غزّة وقطاعها... أزمة المخيال

جانب من مدينة غزّة | محمّد عبد (Getty)

 

واحد من آثار الشرذمة والتشظّي في الحالة الاستعماريّة الفلسطينيّة، خلق تصوّرات لمجموعات فلسطينيّة عن بعضها بعضًا، تعزّزت بفعل الفصل الجغرافيّ بين التجمّعات الفلسطينيّة المختلفة، الّتي تجعل غزّة وقطاعها مكانًا متخيّلًا هلاميًّا لدى أجيال كاملة من الفلسطينيّين ممّن يقطنون خارجها، وذلك من خلال تناقل صور متخيّلة بعضها يصل إلى حدّ إشاعة الصور الخياليّة، على نحو يجعل بعض الفلسطينيّين من خارج قطاع غزّة يستغربون الكثير من المشاهد، الّتي تظهر لهم فجأة على شاشات التلفزة. ومردّ ذلك طغيان صورة متخيّلة عن غزّة لا علاقة لها بالواقع المعيش؛ حيث يُختصر قطاع غزّة بمدينة غزّة، ويقدّم قطاع غزّة مجتمعًا متجانسًا ومتماثلًا، ويجري التعامل مع قطاع غزّة كما لو كان مدينة واحدة.

يُعْزَى هذا المخيال الجمعيّ إلى السياسيّة الاستعماريّة الإسرائيليّة لعزل الفلسطينيّين، ومنع تواصلهم الجغرافيّ؛ ممّا يولّد صورًا متناقلة عن بعضهم بعضًا، وعدم معرفتهم بفضاءاتهم الفيزيائيّة والجغرافيّة، كما يُعْزى إلى طغيان الراهن المعاصر على تمثّلاتهم عن غزّة وقطاعها، وبعضها الآخر قد يُعْزى إلى الشعور بالعجز للفعل والاكتفاء بالفرجة؛ ليحاول أن يجد إجابات عبر خلق خطابات متناقلة عن انطباعات وتصوّرات متخيّلة، تقدّم غزّة وقطاعها أماكن عصيّة على الفهم.

 

تطوير حضريّ منذ الثلاثينات

"مصعوقة من عدد الأبراج العالية والضخمة بالمدينة وكبر الشوارع وسعتها وأبّهتها"، قالت لي طالبة قبل أيّام، أثناء مشاهدة القصف على القطاع.

يحدّق الناس من خارج غزّة على الأبراج الشاهقة الكبيرة الّتي تظهر من على شاشات التلفزة. كثر من الأجيال الجديدة لا تعرف أنّ غزّة من المدن الفلسطينيّة القليلة الّتي كان بها حتّى نكبة 1948 مطار، ومحطّة قطارات، وسكك حديد، وشبكة طرق مهمّة. وهي من المدن الفلسطينيّة النادرة الّتي تحتوي على تخطيط حضريّ بالمعنى التقنيّ للكلمة؛ فمنذ العشرينات جرى تخطيط مدينة غزّة الجديدة؛ أي مع بدء سيرورة الحراك الجغرافيّ والحضريّ من مراكز المدينة القديمة (الشجاعيّة، والكماليّة، والدرج، والزيتون، وحيّ السكنى، وخان الزيت)، إلى أحياء المدينة الجديدة ونواتها حيّ الرمال. وبدأ تشكّل جديد لمدينة غزّة الّتي تهدّم جزء كبير من مبانيها التاريخيّة ومدينتها القديمة؛ بفعل القصف البريطانيّ على المدينة بين عامَي 1916 و1917.

تحتوي مدينة غزّة على ميادين عامّة وساحات عامّة، لا يوجد مثلها في مدن الضفّة الغربيّة، مثل «ساحة فلسطين» و«الكتيبة»، ويوجد في المدينة ترقيم للشوارع منذ 1954، وفيها نظام بلديّ للأرصفة منذ 1928.

بفعل الحداثة المعماريّة والتخطيطيّة؛ أضحت المدينة تشهد تطويرًا حضريًّا منذ الثلاثينات؛ إذ طوّرت البلديّة شوارع المدينة ووسّعتها، والعمل وفق مخطّط حضريّ. وأضحت المدينة ذات شوارع ضخمة واسعة، مثل «شارع عمر المختار» الّذي يقطع المدينة من حيّ الشجاعيّة حتّى الميناء القديم، و«شارع الثلاثينيّ» (جمال عبد الناصر) من أطراف الزيتون حتّى آخر حيّ الرمال، و«شارع الجلاء» الّذي يمتدّ كيلومترات عدّة، ومثله شوارع «الوحدة» و«الشهداء» و«النصر». وكذلك شوارع أخرى تربط مدن القطاع ببعضها بعضًا، تبتدئ من الميناء القديم حتّى أواسط قطاع غزّة، مثل «شارع الرشيد» و«شارع صلاح الدين» الّذي يبتدئ من قرية بيت حانون حتّى الحدود مع مصر. على عكس الضفّة الغربيّة مثلًا، الّتي بدأت تظهر بها الشوارع الكبيرة فقط منذ سنوات عدّة، ومع ذلك تبقى أقلّ رحابة ممّا عليه في مدينة غزّة.

تحتوي مدينة غزّة على ميادين عامّة وساحات عامّة، لا يوجد مثلها في مدن الضفّة الغربيّة، مثل «ساحة فلسطين» و«الكتيبة»، ويوجد في المدينة ترقيم للشوارع منذ 1954، وفيها نظام بلديّ للأرصفة منذ 1928. والأحياء الجديدة فيها، خاصّة «حيّ الرمال»، عبارة عن مربّعات مخطّطة حضريًّا بقسائم واضحة في مشهد حضريّ قلّ نظيره في المدن الفلسطينيّة. فيها أكبر متنزّه فلسطينيّ مدينيّ داخليّ منذ الثلاثينات، وفيها أكبر عدد من دور السينما في مدينة فلسطينيّة حتّى الثمانينات، وهو سبع دور سينما، وبها عشرات المنشآت الحضريّة الّتي قامت على إرثها المدينة الّتي نراها الآن، وفيها ثقافة مدينيّة ضاربة بالجذور.

 

أبراج رغم الحصار

هذه المدينة وقطاعها الّذي حاصرتها الإدارة الاستعماريّة الإسرائيليّة منذ 16 عامًا، لم يمنع المدينة من الاتّساع، وحركة البناء والتعمير، والتمدّد أفقيًّا لتصبح مدينة الأبراج على نحو لم تعرفه أيّ مدينة فلسطينيّة أخرى منذ النكبة. ومدينة غزّة تحتوي على منشآت مدينيّة، من أسواق تجاريّة معولمة، ونوادي عائلات مغلقة، ومنتجعات سياحيّة لا يوجد ما يقابلها في أيٍّ من مدن الضفّة الغربيّة، ونوادي فروسيّة، ومنشآت رياضيّة، وبها منشآت ومصانع وصناعات ومنشآت زراعيّة مهمّة.

تُعَدّ مشافي مدينة غزّة من أكبر المشافي في فلسطين، يزيد عددها على الخمسين، علاوة على أكثر من عشرين عيادة خارجيّة، وأكبرها «مشفى الشفاء» الّذي كان ثكنة استخدمه الاستعمار البريطانيّ في العشرينات، ثمّ تحوّل إلى نزل للعزل الصحّيّ، ثمّ مشفى منذ 1946 يحتوي على مئات الأسرّة ومئات الموظّفين وأقسام تخصّصيّة بعشرات التخصّصات.

 

المدينة المتعدّدة

يضمّ المجتمع الفلسطينيّ في قطاع غزّة شرائح اجتماعيّة واقتصاديّة مختلفة، تمثّل كلّ مكوّنات الشعب الفلسطينيّ؛ من المناطق الساحليّة الفلسطينيّة من يافا واللدّ، والمناطق الساحليّة الفلسطينيّة الأخرى، ومن الجنوب الساحليّ الفلسطينيّ والداخليّ في بئر السبع والنقب ومناطق تخوم غزّة؛ أي أنّ المجتمع الفلسطينيّ في قطاع غزّة نموذج مصغّر عن المكوّنات الفلسطينيّة المختلفة والمتعدّدة، يضاف إليهم آلاف من الفلسطينيّين الّذين أتوا إلى المدينة وقطاعها من الشتات، منذ أكثر من عشرين عامًا. وهو مجتمع ذو طوائف متعدّدة، وجاليات عربيّة وأجنبيّة، ومؤسّسات ومنظّمات عالميّة وقنصليّات دوليّة، ويضمّ مكوّنات من المواطنين واللاجئين والعائدين.

المجتمع الفلسطينيّ في قطاع غزّة نموذج مصغّر عن المكوّنات الفلسطينيّة المختلفة والمتعدّدة، يضاف إليهم آلاف من الفلسطينيّين الّذين أتوا إلى المدينة وقطاعها من الشتات، منذ أكثر من عشرين عامًا...

رغم حضور هذه السمات لكنّها ليست السمات الوحيدة الّتي تحتويها المدينة وقطاعها؛ فثمّة حضور لهذه المظاهر وأخرى كتلك الّتي تحتوي عليها المدن الأخرى؛ من ظواهر اجتماعيّة واقتصاديّة. وفيها تنوّع عقديّ وأيديولوجيّ واقتصاديّ، وتراتب سوسيواقتصاديّ، ويمارس سكّانها ممارسات وسلوكيّات اجتماعيّة مختلفة، وأفعالًا اجتماعيّة مختلفة تقوم على التنوّع والاختلاف والتعدّد، وإن طغت أشكال مهيمنة على الصعد المختلفة.

 

ثنائيّة البؤس والبطولة

يأتي تأكيد العناصر السابقة الذكر عن المدينة وقطاعها؛ لأنّ جزءًا كبيرًا من الفلسطينيّين والعرب وغيرهم يتناقلون مقولات عن بطولة استثنائيّة، وعن نمط اجتماعيّ ثقافيّ مختلف، وعن مجتمع سكّانه لن يخسروا شيئًا فليس لديهم ما يخسرونه. هذه المقولات لاإنسانيّة ولا تاريخيّة، وغير صحيحة، ومسيئة.

يغلب التركيز عمومًا على ما يمثّله قطاع غزّة مكانًا للبؤس والفقر والحرمان، فيتناقل البعض مثلًا تحليلات بأنّ المقاومة تنبع من رحم المعاناة والظلم، وأنّ غزّة بها مقاومة مغايرة بسبب صعوبة العيش وضنكه. هذه الرؤى وإن حملت بعضًا قليلًا من الوجاهة، لكنّها ذات طبيعة اختزاليّة؛ فهي غير قادرة على تفسير رسوخ المقاومة في غزّة وقطاعها، وتناقلها جيلًا بعد جيل، وأسباب تولّد حاضنات اجتماعيّة لها؛ فهذا الاستنتاج يحتاج إلى تمحيص ودراسة معمّقة لفهم أسباب تميّزها عن مناطق أخرى، وربطها بسياقها التاريخيّ، وليس عبر استحضار مقولات مكرّرة لا معنى لها.

من نافلة القول، أنّ قطاع غزّة يعرف منذ النكبة كلّ أشكال الحرمان، والعنف الاستعماريّ الشامل، والحصار، والظروف المعيشيّة القاسية، وتنامي الفقر، لكنّ المدينة وقطاعها لا يمكن اختزالهما فقط في ذلك.

الجهل بتاريخ مدينة غزّة وقطاعها وتاريخها، حوّل سكّان المدينة وقطاعها إلى مجموعة من الجبابرة والأبطال الخارقين للعادة، وهذا يعود لأسباب عدّة لا يتّسع المقام إلى شرحها الآن، لكن من المؤكّد أنّ هذه الصورة المجتزَأة وغير الكلّيّة تتغذّى من صورة غزّة وقطاعها، باعتبارها متخيّلًا قائمًا على ثنائيّة البؤس والحرمان والعذابات من جهة، والبطولة والعزيمة والقوّة من جهة أخرى.

 

أناس عاديّون وحالمون

الناس في مدينة غزّة وقطاعها لديهم كلّ شيء ليخسروه؛ الأرواح والدماء والأجساد، والأموال والممتلكات، والبنايات والعمارات، والشوارع، والمصانع والمتاجر، والمنتجعات السياحيّة والشاليهات، والقوارب والمراكب، والمنشآت الاقتصاديّة والزراعيّة والحضريّة، وملابسهم، وألعاب أطفالهم، وحيواناتهم، وملذّاتهم، والأشياء الغالية والتافهة. والناس في قطاع غزّة لديهم ذاكراتهم الفرديّة والجماعيّة، وذكريات الطفولة والحبّ الأوّل والصديق الأوّل، والأحبّاء والأصدقاء والجيران، وذكريات الأمكنة، وذاكرات البيوت، والمساجد والكنائس، والموانئ والفلوكات والقوارب، والأسواق والساحات العامّة، وطفولتهم، وحيواتهم الاجتماعيّة وحيواتهم الاقتصاديّة، وأكلاتهم الخاصّة وأسماكهم وفلفلهم، وسيروراتهم وصيروراتهم في غزّة وقطاعها.

هم أناس عاديّون يحلمون بكلّ شيء: بالحصول على الخبز والماء الصالح للشرب والكهرباء، والعيش بعزّ وكرامة، مرورًا بممارسة المقاومة والجلد والصمود، وانتهاء بتحقيق الرغبات الأكثر خياليّة لمجتمع ليس خياليًّا.

كلّ فلسطينيّة وكلّ فلسطينيّ في غزّة وقطاعها، كأيّ إنسان آخر، توّاق إلى الحياة؛ يمتلك نفس المشاعر والآلام والحزن والفرح والشعور بالفقدان، والبكاء والخوف والأرق والرغبة في النجاة، والرغبة في المقاومة، ولا يحتمل القصف، ولا صوت هدير الطائرات المسيّرة، ولا يحتمل قصف البوارج الحربيّة، ولا الطائرات المقاتلة «إف 16» و«إف 15»، ولا صوت الدبّابات، ولا صوت قصف المدفعيّة، ولا ضرب القذائف من الزوارق البحريّة، ولا تبوّل طفله اللاإراديّ، ولا شعوره بالرعب والرجفة.

هم أناس عاديّون يحلمون بكلّ شيء: بالحصول على الخبز والماء الصالح للشرب والكهرباء، والعيش بعزّ وكرامة، مرورًا بممارسة المقاومة والجلد والصمود، وانتهاء بتحقيق الرغبات الأكثر خياليّة لمجتمع ليس خياليًّا.

المقاومة في غزّة وقطاعها تقوم على الفعل المقاوم، وعلى حضن المقاومة، وعلى حبّ الحياة، وعلى كلّ أنواع الحياة الاعتياديّة الطبيعيّة الّتي تعطي غزّة وقطاعها معنًى.

 


 

أباهر السقّا

 

 

أكاديميّ فلسطينيّ، يحاضر في جامعة بيرزيت. حصل على الدكتوراه في علم الاجتماع من «جامعة نانت» الفرنسيّة. عمل محاضرًا في عدد من جامعات فرنسا ما بين 1998-2017. اهتمّت دراساته بالتعبيرات الاجتماعيّة الفنّيّة، والحركات الاجتماعيّة، والهويّة، والذاكرة، والوطنيّات، والسياسات الاجتماعيّة، والتاريخ الاجتماعيّ لمدينة غزّة، والعلوم الاجتماعيّة وتأريخها.