ممكنات الموسيقى: نحو سرديّة تحرّر الفلسطينيّ

«فرقة الفجر» الفلسطينيّة في «مهرجان برلين للأغنية السياسيّة» (1989).

 

في مقدّمة كتابها «تحرير المنهجيّة» (Decolonizing Methodology)، الصادر عام 1999، تكتب الباحثة الماوريّة ليندا توهيواي سميث [الماوري: السكّان الأصليّون في نيوزيلندا حاليًّا]، عند الحديث عن الاستعمار في بلادها، "من المفزع تمكّن الغرب من أن يبتغي وينتزع ويدّعي ملكيّة طرقنا للمعرفة، وتخيّلاتنا، والأمور الّتي نخلقها وننتجها، ثمّ يرفض في الوقت نفسه الأشخاص الّذين خلقوا وطوّروا تلك الأفكار، ويسعى إلى حرمانهم من المزيد من الفرص ليكونوا مبدعين لثقافتهم وأوطانهم. ويغضبنا أنّ الممارسات المرتبطة بالقرن الماضي، والقرون الّتي سبقته، لا تزال تُسْتَخْدَم لإنكار شرعيّة مطالب الشعوب الأصليّة بالوجود وإفشالها، والأرض، والحقّ في تقرير المصير، ولإبقاء مجتمعنا، واللغات، وأشكال المعرفة الثقافيّة، ومواردنا الطبيعيّة، وأنظمة العيش داخل بيئتنا"[1]. تلخّص هذه الفقرة جوانب عديدة من العمليّة الاستعماريّة ونظرة الشعوب الأصليّة إليها، وتتضمّن معظم الأفكار الّتي نوردها في هذا المقال، من إنتاج أو احتكار المعرفة إلى التبعيّة، والسرديّة الغربيّة الطاغية، والاستغلال، وسرقة الموارد، إضافة إلى الغضب والقهر.

في ظلّ ما يحدث في فلسطين من مجازر وإبادة جماعيّة في قطاع غزّة، فضلًا على البطش والاعتقالات في الضفّة الغربيّة، والتخويف والضغط الأمنيّ على فلسطينيّي الأراضي المحتلّة عام 1948، يكثر الحديث عن موضوع السرديّة وصراع السرديّات، خاصّة مع الدعم الإعلاميّ الغربيّ المضلّل وغيره لما يحصل في القطاع وعموم فلسطين.

ثمّة أهمّيّة الآن للحديث عن هذا الموضوع وكيفيّة التعامل معه بطريقة بنّاءة. يشكّل هذا المقال محاولة بسيطة للنظر في هذا الاتّجاه، وكيف من الممكن مقاربته أو التعامل معه، مع تركيز على الفنّ والموسيقى. 

 

التحرّر بوصفه إرهابًا

ثمّة هيمنة ثقافيّة - وغيرها - هائلة على الجنوب العالميّ، وعلاقات تبعيّة بين المستعمِر والمستعمَر. نرى هذا في حالة فلسطين وكيفيّة تصوير الفلسطينيّين في الإعلام الإسرائيليّ والغربيّ، حيث إنتاج سرديّة معيّنة مهيمنة تبرّر وتشرّع الاستعمار والاستيطان الصهيونيّ، فيصبح الأخير هو الضحيّة والمقاومة إرهابًا. يصبح الاستعمار نزاعًا، وبدل المطالبة بالتحرير نطالب بالمساواة. هذه السرديّات ليست موضوعيّة أو طبيعيّة، بل هي إستراتيجيّات انحيازيّة استعماريّة تعمل على السيطرة، ونبذ أيّ أصوات معارضة واستيعابها، أو سرديّة أخرى من الممكن أن تتنافس مع سرديّة المستعمِر، الصهيونيّة إضافة إلى الغربيّة.

ثمّة عوامل وتأثيرات عديدة لوجود سرديّة واحدة مهيمنة، أو سرديّة استعماريّة؛ ففي حالة فلسطين تتكوّن السرديّة من جوانب عدّة، منها معاداة الساميّة، أو محاربة الإرهاب، أو أرض بلا شعب، أو تصنيف الثقافة والإنتاج الثقافيّ بخانة دنيويّة، أو حصرها في نطاق معيّن، ومعاملة القضيّة الفلسطينيّة كأنّها بدأت في عام 1967، والآن أصبحت تُقَدَّم كأنّه لا وجود لما قبل 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، وهكذا؛ فإضافة إلى معركة الصمود البطوليّة والمقاومة التاريخيّة على الأرض، هناك معركة أيضًا في حقل الإعلام والثقافة والمعرفة، وهي حرب السرديّات؛ فــ "النضال من أجل صلاحيّة معرفة السكّان الأصليّين وشرعيّتها، لم يَعُدْ يدور حول الاعتراف بأنّ الشعوب الأصليّة لديها طرق فريدة لرؤية العالم، بل حول إثبات شرعيّة أشكال المعرفة الخاصّة بنا والسيطرة عليها"[2].

ثمّة عوامل وتأثيرات عديدة لوجود سرديّة واحدة مهيمنة، أو سرديّة استعماريّة؛ ففي حالة فلسطين تتكوّن السرديّة من جوانب عدّة، منها معاداة الساميّة، أو محاربة الإرهاب...

يمكننا أن نرى الفرق الشاسع بين سرديّتي القوى الاستعماريّة والسكّان الأصليّين في المسمّيات المستخدمة في عمليّات عديدة، على سبيل المثال عمليّة التلاشي الثقافيّ (cultural decay) في حالات الاستعمار. تتكوّن هذه العمليّة عبر أكثر من مرحلة واحدة عند وصول قوّة استعماريّة إلى مكان ’جديد‘. تبدأ العمليّة، بالنسبة إلى المستعمِرين، أوّلًا، بالاكتشاف الأوّليّ والاتّصال، ثمّ انخفاض عدد السكّان، فالتثاقف (acculturation) والاستيعاب (assimilation)، وأخيرًا، ’إعادة الابتكار‘ للثقافة الأصليّة ثقافةً عرقيّةً (reinvention as a hybrid ethnic culture). من ناحية أخرى، بالنسبة إلى السكّان الأصليّين، تتكوّن نظرتهم للعمليّة نفسها من: أوّلًا، الاتّصال والغزو (contact and invasion)، ثمّ الإبادة والتدمير (ethnic cleansing and destruction)، فالمقاومة والصمود (resistance and survival)، فالتعافي بصفتهم شعوبًا وسكّانًا أصليّين (recovery as indigenous people). نفس العمليّة الّتي تُعَدَّ اكتشافًا بالنسبة إلى المستعمِر، هي غزو للسكّان الأصليّين[3].

هذا اعتياديّ عند القوى الاستعماريّة، من ناحية استخدام سرديّة وخطاب معيّنين لتبرير ممارساتهم، وتفسير التبعيّات على المجتمعات المحلّيّة. لهذه السرديّات نتائج سلبيّة ومدمّرة على الثقافات والشعوب المحلّيّة، ومنها فقدان معرفة الأجداد والمعلومات التاريخيّة، ونزع الشرعيّة عن بعض الروايات الثقافيّة والمتميّزة، والتمثيلات غير الحقيقيّة (misrepresentations) للرموز والممارسات الثقافيّة الأصليّة، وفقدان التراث الثقافيّ وأشكال التعبير الثقافيّ[4]. شيطنة الحركات التحرّريّة بغير طريقة، مثل تهميش إنجاز المقاومة في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)؛ عن طريق الدمار والقتل، وتهم الإرهاب، وإخفاء سياسات الاستعمار، والاستغلال، والفصل العنصريّ، على مدى 75 عامًا، مثال على هذا.

كما نرى هذا في مناطق مستعمَرة أخرى غير فلسطين، فمثلًا في جنوب أفريقيا كان نيلسون منديلا يُعْتَبَر إرهابيًّا في نظر الاستعمار البريطانيّ، وكان رئيس أمريكا رونالد ريغان يصفه بـ ’الشيوعيّ الخطر‘. في كينيا أيضًا، كان قائد إحدى الحركات الوطنيّة التحرّريّة ديدان كيماثي يُعْتَبَر إرهابيًّا في الأرشيفات البريطانيّة[5]. ونحن الآن في فلسطين، يجري تمثيل المقاومة بغضّ النظر عن خلفيّتها على أنّها حركة إرهابيّة عند الغرب والاستعمار. وهذا ما يُرَوَّج في الإعلام الغربيّ، حتّى أصبح يُرَوَّج في إعلامنا بعض الأحيان. لهذا؛ ثمّة أهمّيّة جدّيّة وماسّة لكسر السرديّة الاستعماريّة والغربيّة والصهيونيّة، في حالة فلسطين وباقي المنطقة، وجميع المناطق المستعمَرة والشعوب المهمَّشة.

كما يذكر أدينيي (Adeniyi) أنّ الجدليّة (dialectic) تدور حول سياسة السرد القصصيّ (politics of story telling) بين المستعمِر والمستعمَر، حيث يوجد خطر الروايات الأحاديّة وتهميش المستعمَرين في أيّ لقاء سرديّ. وينتهي بنا الأمر إلى رواية - أو سرديّة - واحدة مهيمنة، تبرّر مصالح الاستعمار وشرعيّته. يأتي هذا عبر مؤسّسات ثقافيّة وتعليميّة وإعلاميّة، وبالتالي، للتعامل مع/ التراجع عن العنف المعرفيّ للغرب، من المهمّ تطوير - أو المشاركة في تطوير - أدوات وأساليب جديدة؛ من خلال المشاركات الواعية والانعكاسيّة (reflexive) مع المجتمعات والشعوب الأصليّة والمستعمَرة؛ لأنّ المعرفة الاستعماريّة ومشتقّاتها لا تأبه ولا تتضمّن السياقات المحلّيّة، من عادات الشعوب الأصليّة وتطلّعاتها وممارساتها[6].

 

مقاومة التغييب

ثمّة طرق عدّة لمقاومة هذه الإشكاليّة، ويمكننا الاستفادة من مشروع يرمي إلى الحفاظ على ثقافات الشعوب الأصليّة، ومعرفتها في الجنوب العالميّ على المنصّات الرقميّة[7]. بالتأكيد هذه ليست حقائق أو ثوابت لكنّها إحدى الطرق لتوضيح المسألة، وطريقة لمقاربة الموضوع والتعامل معه. من الممكن النظر إلى السرديّة من ثلاث نواحٍ، الأولى بنيويّة، أو هيكليّة (structural)، وفيها ما هو متوفّر من بنية تحتيّة وموارد ودعم. الثانية تواصليّة (communicative)، وهي التواصل اللغويّ والأدبيّ والمرئيّ والصوتيّ. الثالثة تمثيليّة (representational)، وتتكوّن من كيفيّة تمثيل الأمور والتحليل إضافة إلى تفسير السياقات المحلّيّة. هنا سيكون التركيز على التواصليّة، وبالتحديد أمثلة عن الفنّ والموسيقى. لكن قبل هذا علينا التشديد على أهمّيّة التواصل والإنتاج الثقافيّ والفنّيّ والمعرفيّ بالتحديد في حالة الاستعمار، كما هو الحال في فلسطين. 

أهمّيّة التواصل بطرق محوريّة عدّة، وأهمّيّة التعبير تتجسّد بالوجود، حيث أنّ الأفكار والإنتاجات الثقافيّة والفنّيّة محوريّة في وجود البشر والمجتمعات. الموسيقى مثلًا تُسْتَخْدَم بجميع أشكالها في مختلف النشاطات والوظائف المجتمعيّة. يوفّر الإنتاج الفنّيّ المجال للتعبير والنقد، وأيضًا التميّز، وعن طريق التميّز والتعبير يصبح الأشخاص فاعلين وناشطين في الواقع المادّيّ والمجتمعيّ؛ عن طريق إنتاجاتهم المادّيّة الفنّيّة. وبهذه الطريقة يتمكّن الشخص من التأثير أو المساهمة في بناء الواقع المعيش بطريقة أو بأخرى، أو على الأقلّ التعبير عن هذا الواقع والتواصل. وهكذا تُخْلَق أفكار وروايات وتتحوّل لسرديّات يمكن تثبيتها من خلال التنظيم والتشبيك.

يوفّر الإنتاج الفنّيّ المجال للتعبير والنقد وأيضًا التميّز، وعن طريق التميّز والتعبير يصبح الأشخاص فاعلين وناشطين في الواقع المادّيّ...

وجود الوعي والإدراك من أهمّ الصفات الّتي تميّز الإنسان؛ فيختلف البشر عن الحيوانات من خلال إنتاج وسائل الرزق أو العيش (means of subsistence)، وهذا يكون مرتبطًا بالتنظيم المادّيّ، وبالتالي إنتاج الوسائل هذه يكون إنتاجًا للحياة المادّيّة للبشر. فبحسب كلّ من ماركس وإنجليز، "تعتمد الطريقة الّتي يُنْتِج بها البشر وسائل عيشهم، أوّلًا وقبل كلّ شيء، على طبيعة وسائل العيش الفعليّة الّتي يجدونها في واقعهم الوجوديّ، ويتعيّن عليهم إعادة إنتاجها. يجب ألّا يُنْظَر إلى نمط الإنتاج هذا على أنّه مجرّد إنتاج للوجود المادّيّ للأفراد. بل هو شكل محدّد من أشكال نشاط هؤلاء الأفراد، شكل محدّد للتعبير عن حياتهم، نمط حياة محدّد من جانبهم. هم أفراد يعبّرون عن حياتهم. وبالتالي، ما هم عليه يتطابق مع إنتاجهم، سواء مع ما ينتجون أو مع كيفيّة إنتاجهم، فإنّ طبيعة الأفراد تعتمد على الظروف المادّيّة الّتي تحدّد إنتاجهم[8]". وكما نعلم فإنّ الفنّ والموسيقى من أهمّ طرق التعبير المتاحة للبشر، ولها تأثير هائل في السرديّات.

 

 

يرتبط إنتاج الأفكار والمفاهيم والوعي بشكل مباشر بالنشاط المادّيّ والاتّصال المادّيّ للبشر. ما المتوفّر لديهم في هذا الواقع للإنتاج؟ يظهر التصوّر والتفكير والاتّصال العقليّ للبشر في هذه المرحلة تدفّقًا مباشرًا لسلوكهم المادّيّ. الأمر نفسه ينطبق على الإنتاج العقليّ كما هو مُعَبَّر عنه في لغة السياسة والقوانين والأخلاق والدين والميتافيزيقا، وما إلى ذلك؛ فالبشر هم منتجو تصوّراتهم وأفكارهم. في النهاية، هم محدودون في الأدوات الإنتاجيّة المادّيّة المتوفّرة لهم لإنتاج أفكار معيّنة والتعبير عنها، إضافة إلى خلق واقع من خلال الأنشطة المادّيّة هذه[9]. ينطبق هذا على الفنّ كما ينطبق على إنتاجات أخرى. من هذه الناحية، يمكن القول إنّ الإنتاج الفنّيّ تحدّده الأدوات الإنتاجيّة المتوفّرة من حيث الشكل، علاوة على الظروف الاجتماعيّة والتنشئة والتطلّعات الّتي تؤثّر في محتوى المنتج الفنّيّ. وهذا ما تهيمن عليه قوى الاستعمار وفئات نخبويّة في المجتمع يحتكرون أدوات الإنتاج والمنصّات.

كما تعزّز الهيمنة عن طريق القوانين والرقابة والتسليع والتمويل والتعليم، فينحصر الفضاء والفرص للتعبير أو التواصل أو إنتاج أفكار ومفاهيم متجدّدة مبنيّة على الواقع المعيش. هكذا يصبح هناك انتظام واتّساق في الإنتاجات الفنّيّة؛ لكي تتطابق وتغذّي السرديّة الحاضرة، ويكون التضييق على الإنتاجات الفنّيّة والصوتيّة والموسيقيّة الّتي تعارض سرديّة المستعمِر، أو لها قدرة ناقدة وبنّاءة على خلق سرديّة جديدة وتثبيتها تحاكي الواقع المعيش، وتعكس الشارع والثقافة المتنوّعة المحلّيّة، ويكون ثمّة فرصة لكسر السرديّة الاستعماريّة وتحرير الصوت.


التشبيك والتواصل 

هذا ما علينا استرجاعه أو خلقه من جديد، لكن قبل الحديث عن التواصليّة وبعض الخطوات البنّاءة الّتي يمكن اتّخاذها، سنتحدّث باختصار عن العاملين الآخرين. على سبيل المثال من ناحية بنيويّة، علينا، أوّلًا، تحديد هذه السرديّة، وإلقاء الضوء على معالمها ومكوّناتها، والمؤسّسات والجهات الداعمة لهذه السرديّة. هناك عمل بهذا الاتّجاه من مؤسّسات أو تجمّعات ثقافيّة، مثل «Index Palestine»، وهو مشروع تشاركيّ يوثّق مواقف المؤسّسات الثقافيّة في أوروبّا وغيرها من القضيّة الفلسطينيّة وبالتالي الاستعمار، وهي طريقة أوّليّة للمنتجين الثقافيّين وغيرهم لمعرفة مَنْ الداعمون لتلك السرديّة. ثمّ تبدأ عمليّة التفكيك، وهذا يحصل عن طريق النقد، والنقد البنّاء للمنظومة والسرديّة المهيمنة بطرق عدّة، منها المقاطعة مثلًا، وهذا ما بدأ بفعله فنّانون فلسطينيّون وغيرهم.

على صعيد التمثيليّ، فإنّ من المهمّ التشبيك مع أماكن ومناطق وجهات أخرى تعاني من تهميش واستعمار، كان ثقافيًّا أو اقتصاديًّا أو سياسيًّا؛ فالتشبيك سيصعّب حصر القضيّة في مكان وزمن واحد، وبهذه الطريقة تصبح عابرة للقارّات والأزمان، وسيكون من الأبسط دحض مسمّيات مثل الإرهاب أو صورة الضحيّة، وبالتالي إضعاف السرديّة المهيمنة.

إحدى الطرق تكون بربط الاستعمار في فلسطين بالجنوب العالميّ، أو حركات تحرّريّة أخرى في أفريقيا أو جنوب أمريكا مثلًا، وهذا ما يحصل بالفعل في المظاهرات الداعمة في برلين، فبدلًا من فلسطين وغزّة تكون المسمّيات في المظاهرة هي ’الجنوب العالميّ‘ أو ’الشعوب المستعمَرة‘، فلا يمكن لكلّ شعوب الأرض أن تكون إرهابيّة باستثناء الشعوب الغربيّة. إضافة إلى ذلك، ستواجه المنصّات الإعلاميّة والمؤسّسات الرئيسيّة صعوبة في انتزاع شرعيّة معرفة السكّان الأصليّين، وفرض صور معيّنة عليهم.

نشدّد على عامل واحد في هذا المقال لأنّه من الصعب التعامل معها جميعًا. ونأخذ أمثلة بسيطة من الموسيقى الفلسطينيّة في السبعينات، وبعض المشاريع والمبادرات الّتي تحصل اليوم، وتحديدًا في سياق الإبادة الجماعيّة الّتي تُرْتَكَب في قطاع غزّة. التواصل أساسيّ في هذه العمليّات ومقاومتها؛ فالسرديّة نفسها عبارة عن مكوّنات تواصل متنوّعة.

من الطرق الأوّليّة أن تكون المقاربة في بناء السرديّة من أسفل إلى أعلى، وهذا ممكن عن طريق الأبحاث والدراسات والمشاريع التشاركيّة (participatory research and projects)، الّتي تتشكّل بطريقة أفقيّة لا هرميّة. في هذه الحالة، يعمل الفلسطينيّون أنفسهم على رسم حدود المشاريع والأبحاث والمسمّيات، وليس مؤسّسات غربيّة أو غيرها تقع تحت هيمنة سرديّة الاستعمار.

 

تحرير المعرفة

إنّ للأرشفة وتحرير المعرفة، خاصّة الآن وعلى المنصّات الرقميّة الفنّيّة والمعرفيّة، دور محوريّ سيؤدّي مع الوقت إلى تحرير المعرفة، أو بناء معرفة محلّيّة تخلق فرصة للإضاءة على الروايات والسرديّات المحلّيّة[10]. يمكننا أن نرى أهمّيّة التواصل واللغة المستخدمة بناء على ممارسات الاستعمار نفسه؛ إذ تغيّر الجهات الاستعماريّة والإمبرياليّة لغتها المستخدمة لتبطين العمليّات الاستعماريّة، وتتطوّر مع الوقت؛ فبدلًا من أقاليم أو أراضٍ أصبحت تُسَمّى أسواقًا، والهيمنة أصبحت تنافسًا مستحيلًا في ظلّ الاحتكارات. ويكون تسليع الإنتاج المعرفيّ والمؤسّسات التعليميّة والثقافيّة وتقديمها على أساس معرفة عامّة أو شاملة، وتصبح لغتهم ومسمّياتهم هي المعتمدة عند الحديث عن قضيّة معيّنة.

في السبعينات من القرن الماضي، في الشتات، كان ثمّة موسيقيّون ومغنّون فلسطينيّون يمكن الحديث عنهم قليلًا هنا؛ لربط الأفكار بالواقع وإعطاء بعض الأمثلة. مغنّون مثل جورج توتاري في السويد، وزينب شعث في الولايات المتّحدة. في هذه الحالة، كان السرد واللغة والشكل الموسيقيّ لا ينفصلان عن تطوّر الإنتاجات والصوت، وكان ثمّة انضباط في التأكّد من توصيل الرسالة[11]. التفاصيل فعلًا مهمّة، من ناحية الكلمات والمسمّيات المستخدمة في الأغاني، وحتّى الأصوات والإيقاعات الّتي يجري تبنّيها عند الإنتاج. فمثلًا في وقتنا، الموسيقى الإلكترونيّة محتكرة وتطغى عليها الأصوات والإيقاعات الغربيّة، وعند الإنتاج، نضطرّ إلى استخدام هذه الأصوات، فيصبح صوتنا في هذه الإنتاجات غربيّ الإيقاع.

إنّ للأرشفة وتحرير المعرفة، خاصّة الآن وعلى المنصّات الرقميّة الفنّيّة والمعرفيّة، دور محوريّ سيؤدّي مع الوقت إلى تحرير المعرفة...

أنجز الفنّان والباحث خيّام اللامي، أحد الأشخاص المهمّين في هذا الشأن، أطروحته للدكتوراة عن احتكار الأصوات الغربيّة لعالم الموسيقى، وقد أنشأ برنامجًا يمكّن الموسيقيّين من استخدام أصوات أخرى عديدة غير غربيّة، ويتمكّن أيضًا من تسجيل أصوات من آلات وإيقاعات تقليديّة لاستخدامها في الإنتاج لم تكن حاضرة من قبل، وهو برنامج مجّانيّ واستخدامه بسيط جدًّا. هنا نرى كيف وُفِّرَت أدوات إنتاجيّة غير استعماريّة أو غربيّة، ولا تعتمد على تمويل أو سرديّة معيّنة لاستخدامها، ويمكن استخدامها بحرّيّة كبيرة.  

 

موسيقى الشتات الفلسطينيّ

نحن الآن، خاصّة الموسيقيّين - والفنّانين بعامّة - بموقع قوّة من ناحية إنتاج سرديّة وبنائها؛ بمعنى أنّ معظم الموسيقيّين الّذين تحاكي إنتاجاتهم نقد الواقع ومعالجته لديهم نقطة قوّة، وهو الاستقلال بالعمل.

الكثير من الموسيقيّين ينتجون في غرف نومهم أو أستوديوهات أنشؤوها في بيوتهم، لأنّ معارضة السرديّة المهيمنة بالعادة طريق ليس بالسهل، وفيه يكون الحصول على تمويل أصعب من إنتاج فنّ ترفيهيّ وليس ناقدًا وبنّاء. فمثلًا، جورج توتاري الّذي أسّس «فرقة كوفيّة»، وهاجر إلى السويد في عام 1967، هو مَنْ أنتج الأغنية السويديّة «تحيا فلسطين» (Leve Palestina)، الّتي إلى الآن تكون حاضرة وداعمة لفلسطين في المظاهرات وغيرها. جورج توتاري مثلًا، يقول إنّ تعليمه الموسيقيّ أتى من الشارع، وليس تعليمًا فنّيًّا موسيقيًّا مؤسّساتيًّا. وهذا أمر مهمّ؛ لأنّه لا حاجة إلى شهادات ومؤسّسات عندما يكون هناك قضيّة ونظرة موحّدة تجاه كسر السرديّة، وتحرير الصوت، وفكّ الاستعمار. يتطابق هذا مع بعض الموسيقيّين في برلين مثلًا، من ناحية الاستقلاليّة وسياسة ’افعلها بنفسك‘ (DIY)[12]، وبالتشبيك والتعاون يصبح هذا واقعيًّا.

فضلًا على ذلك، في مثال توتاري نفسه، يمكن أن نرى موضوع الشكل والمضمون المذكور آنفًا، حيث تكون قرارات واعية في هذه الحالة، وهنا استند مثلًا إلى أنماط ألحان متكرّرة تتلاعب بالثواني الصغيرة، ويمكن عزفها على الآلات الغربيّة، دعت مقاطعها إلى تحرير الأرض. هنا كان يخاطب الغربيّين، فكان مهمًّا من ناحية اللغة واللحن المستخدمين، وها هي الأغنية باقية في مظاهرات عام 2023 في ستوكهولم وحتّى ألمانيا.

 

مَنْ نخاطب؟ 

من ناحية اللغة، كما ذكرنا من قبل، فإنّ ذلك يعتمد على مَنْ نخاطب؛ فمثلًا المغنّية والمؤلّفة زينب شعث كانت تغنّي بالإنجليزيّة، وكان منطقها هو، بحسب كلماتها: "كنت في مدارس اللغة الإنجليزيّة، وكنت أتقن اللغة الإنجليزيّة بشكل جيّد، لكن كان ذلك في الحقيقة لأنّني كنت أذهب إلى الكثير من المحاضرات، وأقرأ الكثير من الكتب وأفكّر... حسنًا، لن يقرأ الناس الكثير من الكتب – الشخص العاديّ في الشوارع – ولا أحد سيجلس ويستمع إلى خطاب، لكنّهم قد يستمعون إلى أغنية"[13]. المهمّ هنا هو القرار الواعي والمقصود للغناء باللغة الإنجليزيّة؛ موقعها وما هو متوفّر لديها وخلفيّتها، إضافة إلى الجمهور والهدف، أوصلها إلى هذا القرار. لم يعتمد قرارها على التمويل أو المؤسّسة الداعمة أو السوق مثلًا. كانت السرديّة والقضيّة هي محور القرارات هذه، وجميعها يؤثّر ويصبّ في بناء سرديّة، أو على الأقلّ تكسير السرديّة المهيمنة أو تفكيكها.

لكي نعطي مثالًا عن أغانٍ أقرب إلى زمننا، أطلق مجموعة من الفنّانين أغنية «راجعين». وبالرغم من تقدير هذ الجهد، إلّا أنّ الكلمات المستخدمة والأفكار المطروحة فيها، تعيد إنتاج السرديّة والعلاقة بالغرب الّتي نحاول التخلّص منها أو مقاومتها؛ لأنّها تعيد إنتاج صورة الضحيّة الّتي تُفْرَض علينا، كأنّ الفلسطينيّين مساكين، ولا يعرفون غير الموت والدمار. وهذا غير صحيح؛ لأنّ أهل قطاع غزّة وباقي فلسطين لا يعرفون إلّا الحياة، والإنسانيّة والمقاومة في هذا الاتّجاه وليس باتّجاه الضحيّة.

الفلسطينيّون ليسوا في حاجة إلى الشفقة؛ إذ لا يوجد حياة حاليًّا إلّا في فلسطين. من جهة أخرى، أغنية «غزّة يا بنت بنوت»، لريم تلحمي، والّتي كتب عنها الشاعر سلطان القيسي في مقال على «فُسْحَة- ثقافيّة فلسطينيّة»، من الأغاني الغزّيّة المليئة بالحياة: "غزّة فتاة متمسّكة بالحياة، لا بالحرب، وصُوِّرَت المقاومة على أنّها ضحكات واهتمام بالهندام والشعر، وليس مجرّد صواريخ". تقول كلمات الأغنية الآتي: "غزّة يا بنت بنوت، لأنّه الموت ما حبّ الصوت، لحقها جوّا غرفتها، خاف من صوت ضحكتها، مدّ إيده ع شفّتها، بفكّر إنّه سكّتها، وغزّة لسّا بتغنّي، وبتمشّط بغرّتها".

 

 

إنّ من المهمّ التفكير بشكل الإنتاج ومضمونه، لكن، مَنْ نخاطب؟ ولماذا؟ وما المتوفّر؟ ما اللغة المستخدمة؟ هل أخاطب المجتمع الألمانيّ مثلًا أم أخاطب الشعوب في منطقتنا؟ كلّ تفصيل له دور مهمّ، وتأتي أهمّيّة التفاصيل لقدرتها على خلق التميّز، والابتعاد عن الانتظام الّذي ترمي إليه السرديّة المهيمنة وداعموها؛ فمع القرارات المفصّلة في الإنتاجات الفنّيّة والموسيقيّة، من الممكن تحرير الإنتاج من الانتظام، وبالتالي يصبح ناقدًا.

التفاصيل هي الّتي تميّز الإنتاج الفنّيّ لا الأسلوب بالإنتاج، التفاصيل هي الّتي تنتج فنًّا ناقدًا بنّاء وليس إنتاجًا ترفيهيًّا واستهلاكيًّا فقط. المقصود أنّ الترفيه استولى وسيطر على عالم الفنّ والثقافة، وأصبح ثمّة عمليّات تسليع وتجريد من الأهمّيّة السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة لهذه الإنتاجات؛ فالدمج الّذي يحصل هذه الأيّام بين الثقافة والترفيه، يؤدّي ليس فقط إلى الحرمان الثقافيّ بل إلى عقلنة التسلية، أو الإلهاء، والتسلية لا توفّر تحرّرًا، بل تحرّر الفنّ والثقافة من النقد والفكر البنّاء[14]. لهذا، من المهمّ التركيز على التفاصيل والقرارات الواعية في الإنتاج؛ لأنّ التفاصيل هذه تتحوّل إلى فكرة، والفكرة تتطوّر إلى نقيض مقاوم، والمقاومة تتجسّد بتنظيم، والتنظيم يخلق سرديّة، والسرديّة تنتج واقعًا جديدًا حرًّا.

ثمّة أهمّيّة محوريّة لتوثيق الإنتاجات الفنّيّة والموسيقيّة وغيرها، لكن هنا نتحدّث عن الموسيقى. كما هو التاريخ الشفهيّ، يجب توثيق موسيقى فلسطين وإنتاجاتها. مشروع «مجازز» (Majazz) مثال على ذلك، الّذي يعيد إطلاق موسيقى من فرق وموسيقيّين ثوريّين فلسطينيّين أنتجوا خلال الانتفاضة الأولى (1987-1993) أو قبل ذلك. ومن ناحية موسيقيّة، حتّى الإيقاعات لم تُوَثَّق بجدّيّة في منطقتنا، وهذا النقص في توثيق الفنّ والإيقاعات، وحتّى الفنّانون والموسيقى لدينا، يؤدّي إلى أنّنا نكتشف في أوقات عديدة موسيقى من منطقتنا من خلال الأجانب، مثل «حبيبي فنّك».

يشكّل «راديو الحارة» مثلًا، منصّة ومشروعًا محوريّين في هذا الشأن؛ لأنّ لديه القدرة على الدعم والتشبيك والتواصل، وربّما التوثيق والتسجيل وبناء أرشيف موسيقى وموسيقيّين مع الوقت.

توجد فرصة الآن لبناء سرديّة، وسرديّة تكون واقعيّة، وتمثّلنا وتمثّل الشعوب المستعمَرة والمهمّشة؛ إذ يُسْتَعْمَر العقل والفكر والنظر والتطلّع والتخيّل والوعي أوّلًا، عن طريق السرديّة وأدوات الإنتاج. ونحن علينا تحرير أنفسنا عبر إنتاجاتنا الثقافيّة والمعرفيّة وغيرها؛ لكي نتمكّن من بناء سرديّة جديدة وترجمتها إلى واقع.

 


إحالات

[1] Smith, Linda Tuhiwai Smith, Decolonizing Methodology Research and Indigenous People. (University of Otago Press, 1999)

[2] Ibid.

[3] Ibid.

[4] Dutta. “Digital preservation of Indigenous culture and narratives from the Global South: In search of an approach.” Humanities. (2019) 8(2).

[5] Emmanuel Adeniyi. “Life Writings, Autobiographical Subjects: Exploring Colonial Narratives and Anti-Memory in African Freedom Fighters’ Texts.” (2022), English Studies, 103(2), p. 338 - 360. 

[6] Dutta. “Digital preservation of Indigenous culture and narratives from the Global South: In search of an approach.” 

[7] Ibid. 

[8] Marx, Karl & Friedrich Engels. German Ideology. Progress Publishers, 1968), p 8 - 12. 

[9] Ibid, p 8 -12. 

[10] Dutta. “Digital preservation of Indigenous culture and narratives from the Global South: In search of an approach.” 

[11] Louis Brehony. “Exile Songwriter of The Palestinian Revolution (And the Problem with Sugar Man).” Arab Studies Quarterly. (Winter 2023) 45(1).

[12] Ibid. 

[13] Ibid. 

[14] Adorno, T. & M. Horkheimer. Dialectic of Enlightenment. (Verso, 2016). 

 


 

زيدون حجّار

 

 

 

كاتب وباحث في الموسيقى والهجرة. حاصل على الماجستير في دراسات الهجرة من «الجامعة اللبنانيّة الأمريكيّة»، يعمل في «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات» منذ عام 2014.