صورة موت الفلسطينيّ الّتي لم تحدث

إنقاذ طفل غزّيّ من تحت الركام بعد قصف إسرائيليّ، 06/11/2023 | بلال خالد (Getty).

 

للقضيّة الفلسطينيّة، وموت الفلسطينيّ، صور مختلفة تتعدّد بتعدّد بيئات التضامن وسياقاتها؛ في نيويورك، لندن، ساو باولو، بوجتا، صنعاء، عمّان، وفي كلّ مكان آخر. لكلّ شعب، أو لكلّ متضامن فلسطين الخاصّة به، ونسخته الخاصّة من الفلسطينيّين. أمّا فلسطين والحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة الّتي تلت عمليّة «طوفان الأقصى» بتاريخ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر)؛ فتلك الحرب لا تحدث حقًّا، وإن كانت تحدث، استعارةً لفكرة الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسيّ جان بورديار في كتاب «حرب الخليج لم تحدث» (1991). 

إنّ الصور والتصوّرات المختلفة عن الحرب، تجعل التضامن لدى المتضامنين مع الفلسطينيّين متفاوتًا، حدّ التناقض أحيانًا؛ فهناك تضامن متعلّق بالموتى لا المقاتلين، وقد يشمل التضامن مناطق 1967 أو لا يشملها، أو ينحصر في المسجد الأقصى، وقد يشمل فلسطين كلّها، وهكذا.

لا يوثّق هذه المقال الرؤى والسرديّات المختلفة عن قطاع غزّة بناء على مراجع موثّقة، بل على انطباعات عامّة يمكن رؤيتها من خلال التصفّح السريع لوسائل التواصل الاجتماعيّ، وأهمّها «فيسبوك» و«تويتر»؛ ليحلّل الصور المتعدّدة لغزّة وفلسطين، وآليّات التضامن الانتقائيّة عربيًّا وعالميًّا.

 

الحرب عن بُعْد

كتب جان بودريار، عقب حرب الخليج الأولى، أنّ حرب العراق لم تحدث. وهو لم ينكر وقوع الحرب ذاتها، ولكنّه أنكر أنّ هذه الحرب أخذت مسارًا حقيقيًّا بالنسبة إلى المتفرّجين عليها في الغرب، بذات الطريقة الّتي كانت للحرب العالميّة الثانية مثلًا. لقد مثّلت حرب الخليج الأولى للعالَم صورة على التلفاز، فيديو بعيد لبشر لا يعرفونهم، جثث اجتزّت منها الحياة دون مواجهة في الميدان، مجرّد صواريخ حربيّة أطلقها مجنّد طائر على بعد آلاف الكيلومترات، مجنّد لم يشارك في المعركة ولم يقاتل أحدًا، ولكنّه ركب طائرته، وارتكب جريمته، وعاد إلى خندقه ليشاهد الحرب مع بقيّة مواطني العالم الأوّل. الحرب الّتي شاهدها لم تمثّل البشاعات الّتي ارتكبتها القوّات الأمريكيّة في حقّ العراقيّين، ولكنّها مثّلت محاكاة للمعركة، مضافًا إليها الكثير من السرديّات الّتي تحجب الواقع، وتحيله إلى صور ودلالات ليست موجودة في الميدان.

كتب جان بودريار، عقب حرب الخليج الأولى، أنّ حرب العراق لم تحدث. وهو لم ينكر وقوع الحرب ذاتها، ولكنّه أنكر أنّ هذه الحرب أخذت مسارًا حقيقيًّا بالنسبة إلى العالم الغربيّ...

بذات الشكل وبطرق مختلفة، فإنّ الإبادة الإسرائيليّة للغزّيّين لم تحدث لأنّ قطاع غزّة ليس موجودًا على الخريطة العالميّة، الغربيّة تحديدًا، بل ثمّة صورة أخرى عنه تُنْتَجُ دومًا من خلال سرديّات مفروضة عليه.

للقطاع آلاف السرديّات المتفاوتة، حدّ التناقض، كلّها موجودة وكلّها متداولة؛ فالكثيرون يكرّرون كلمة إبادة، لكن حتّى هذه الكلمة تخلص إلى أن تتعدّد وتتفرّع في سرديّات وطنيّة ومؤدلجة، لا تسعى إلى الاستماع لصوت الميدان والمعركة، بل إلى إنتاج السرديّات المسبقة عن العالَم. لا يمثّل القطاع حقيقة موضوعيّة بالنسبة إلى أيّ أحد خارجه.

 

ما معنى غزّة؟

في البداية، الجميع سيناصر قطاع غزّة وفلسطين، لكنّ كثيرين لا يعرفون معناهما، أو بشكل أدقّ، يهتمّون بمعرفة هذا المعنى، أو معنى الإبادة هناك. الصور المسبقة الناتجة عن أيديولوجيّات تصبغ كلّ شيء، وتصوغ العبارات، وتحدّد مَنْ هم في دائرة المناصرة ومَنْ هم خارجها، ترسم الصورة الكاملة، تكتبها وتؤكّدها بعبارات قويّة، وتغلق الجملة والفقرة راضية عن مناصرة المظلومين، أو مناصرة الأيديولوجيا المفضّلة أيًّا كانت.

يمركز بورديار مفهوم ’الحدث الإعلاميّ‘ في كتابه، بوصفه مشكلة أساسيّة، وهو ما يصفه بكونه حدثًا أو تجربة يهدف أساسًا إلى النشر الإعلاميّ. حرب الخليج مثّلت حدثًا إعلاميًّا في الغرب، الهدف منه محاكاة ما يحدث في الواقع، وتحويله إلى صورة إعلاميّة هدفها النشر والاستهلاك الجماهيريّ. لكنّ هذه الصورة ليست محايدة، فالصورة لم تُنْقَل كما هي، ولكنّها ستفرض عليها بُعْدًا آخر، وسرديّة الراوي الّتي تهدف دومًا إلى رسم الواقع وتحويل الصورة أو مقطع الفيديو إلى بناء كامل ذي مغزًى ومعنًى، يهدف إلى تأييد سرديّة على أخرى.

في سياق الإبادة في قطاع غزّة، ليست المشكلة فقط في الصورة الإعلاميّة الّتي تهدف إلى دعم سرديّة على أخرى، أو رسم الواقع بصورة معيّنة، ولكنّها تتّسع عن ذلك بكون الأيديولوجيّة ذاتها ترسم وتسبق الواقع، فما يتوسّط غزّة والعالم ليس فقط الصورة الإعلاميّة الّتي تمارس دورًا في شرح الواقع، لكن في الأيديولوجيّة الّتي تبحث دومًا عن واقع يناسبها. الواقع بطبيعته مشتّت ومتعدّد، هناك العديد من المعاني الّتي يمكن التقاطها والتحديق بها، وكلّ طرف أيديولوجيّ يسعى إلى التقاط الإبادة وتحويلها إلى نقطة تضيف إلى أيديولوجيّته وأحقّيّتها.

ليست المشكلة فقط في الصورة الإعلاميّة الّتي تهدف إلى دعم سرديّة على أخرى، أو رسم الواقع بصورة معيّنة، ولكنّها تتّسع عن ذلك بكون الأيديولوجيّة ذاتها ترسم وتسبق الواقع...

 

في الغرب، وفي أمريكا وإنجلترا بخاصّة، كثير من القضايا تُرْسَم على خطوط عرقيّة، بمعنى أنّ دعم قضايا وسياسات معيّنة مرتبط بصورة كبيرة بالخلفيّة العرقيّة أو الإثنيّة للمواطنين. فلسطين إحدى تلك القضايا الّتي يُنْظَر إليها بذات الصبغة العرقيّة، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تتبّع المظاهرات في نيويورك، وواشنطن، ولندن. تغلب على المظاهرات الّتي خرجت لدعم فلسطين صبغة متنوّعة الأعراق والأجناس، فيها الأمريكيّ الأفريقيّ، والإنجليزيّ الهنديّ، والأمريكيّ اللاتينيّ، وبالطبع العربيّ الأمريكيّ أو الإنجليزيّ. الفلسطينيّ هنا، وخاصّة في أمريكا، يمثّل أمريكيًّا ’أصليًّا‘ جديدًا؛ ’السكّان الأصليّون‘ الّذين يحاولون مقاومة المستعمرة الجديدة، وعلى الرغم من صحّة هذا التصوّر إلى حدّ كبير، إلّا أنّه ينسى الكثير من التفاصيل المختلفة، ويُسْقِط الكثير من الحمولات الأوروبّيّة الأمريكيّة على الفلسطينيّ.


 

الفلسطينيّ الجيّد... ميّت

هناك بالطبع رؤًى أخرى ’مناصرة‘ في الغرب لفلسطين، ترى الفلسطينيّين جثثًا فقط، الفلسطينيّ الجيّد هو الفلسطينيّ الضحيّة، لا الفلسطينيّ المقاوم؛ الفلسطينيّ الّذي يبكي أطفاله، ويناشد الأمم المتّحدة والمجتمع الدوليّ. تنبع هذه الرؤية من أيديولوجيّة إنسانيّة ليبراليّة ترفض العنف المقاوم، وتساويه مع عنف النظام المستعمِر. وقد تتعاطف أكثر مع عنف الدولة الّذي يبدو عقلانيًّا وحضاريًّا أكثر من العنف الإرهابيّ البربريّ. في النهاية، لا تجد هذه السرديّة في جعبتها مكانًا إلّا للفلسطينيّ الميّت، وستطالب بحقّه في أرضه، عندما تتحوّل مأساته إلى قصّة من الماضي مثل قصّة ’الهنود الحمر‘.

يتطابق هذا تمامًا مع ليبراليّي أمريكا مِمَّنْ يبدؤون مؤتمراتهم الأكاديميّة والثقافيّة بما يُسَمّى ’الاعتراف بالأرض‘ (Land Acknowledgement)، وهو طقس أدائيّ فارغ المعنى يقرّ بأنّ الأرض الّتي هم عليها أرض مستعمَرة، فيذكرون من باب ذكر محاسن الموتى الطيّبين أنّ أصحاب البلاد، الشائع وصفهم بـ ’السكّان الأصليّين‘، لهم أحقّيّة في هذه الأرض. هذا هو الفلسطينيّ الّذي يريدونه؛ فلسطينيّ يُعْتَرَفُ بحقّه بعد الإبادة.

تبحث في كلّ الصور وفي كلّ السرديّات، جميعها يسعى إلى فرض تصوّرها على فلسطين، جميعها لا يرى الفلسطينيّين وما يعايشونه، لا أحد يهتمّ بسماع الصوت الفلسطينيّ مباشرة...

في سياق آخر أوروبّيّ كذلك، يبحث اليساريّون عن صورة تعكسهم، يريدون أن يروا ذواتهم غير المتحقّقة في فلسطين؛ فيبحثون في المقاومة عن أيّ صورة عن «الجبهة الشعبيّة» و«الجبهة الديمقراطيّة»، ينتظرون أيّ خبر عن مساهمة شيوعيّة في المقاومة؛ كي يتجنّبوا حساب ضمائرهم الشيوعيّة عن مناصرة حركة مقاومة لا تتناسب مع راديكاليّتهم اليساريّة. الفلسطينيّ الجيّد هنا فلسطينيّ شيوعيّ، يقرأ لينين وماو تسي تونغ، ليس الفلسطينيّ الّذي يقرأ «القرآن» ويهتف "الله أكبر" كـ ’إرهابيّ‘.

في النهاية، تبحث في كلّ الصور وفي كلّ السرديّات، جميعها يسعى إلى فرض تصوّرها على فلسطين، جميعها لا يرى الفلسطينيّين وما يعايشونه، لا أحد يهتمّ بسماع الصوت الفلسطينيّ مباشرة، حتّى عندما يسمعونه يُسْقِطون عليه الكثير من التأويلات والمراجعات لتناسب ما هو مقرّر مسبقًا.

يبقى الفلسطينيّ الغزّيّ في الميدان وحيدًا، يكافح الإبادة يوميًّا، ويشقّ طريقه في تعدّديّات وتناقضات لا يقدر على حلّها، يصرخ لكي يُسْمَع لمرّة واحدة من خلال صوته من تحت الركام، لكن ما من مجيب.

 


 

هاشم حلّس

 

 

 

كاتب فلسطينيّ من مدينة غزّة، يكتب وينشر في مختلف المجلّات والمنصّات العربيّة.