القانون الدوليّ الّذي نحتاج إليه... بعد السابع من أكتوبر

ثوّار فلسطينيّين يطلقون النار على قوّات الاستعمار البريطانيّ، 1937 | Getty.

 

حَكم الإطار الحاليّ للقانون الدوليّ نضال الفلسطينيّين في الساحة الدوليّة ملقيًا بقيوده الثقيلة على قدرتهم على المطالبة بحقّهم المنطقيّ بتفكيك الاستعمار واستعادة بلادهم. ونجم عن هذه، التيهُ التأطيريّ والتمييع المقصود والتآمر المستتر خطابًا خجولًا وخائفًا، إمّا يَقْنَع فيه الفلسطينيّ بالقليل وإمّا يُتَّهَم بالتطرّف والتحريض. كما نجم عنه في كثير من الأحيان انفصام واضح بين ما يتمنّاه الفلسطينيّ في سرّه، وبين ما يعلنه بين الملأ.

يستعرض هذا المقال سريعًا حدود الكائن وحدود ما يجب أن يكون، مرورًا بتجارب وأطر تحرّريّة وثوريّة سابقة، ومدى تأثيرها في القانون والنظام الدوليّين، وكيف أنّ القانون عامل مهمّ في ثنائيّة التغيير الجذريّ والمحافظة على الوضع القائم.

 

قانون دوليّ في خدمة الاستعمار

يتّكئ القانون الدوليّ بصورته الكلاسيكيّة المعروفة على نظريّات وأطر، وضعها وطوّرها أكاديميّون وحقوقيّون وسياسيّون ومنظّرون غربيّون، وبتصوّرات أيديولوجيّة وفكريّة غربيّة ما زال أثرها قائمًا بعد مرور وقتٍ طويل على وضعها، وما شابه من ثورات وتقلّبات وتغييرات على النظام الدوليّ. ذلك أنّ المنظّر الغربيّ لم يكتفِ بوضع النظريّة بل تعدّاها لوضع النماذج والأسس، ومناهج وضع النظريّات لتخرج بمقاييس غربيّة تحت مسمّى القانون الدوليّ الّذي يعطي انطباعًا مغلوطًا بحياديّته وعالميّته.

النظريّات الّتي ما زالت تحكم قواعد القانون الدوليّ، وتعطي أحقّيّة للدول الغربيّة منحته بُعْدًا استعماريًّا واضحًا وعلى رأسها نظريّة «المعترض الدائم»، الّتي أسّست لإمكانيّة التهرّب من القواعد القانونيّة الملزمة والمقبولة دوليًّا[1]، ونظريّة الدول المتأثّرة بشكل مباشر[2]، الّتي مهّدت للتدخّلات العسكريّة في حروب وثورات ذات صلة أو تهديد على المصالح الغربيّة، ونظريّة «الدول المتعاقدة»[3] الّتي رسّخت لتبنّي قواعد دوليّة اقتصاديّة في قوانين الاستثمار ذات صبغة استغلاليّة غربيّة. وُضِعَت هذه التأطيرات وغيرها غربيًّا، بينما أُجْبِرت الدول الّتي حازت على تحرّرها بقبول القانون الدوليّ بصفته الموجودة وبعض التغييرات الّتي انتزعتها بنضالها وكفاحها العالميّ، وما رافقه من تغيّرات جيوسياسيّة وتجاذبات اقتصاديّة، وتأرجحات في موازين القوى.

النظريّات الّتي ما زالت تحكم قواعد القانون الدوليّ، وتعطي أحقّيّة للدول الغربيّة منحته بُعدًا استعماريًّا واضحًا وعلى رأسها نظريّة «المعترض الدائم»...

من جهة أخرى، ما زالت التأطيرات الشرقيّة، وتأطيرات نصف العالم الجنوبيّ، تحاول جاهدة أن تجد لها موطئ قدم في فلك القانون الدوليّ ونظريّاته وتطبيقاته؛ فالأمر كما عبّرت عنه المنظّرة الهنديّة جاياتري سبايفاك، ليس المهمّ في عالم القانون الدوليّ مَنْ يقول، ولكنّ المهمّ: لمَنْ نستمع بجدّيّة؟ والحقيقة أنّه ما دام نصف العالم الشماليّ يضع الأجندات والنماذج والمعايير والبروتوكولات لِما يُعَدّ إطارًا قانونيًّا وتأصيلًا مقبولًا، وما دام يُنْظَر إلى المقاربات والنظريّات الغربيّة على أنّها القانون الدوليّ، بينما تُوصَف بقيّة النظريّات والمقاربات بـ ’الفهم الخاصّ للقانون الدوليّ‘، مثل "فهم دول العالم الثالث، أو الفهم الصينيّ، أو الفهم الروسيّ إلخ..."[4] للقانون الدوليّ، فستظلّ مسألة تفكيك الاستعمار تقع في لبّ القانون بصورته الطبيعيّة، ولكنّها أيضًا تحكم بوفاته بالصورة الحاليّة المعهودة.

يرى كثير من العاملين في المجال الدوليّ أنّ القانون الدوليّ بخطابه الحاليّ قد يعمل أداة للاستعمار الخفيّ، وحارسًا للمصالح الغربيّة، سواء بالتدخّلات العسكريّة أو بالاستثمارات الاقتصاديّة؛ فالقانون الدوليّ أحاط تاريخيًّا الاستعمار وما يشبهه من أوضاع دوليّة غير مستقلّة، بإطار من القانونيّة والشرعيّة، داعمًا إيّاه بتبريرات عنصريّة للشعوب غير الأوروبّيّة وغير البيضاء، بوصفها شعوبًا بربريّة وغير متحضّرة، وبالتالي غير قادرة على الحكم الذاتيّ، وفي حاجة إلى الاتّكاء على الغربيّ المتنوّر في سبيل تمدينها.

في المقابل، فإنّ موجة التحرّر من الاستعمار الّتي مرّت بها المستعمرات الغربيّة في منتصف القرن المنصرم، لم تأتِ نتيجة مباشرة وحتميّة لتطبيق قواعد القانون الدوليّ، ولم تُمْنَح في قاعات الأمم المتّحدة بقدر تهيّؤ الظروف الجيوسياسيّة والاقتصاديّة لها، غير أنّ أدوات القانون الدوليّ الّتي تطوّرت، وأدخلت مصطلحات ومفاهيم تقرير المصير وحقّ السيادة للشعوب الواقعة تحت الاستعمار، ساهمت في الكشف عن هذه الموجات، وتثبيت أركانها، وترتيب آثارها الحتميّة حينذاك، بضغط من الشعوب، وما سبقها من انقلاب في موازين القوى.

 

عن أطر ثوريّة أخرى

على امتداد تاريخ القانون الدوليّ، حرّفت الثورات العنيفة مساره، وتحدّته بطرق عدّة؛ إذ يقوم جوهر هذه الثورات على تحدّي الوضع القائم الّذي يكون القانون الدوليّ بوجهه المستقرّ آنذاك قد أسّس له وأطّره، باتّجاه قانون تراه الثورة قانونًا أسمى إلهيًّا كان أو طبيعيًّا أو تاريخيًّا. ويرى منظّرون للقانون الدوليّ، وعلى رأسهم ديفيد أرمسترونج (1926 – 2014) أنّ القانون ينمو ويتطوّر حين يوضَع تحت الضغط في أعلى درجاته، وهو ما فعلته الثورات الأمريكيّة والسوفييتيّة والصينيّة والإيرانيّة، والّتي تُعَدّ ثوراتٍ كبرى في تاريخ القانون[5].

غير أنّ بعض الثورات، الّتي انتمت إلى شعوب ما يُعْرَف بالعالم الثالث، تركت أثرًا بالغًا في نظرة القانون الدوليّ إلى الشعوب المستعمَرة والملوّنة، تلك الّتي تخرج في تعريفها عن ’الأمم المتحضّرة‘ الّتي يخاطبها في متنه الكلاسيكيّ. «ثورة أكتوبر 1917» في المكسيك تتربّع على عرش تلك الثورات، فالأسس الّتي قامت عليها الثورة، وما نجم عنها لاحقًا من تبنّي الدستور المكسيكيّ، خلخلت أساسات القانون الدوليّ ومفاهيمه بالنسبة إلى الممتلكات والدولانيّة وعدم التدخّل، كما كان لها أثرها في مفاهيم استخدام القوّة، وحقوق الإنسان والاستثمار، ومسؤوليّة الدولة وحماية الأجانب.

ارتكز الأثر الأكبر للثورة المكسيكيّة في القانون الدوليّ على نظريّات وأطر ثوريّة كان أهمّها «نظريّة كارانزا» (Carranza Doctrine) لاحترام سيادة الدول، ممهّدة لظهور مبدأ عدم التدخّل. وقد جاءت هذه النظريّة متحدّية لنظريّة سابقة معروفة باسم «نظريّة مونرو» (Monroe Doctrine) الّتي أتاحت للولايات المتّحدة، أحد أهمّ شخوص القانون الدوليّ التقليديّ بصورته الاستعماريّة، حقّ التدخّل في شؤون الدول المجاورة الّتي تؤثّر في مصالحها الدوليّة، والّتي استخدمتها في تدخّلها السافر في فيراكروز 1914[6].

ارتكز الأثر الأكبر للثورة المكسيكيّة في القانون الدوليّ على نظريّات وأطر ثوريّة كان أهمّها «نظريّة كارانزا» (Carranza Doctrine) لاحترام سيادة الدول...

وعلى الرغم من أنّ «نظريّة كارانزا» لم تلقَ آذانًا صاغية في «عصبة الأمم»، ولا أحدثت تأثيرًا مباشرًا في العلاقات اللاتينيّة بالولايات المتّحدة؛ بسبب الظرف الجيوسياسيّ وموازين القوى الّتي دفعت وقتها بتلك الدول لالتزام لعبة القانون الدوليّ السائد بحدوده الاستعماريّة، إلّا أنّها أثّرت بشكل فعليّ على توجّهات الدول في ما بعد، وعلى تطوّر القانون الدوليّ الّذي نحا نحو تقنين مبدأ عدم التدخّل.

وفي مثال ثانٍ، رافقت الثورةَ البلشفيّة أطر ثوريّة مناوئة للنظريّة الولسنيّة «نظريّة ودرو ولسن»، الّتي حكمت روح القانون الدوليّ حينذاك، والّتي ربطت مفهوم تقرير المصير بأسس عنصريّة وخاطبت بموجبه ’الأمم المتحضّرة‘ حصرًا؛ بينما تصوّرت الثورة البلشفيّة حقّ تقرير المصير حقًّا مرتبطًا بالشعوب الواقعة تحت الاستعمار، أي "الشعوب الملوّنة وغير الأوروبّيّة"[7].

 

تصدّعات ما بعد التحرّر 

وعمل كلٌّ من اللينينيّة والماركسيّة على توفير الإطارات النظريّة لحركة معاداة الاستعمار ومناهضة العنصريّة حول العالم، ونقل هذه الإطارات الصادمة للنظام القائم حينذاك إلى خانة العمل، من خلال الاجتماعات السنويّة للكومنترن «الأمميّة الثالثة 1919-1943»، الّتي نادت بالنضال المسلّح لإسقاط البرجوازيّة الدوليّة، وبناء الشيوعيّة المتمثّلة آنذاك بالجمهوريّة السوفييتيّة. وقد وضعت هذه الاجتماعات على قائمة أعمالها المتكرّرة سؤال الاستعمار والتمييز ضدّ السود نتيجة الإمبرياليّة العنصريّة. وعلى الرغم من واقع الاتّحاد السوفييتيّ الّذي حال دون تمتّع مكوّناته بحقّ تقرير المصير، إلّا أنّه دفع حين تبنّي ميثاق «الأمم المتّحدة» في عام 1945 لتضمين مقدّمته فقرة حول تقرير المصير. كما أنّه ساهم في تبنّي الجمعيّة العامّة لإعلان استقلال الشعوب والمستعمرات 1960، مساهمًا بذلك في تفكيك الصورة الاستعماريّة الفظّة للقانون الدوليّ الأوروبّيّ المنشأ، وتابع هذه الإطارات من خلال استثماره في مؤسّسات دوليّة عاملة في مجال معاداة الاستعمار ومناهضة الإمبرياليّة[8].

إذن، غيّرت كلٌّ من الثورة الروسيّة والمكسيكيّة القانون الدوليّ، وأدخلت مفاهيم معادية للإمبرياليّة والعنصريّة، ومناصرة للحقوق الاجتماعيّة، وشكّلت الإطار الناظم لمفهوم تقرير المصير وعلاقته بالشعوب المستعمرة. هذه الثورات لم تُجْرِ تغييرات على توجّهات القانون المتبنّى آنذاك فحسب، لكنّها أجبرت الدول أعضاء المجتمع الدوليّ على إجراء تغييرات جذريّة في النظام الاجتماعيّ والاقتصاد العالميّ. ويذهب بعض المعنيّين بتاريخ القانون الدوليّ، باتّجاه القول إنّ أكثر أدوات القانون الدوليّ ثوريّة يرجع الفضل في تبنّيها إلى النظريّات الماركسيّة واللينينيّة وغيرها من النظريّات المناهضة للاستعمار، على خلاف ما رُوِّج من أفضليّة المدارس الفكريّة والقانونيّة الأوروبّيّة البيضاء على تبنّي هذه الأدوات، ويأتي «ميثاق نورمبرج» لمحاربة جريمة الإبادة الجماعيّة مثالًا رائدًا على هذا الاختطاف الفكريّ.

شَهِدَت ستّينات القرن الماضي انعطافًا في النظام الدوليّ والقانون الّذي يحكمه، تتوّج بتصويت الدول الأفريقيّة والآسيويّة في الجمعيّة العامّة، على إعلان استقلال الشعوب والمستعمرات الّذي أعلن نهاية الاستعمار بشكله الفظّ المباشر، مؤكّدًا حقّ الشعوب بتقرير المصير.

وقد نُظِّمَت هذه الجهود في منتصف الستّينات في «مؤتمر هافانا» الّذي أعلن تأطير هذه الجهود في مؤسّسة التضامن الآسيويّة والأفريقيّة اللاتينيّة. ألهم هذا المؤتمر أكاديميا ثوريّة وحركات راديكاليّة ناضلت للتحرّر من الاستعمار، تفرّعت في ما بعد لمسارات نضاليّة مختلفة شكّلت روافد للتغيير على القانون الدوليّ، كالنسويّة والماركسيّة الّتي نقدت الأيديولوجيا وعلاقات التملّك والبرجوازيّة العنصريّة، ومنهج دول العالم الثالث (TWAIL) الّتي أسّست لأطر ما بعد الاستعمار وتفكيك مؤسّساته، ومنهج الشعوب الأصليّة الّذي أوجد أطرًا للهويّة العرقيّة والقوميّة وللأرض والسيادة داخل الاستعمار الاستيطانيّ[9]. غير أنّ عودة النظام العالميّ لأحاديّة القطب مع انهيار الاتّحاد السوفييتيّ، وتبنّي سياسات نيوإمبرياليّة، واحتواء آخر الثورات الفلسطينيّة في شكل سلطة حكم ذاتيّ معطوبة وفاسدة ومقصوصة الأجنحة، حال دون وصول هذه الجهود إلى منتهاها بالتغيير الفعّال والجذريّ للقانون الدوليّ والنظام العالميّ الّذي يحتكم إليه.

 

طلاق للقانون الدوليّ أم دفع لحدوده؟ 

يتطلّب حقّ الفلسطينيّين بالتحرّر من الهيمنة مجابهة للبنية الاستعماريّة الصهيونيّة، والعمل باتّجاه تفكيك مؤسّساتها بدلًا من التساوق مع منطلقاتها وأساساتها الّتي مهّد لها النظام العالميّ، وعمل القانون الدوليّ بخطابه الكلاسيكيّ كبرغيّ في آلتها الاستيطانيّة الإحلاليّة.

لكنّ هذا المتطلّب لا يعمل بالتصادم التامّ مع مبادئ القانون الدوليّ، بقدر ما يعمل بالاتّكاء على مبادئه الأقرب إلى القانون الطبيعيّ، الّتي تراعي قيم العدالة والمساواة وحقوق الشعوب المستعمَرة، في تصادم بيّن مع الأدوات والتفسيرات وروح النصوص الاستعماريّة الغربيّة؛ وذلك من خلال توظيف مفاهيم التحرّر، والانعتاق من الهيمنة الأجنبيّة، وسلامة الأراضي، وتحريم مبدأ استخدام القوّة، وتجريم ضمّ الأراضي، وحقّ الشعوب الواقعة تحت الاستعمار بتشكيل حركات التحرّر، والانخراط في المقاومة بمختلف السبل المتاحة بما يشمل المقاومة المسلّحة.

يقع التحدّي الأوّل والأهمّ في هذا الخطّ بتوجيه هذه المفاهيم باتّجاه تفكيك الاستعمار، وسحب المشروعيّة عن المشروع الاستيطانيّ الصهيونيّ على كامل الأرض الفلسطينيّة. هذا يعني السير في خطّ عكسيّ باتّجاه عدم مشروعيّة قرار التقسيم الصادر عن «الجمعيّة العامّة» الّذي قامت بموجبه دولة إسرائيل، وما سبق هذا القرار من تواطؤ قانونيّ وسياساتيّ بريطانيّ بالأساس، وغربيّ في المجمل، يعود بجذوره إلى ما قبل صكّ الانتداب وميثاق «عصبة الأمم»، وما نجم عنهما من تأطير لاحق لمشروعيّة الاستعمار، ودولانيّة إسرائيل الّتي بدأت معها مزاحمتها على حقوق السيادة، وممارسة السلطة والشخصيّة القانونيّة الدوليّة، وحقّ الوجود وما يتّصل بالدول من مشروعيّة استخدام القوّة والمساواة في العلاقات الدوليّة، والحقّ في الدفاع عن النفس.

إنّ تفكيك هذا الخطّ هو من التعقيد بمكان، بحيث تنتزع معه روح نصوص استشراقيّة استعماريّة بيضاء عَمِلَتْ على تكريسه وتثبيت أساساته، والدفاع المستميت في سبيل بقائه مع غضّ البصر عن الأساس غير المشروع لقيامه، وتنافي هذا الأساس مع لبّ المبادئ العامّة للقانون الدوليّ حينها. وكأنّ ما كان كان، وليس لنا الآن إلّا التعامل مع الواقع ببراجماتيّة غير حالمة. وإذا ما قرّرنا زيارة الماضي، والنبش في أساس مشروعيّته، فسنجد أيضًا ليًّا لعنق النصّ، وتوظيفًا استعماريًّا للتاريخ والجغرافيا، وتفسيرات وأدوات ’قانونيّة ودوليّة‘ تفتقر إلى الشرعيّة المنطقيّة، ولكنّها تمتلك القوّة اللازمة لاتّخاذ القرار بالنيابة عن الشعوب البربريّة المفتقرة إلى التحضّر والمدنيّة.  

للحالة الفلسطينيّة خصوصيّة مميّزة؛ إذ إنّها بخلاف حركات التحرّر التاريخيّة والتجارب السابقة للشعوب المستعمرة، لا تخضع لاحتلال أجنبيّ بالمعنى الكلاسيكيّ...

إنّ الاتّجاه العكسيّ لتفكيك الاستعمار ومؤسّساته، والحكم بعدم مشروعيّة المشروع الصهيونيّ برمّته، سيواجه أيضًا مقاومة موازية من القانون الدوليّ، متمثّلة بتهم جاهزة بالتمييز والتحريض والدعوة للإبادة الجماعيّة، وما يتّصل بحقّ الدول من الوجود والسلامة من التهديد، فضلًا على حقّ شعبها بالتمتّع بالهويّة الوطنيّة، والحكم الذاتيّ وتقرير المصير، وغيرهما من حقوق الإنسان المتّصلة بالوجود الجمعيّ للشعوب، وعلاقتها بالدول والتنظيمات السياسيّة الحاكمة.

في الواقع أنّ للحالة الفلسطينيّة خصوصيّة؛ إذ إنّها بخلاف كثير من حركات التحرّر التاريخيّة والتجارب السابقة للشعوب المستعمَرة، لا تخضع لاحتلال أجنبيّ بالمعنى الكلاسيكيّ، وما يتّصل به من أدوات نضال واضحة، وأطر قانونيّة بيّنة، وحسابات الجدوى والمصلحة. حالة الاستعمار الاستيطانيّ الإحلاليّ الّذي تخضع له الأرض الفلسطينيّة هي حالة فريدة، ونصل ثنائيّ حدّ يجعل معه بقاء المشروع الصهيونيّ أو زواله مسألة وجوديّة لكلا الطرفين. فضلًا على الحسابات المتعلّقة بالعرق والدين والأيديولوجيا الحاكمة للمشروع، وما يتّصل بها من مصالح غربيّة بنيويّة، يتطلّب تغييرها قلبًا للنظام العالميّ برمّته ولا أقلّ؛ ما يتطلّب انخراطًا عالميًّا في حركة تفكيك الاستعمار ومتطلّباتها. يبدأ هذا الانخراط من قاعدة الهرم باتّجاه قمّته، تضطلع بمسؤوليّته الشعوب والحركات الاجتماعيّة، ومؤسّسات المجتمع المدنيّ، والبنية الاقتصاديّة قبل البنى السياسيّة والنظم الدوليّة الرسميّة. غير أنّ عبء التأطير له يقع ابتداءً على القانونيّين والحقوقيّين الفلسطينيّين والمناصرين للحقّ الفلسطينيّ.

 

خاتمة

يُعَدّ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، يوم تنفيذ عملية «طوفان الأقصى» وما ترتّب عليها، نقطة فاصلة، ما بعدها ليس كما قبلها. الغرب الاستعماريّ كشف بما لا يترك مجالًا للشكّ، ولا التأويل، ولا التردّد البريء منه، أو المنطوي على تلاعب، بأنّ النظام الحاليّ والقانون الدوليّ الّذي يؤطّره لا يرغب في تحرير الفلسطينيّ، ولا يعترف بحقّه، بل لا يراه. من الواجب على الفلسطينيّين أن يعودوا إلى مطلبهم الأوّل بتفكيك مشروع الاستيطان الاستعماريّ، ونقض الأيديولوجيّة الصهيونيّة الّتي تؤطّره بوصفها أيديولوجيّة عنصريّة تتعارض مع الحقّ الطبيعيّ.

ولأنّ القضيّة الفلسطينيّة ليست قضيّة قانونيّة بالدرجة الأولى، فهي أيضًا قضيّة سياسيّة واستعماريّة، فإنّ حصرها بما يسمح به القانون الدوليّ إهدار لجوهرها، وتضييع لما بقي منها. على الفلسطينيّين الآن أن يقولوا ما عليهم قوله، وما ينبع من فهمهم لواقعهم، وأن يدفعوا بهذا الإطار حدود القانون الدوليّ ليستوعب مطلبهم، ويتجاوب مع أصالة حقّهم، بدلًا من اللعب في حدوده الضيّقة الّتي لن تثمر إلّا مزيدًا من الضياع للحقّ الفلسطينيّ.  

 


إحالات

[1] Yeini, Shelly Aviv. “The Persistent Objector Doctrine: Identifying Contradictions.” Chicago Journal of International Law, vol. 22, no. 2, art. 4 (2021). Pp. 580-620.

[2] Yeini, Shelly Aviv. “The Specially-Affecting States Doctrine.” American Journal of International Law 112, no. 2 (2018): 244–53. doi:10.1017/ajil.2018.50.

[3] ABEGG, ANDREAS. “The Evolution of the Contracting State and Its Courts.” The American Journal of Comparative Law 59, no. 3 (2011): 611–36. http://www.jstor.org/stable/23045679.

[4] Zarbiyev, Fuad, “Deconolisation and International Law.” Global Challenges, Article 6, Issue no. 10 (2021) seen at https://globalchallenges.ch/issue/10/decolonisation-and-international-law/

[5] Armstrong, David, 'Norms, Rules, and Laws', Revolution and World Order: The Revolutionary State in International Society (Oxford, 1993; online edn, Oxford Academic, 1 Nov. 2003), https://doi.org/10.1093/0198275285.003.0007, accessed 26 Nov. 2023.

[6] Greenman, Kathryn, Anne Orford, Anna Saunders, and Ntina Tzouvala. “International Law and Revolution: 1917 and Beyond.” Chapter. In Revolutions in International Law: The Legacies of 1917, edited by Kathryn Greenman, Anne Orford, Anna Saunders, and Ntina Tzouvala, 1–24. Cambridge: Cambridge University Press, 2021. doi:10.1017/9781108860727.001.

[7] Ibid.

[8] W. John Morgan, “Marxism–Leninism: The Ideology of Twentieth-Century Communism”, Editor(s): James D. Wright, International Encyclopedia of the Social & Behavioral Sciences (Second Edition), Elsevier, 2015, Pages 656-662.

[9] Taha, Mai. "Decolonization in International Law”. 10.1093/obo/9780199796953-0195. (2019).

 


 

هبة بعيرات

 

 

محامية فلسطينيّة ممارسة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. حاصلة على درجة الماجستير في القانون الدوليّ وحقوق الإنسان. لها ديوان شعريّ منشور بعنوان «بيت بيوت»، ومجموعة قصصيّة منشورة بعنوان «سحابة واحدة لكلّ ما تبقّى».