنة عنف الإبادة وقبول العالم بها دون شعور بالندم، بل يحفّزها أيضًا ويشجّع عليها؛ فتصدير صورة الآخر على أنّه البربريّ المتوحّش فيه تضمين على أنّه لا يشكّل تهديدًا للمستعمِر المباشر فحسب، بل على المحيط المجاور كذلك. وعليه؛ أخذت الدول الأخرى تشجّع المستعمِر للقضاء على ما هو همجيّ؛ في سبيل توفير الأمن والحماية لعالمهم، فيحصل المستعمِر؛ نتيجةً لذلك، على كلّ ما يلزم من دعم، ويحظى بالامتياز بأن يكون الحامي والمخلّص الّذي سيحمي نفسه والآخرين من الحيوان المتوحّش.

 

إحلال الإنسانيّة لنزعها

يجادل كارل شميت في كتابه «مفهوم السياسيّ» (1927)، بأنّ مفهوم الإنسانيّة إنّما وضعه الغرب الاستعماريّ الحديث ليكون أداة أيديولوجيّة يحقّق من خلالها مصالحه، ويوسّع نفوذه؛ فإحلاله للإنسانيّة لم يكن إلّا لنزعها عن عدوّه، الآخر الغريب عنه. بهذا؛ يعطي لنفسه المبرّرات والشرعيّات لاستباحته؛ بصفته خارجًا عن القانون الإنسانيّ، دافعًا الحرب ضدّه بأقصى درجات وحشيّتها. لقد وُضِعَت الإنسانيّة، كما حال مفاهيم التحضّر والسلام والعدالة؛ لتكون الحروب والإبادات باسمها؛ فأكثر الحروب شراسة ودمويّة شنّها الاستعمار باسم السلام، وأكثر عمليّات الاضطهاد والقمع سوّغها باسم الحرّيّة، وأبشع البربريّات قام بها تحت غطاء التحضّر.

هذا ما فعله الاستعمار، وما زال يفعل؛ يُحِلّ الإنسانيّة ليوجبها على نفسه، ويسلبها عن غيره؛ غير أنّه، في واقع الأمر، لا أحد يُبْقي على إنسانيّته وهو يجرّد غيره منها؛ فكلّما استشرس في نزعها عن غيره، نزعها عن نفسه، فصار متوحّشًا. وكلّما بذل جهوده في إقصاء غيره أقصى نفسه، حتّى يصير منبوذًا.

 


 

سهيلة عبد اللطيف

 

 

روائيّة وباحثة فلسطينيّة. طالبة دكتوراة في «برنامج العلوم الاجتماعيّة» في «جامعة بير زيت». تتركّز اهتماماتها البحثيّة في مجال علم اجتماع الأدب. صدرت لها رواية «سفر التكوين» (2018)، وترجمة كتاب «حدود المعرفة» (2018) لجمال ضاهر.