يحاسبوننا على حبّنا

طفل نازح من القصف الإسرائيليّ، خان يونس، 19/11 | عبد زقّوت، Getty.

 

1

سبقت كتابة هذا النصّ محاولات عديدة غير موفّقة، خجولة ومرتبكة، لشعور إمّا بالخوف وإمّا بالذنب. كيف يجب البدء، وماذا يمكن أن يُقال، وعمّا يمكن الكتابة في هذه الحرب اللعينة.

هل أبدأ بأهلنا بغزّة، ودير البلح، ورفح، وخان يونس، وبيت لاهيا، وبيت حانون، وجباليا، والشاطئ؛ لنقول إنّ قلوبنا معهم؟ هل يجدي ذلك حين تتصدّر المشهد الطائرات والمدفعيّات، وتعجز الإرادات؟ لربّما توجّب بدل أن نعبّر بصيغة قلوبنا معهم، أن نتقدّم بتحيّة إكبار لصمودهم؛ فالصمود يعلو وطنيًّا ونضاليًّا على المفردات الأخرى، حيث يحمل، علاوة على المحبّة والتعاطف، معانيَ سياسيّة تفيد بأنّ شعبنا في القطاع صامد أمام جرائم الاستعمار، وبأنّه باقٍ على أرضه، وبأنّ ما يعيشه اليوم ليس إلّا محطّة قاسية ودامية ومؤلمة جدًّا، لكنّها محطّة على درب التحرير، وعلى الطريق نحو حلّ عادل لقضيّتنا العادلة.

قد يكون في ما سبق نوع من العزاء للبعض من أهلنا هناك، لكنّه قد يبدو سخيفًا وبليدًا لكثيرين ممَّنْ قد يفكّرون بأنّ مقولات كهذه يكتبها أشخاص لا يشهدون المجازر، ولا يعيشون القصف، ولا يتعرّضون يوميًّا للأحزمة الناريّة. لكنّ الحقيقة لا هذه ولا تلك؛ فالحقيقة أنّنا لن نجد فردًا واحدًا بين أكثر من مليونَي فلسطينيّ في قطاع غزّة، متفرّغًا ليقرأ ما نكتب، أو ليناقشنا أو يحاورنا، أو حتّى ليحاسبنا على ما نكتب، أو على كوننا لا نكتب.

 

2

لربّما مهما حاولنا، فإنّ كلماتنا لن تفيد في هذه المرحلة. لكنّها قد تكون مهمّة للكتّاب والكاتبات، في محاولة الحفاظ على إنسانيّتنا وتماسكنا، وكذلك لأبناء شعبنا وبناته خارج قطاع غزّة، وتحديدًا في أراضي 1948، الّذين بقدر ما تحدّوا أو حاولوا تاريخيًّا تحدّي مفهوم المواطنة الإسرائيليّة، بقدر ما تحدّتهم تلك المواطنة في هذه الأيّام من خلال حرّاسها الأوصياء عليها؛ لتمنعهم من الكتابة والتعبير، فضلًا على التظاهر. لا أقصد أوصياءها الرسميّين فحسب، فأولئك، وعلى الرغم من التصعيد غير المسبوق في ملاحقاتهم، اعتدنا جميعًا، ولا سيّما النشطاء السياسيّون منّا، عليهم وعلى آليّات قمعهم. لكنّ التحدّي يأتي هذه المرّة كذلك من الأوصياء غير الرسميّين، ممثّلي إسرائيل الليبراليّة، أولئك الفنّانين والمثقّفين والإعلاميّين والأكاديميّين والأكاديميّات والنسويّات، ونشطاء حقوق الإنسان، والنشطاء والناشطات البيئيّين والمثليّين والخضريّات الّذين ملؤوا «ساحة كابلان» والساحات الأخرى لمدّة عشرة شهور وأكثر، سعيًا للحفاظ على ’المؤسّسات الديمقراطيّة‘ لدولتهم ’الليبراليّة‘.

هل ننشغل بصمتنا وخوفنا وعجزنا وملاحقة إسرائيل لنا، بدلًا من الانشغال بغزّة وقضائها؟ ما قد يبدو هزيلًا أو باردًا أمام مَنْ في الصخر يقارعون، وفي الأسمنت يحفرون كي يُخرِجوا أشلاء متمنّين أن يجدوها كاملة.

هل ننشغل بصمتنا وخوفنا وعجزنا وملاحقة إسرائيل لنا، بدلًا من الانشغال بغزّة وقضائها؟ ما قد يبدو هزيلًا أو باردًا أمام مَنْ في الصخر يقارعون، وفي الأسمنت يحفرون كي يُخرِجوا أشلاء متمنّين أن يجدوها كاملة. قد يبدو هزيلًا وباردًا كلّ ما نقول، أمام مَنْ يلفّون بالأكفان البيضاء والزرقاء جثامين مَنْ لا يعرفون أسماءهم ولا أجيالهم ولا أمّهاتهم. هل يحقّ أن نتحدّث عن أنفسنا ونتحاشى ما يجري بغزّة، وقد رأينا والعالم معنا أنّ شاحنات المساعدات الأولى الّتي وصلت إليها كانت مليئة بالأكفان بدل الأرزّ والطحين والضمّادات والأدوية؟ هل نضع أنفسنا في المركز ونسوّغ خوفنا؟ ربّما من الأهمّ أن ننشغل فيمَنْ يبحثون في الردم، وفي الحجارة، وفي الحديد والأسمنت؛ لإخراج الأحياء والأموات، ونقول لهم بأنّنا نقف إجلالًا لهم ولمئات المسعفين وطواقم الدفاع المدنيّ، الّذين لم يرَوا عائلاتهم لأسابيع كي ينقلوا المصابين.

هل نعبّر عن إعجابنا وتقديرنا وحبّنا للطواقم الطبّيّة الّتي لا تنام، والّتي تعمل في ظروف لم نشهدها ولم يشهدها العالم إلّا في حروب تشبه الحرب العالميّة الثانية؟ إلى متى سنبقى حائرين من إصرار الطواقم على العمل داخل المستشفيات، وعلى تنظيم المؤتمرات الصحافيّة أمام بوّاباتها الّتي تُقْصَف يوميًّا؟ هل نخبركم، يا أهلنا في غزّة وقضائها، أنّ الأحياء والمخيّمات والمستشفيات والمدارس الّتي لم يتسنّ لنا أصلًا زيارتها منذ أكثر من عقدين، أصبحت جزءًا من تفاصيل حياتنا اليوميّة؟ هل نقول إنّنا حفظنا عن ظهر قلب أسماء شوارع وأحياء ومستشفيات ومراكز ومخابز ومخيّمات وشطوط غزّة وضواحيها؟ أنخبركم بأنّ المفارقة المبكية والمؤلمة أنّنا تعرّفنا الحياة المدنيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في قطاع غزّة فقط من خلال قصفها، وبسبب ماكينة الحرب غير المتوقّفة الّتي تجهز عليها وتهدمها وتعاقبها على مساعيها في المحافظة على الإنسان وعلى إنسانيّته، أم نخبركم أنّنا نهرب أحيانًا من هذه الأخبار علّها تتوقّف إذا ما ابتعدنا عن الشاشات؟ فالبشر دائمًا يتمنّون حين تقع المصائب الّتي لا حيلة لهم أمامها أن يناموا ويصحوا ليجدوا أنّ ما حصل كابوس، وسوف ينتهي.

لا نملك أمام عزّتك، يا غزّة، إلّا التمنّي والأحلام. إذا راقبنا ما يجري نخجل من كوننا متفرّجين على مشاهد عجز الإنسانيّة عن الدفاع عنك، وإذا هربنا من المشاهد نخجل من هروبنا من مشاهد نراها، لكنّ غيرنا يعيشها على جسده في مخيّم الشاطئ، وفي حيّ الشجاعيّة والزيتون والرمال. لا نملك إلّا أن نعيش مع شعور الذنب كوننا ما زلنا نعيش، وننام ونقوم، ونغلق الشبابيك حين يهطل المطر، ونطهو الطعام حين نجوع، ونغطّي أطفالنا بالبطّانيّات عندما ينامون ونضحك ونمزح أحيانًا... لأنّنا بشر.

تُرْتَكَب أمام أعيننا يوميًّا جرائم حرب ومجازر لا تنتهي، تعبنا من مشاهدة اللون الرماديّ، ولم يتعب منه مَنْ يهدم البيوت والمستشفيات والمدارس والمخابز والأسواق على مَنْ فيها. لم يتعب مَنْ يقصف النازحين والباقين والعائدين؛ لتصبح جميع المدن والقرى والمخيّمات في قضاء غزّة ضاربةً إلى الرماديّ. ما أقبح الرماديّ! وما أقبح مَنْ ينظر إليه ولا يصنع شيئًا في حين أنّه قادر! وما أجمل مَنْ يرتقي شهيدًا داخلَك! وما أعظم مَنْ يخترقك ليحمي الأبرياء الّذين يُلْقَون في الشوارع، أو ليحفظ طهر جثّة تنهشها الكلاب، أو أجساد فتيات وفتيان مراهقين كانوا معجبين ببلوغهم، وربّما حلموا بالحبّ وبالتبختر بجمال أجسادهم وأجسادهنّ اليانعة! بعضهم حظوا بأكفان، والآخرون بقوا عالقين تحت الرماديّ القميء، وربّما وُئِدوا ولم يُسْألوا بأيّ ذنب يُقْتَلون. ما أتعسنا ونحن ننظر إلى الردم فوق جثامينهم، متألّمين وعاجزين وغير قادرين على أن نعمل مثقال ذرّة لإزالة الرماديّ القبيح، الممزوج بالأحمر من دماء بنات شعبنا وأبنائه.

 

3

وأمّا نحن التعساء، المسمّين فلسطينيّي الداخل أحيانًا، وعرب الـ48 في أحيان أخرى، وعرب إسرائيل حين نتقهقر، نحن الّذين اعتدنا أن تلاحقنا الدولة ومؤسّساتها على مواقفنا، وعلى نضالاتنا، وعلى مشاريعنا السياسيّة، كما اعتدنا المناورة في المساحات الضيّقة في نضالاتنا للحفاظ على هويّتنا وكرامتنا الّتي خذلتنا أحيانًا. اعتدنا على كلّ هذا، وكذلك على أن نجد بيننا مَنْ يتواطأ، ومَنْ يتذلّل، ومَنْ يستفيد من الوشاية والنذالة والتعاون مع قامعيه. اعتدنا على كلّ ذلك، ولكنّنا اعتقدنا - وربّما كنّا على قناعة - أنّه على الرغم من كلّ شيء، فإنّ ’مواطنتنا‘ سوف تقينا على الأقلّ في التعبير عن مشاعرنا.

والمشروطيّة قد لا تقتصر على إعادة تعريف المواطنة، بل على وجودها أصلًا؛ إذ طالما هي منّة وفضل من السيّد وليست حقًّا لأصحاب الوطن الّذين قبلوها تنازلًا منهم، فإنّها قابلة للسحب حين ’يتخطّون الحدّ المسموح‘.

اعتقدنا أنّ تلك المواطنة، سواء تصالحنا معها أو استغللنا امتيازاتها للنضال، أو شعرنا بالاغتراب عنها أو بالنفور منها، سوف تحمينا قليلًا، حيث لطالما تبجّحت علينا الغطرسة الإسرائيليّة الليبراليّة بـ ’منحنا كمواطنين‘ الحقّ في حرّيّة التعبير؛ فإذا بتلك المواطَنة الّتي عَرَفَ كثيرون منّا، سياسيّين وباحثين ونشطاء، بأنّها فارغة، هامشيّة، غير جوهريّة، استعماريّة، تكشف بوقاحة عن وجهها الحقيقيّ، لتهدّدنا بأنّه حتّى مفهومها الإجرائيّ البسيط، الّذي يقتصر على الحقّ في التصويت والتعبير، هو أصلًا مشروط، والمشروطيّة قد لا تقتصر على إعادة تعريف المواطنة، بل على وجودها أصلًا؛ إذ طالما هي منّة وفضل من السيّد وليست حقًّا لأصحاب الوطن الّذين قبلوها تنازلًا منهم، فإنّها قابلة للسحب حين ’يتخطّون الحدّ المسموح‘. تلاحقهم تلك المواطنة ربّما بوقاحة لم يعهدوها من قبل؛ لتحاسبهم لا على ما يقولون بل على تأويل الأوصياء عليها للاستعارات الّتي يستعملون، وللمشاعر الّتي عنها يعبّرون، والأنكى من هذا وذاك أنّها تحاسبهم حتّى على صمتهم، سامحةً لنفسها أن تفترض ما يكنّون داخلهم وما عليهم أن يقولوا وما يشعرون.

وها أنا أقدّم الاعتراف لتلك المواطنة، ومن خلال الأوصياء عليها الرسميّين منهم وغير الرسميّين، أعترف لها أنّها محقّة في شكوكها؛ فنحن، المواطنين الفلسطينيّين، فعلًا نشعر بما تعتقد هي أنّنا نشعر به؛ بالحبّ والألم والتعاطف مع شعبنا في غزّة وقضائها، وبالقهر والعجز وقلّة الحيلة ممّا يجري لشعبنا من مذابح، وتهجير، وتجويع وتعطيش، وتنويم في العراء، وهدم كلّ مقوّمات الحياة. نعم، تلك المواطنة الّتي تعاقبنا محقّة، فهي تعلم مشاعرنا، ولكنّها سابقًا كانت ’تتفضّل علينا مشكورة‘ بالحقّ في التعبير عنها؛ لنجد أنفسنا اليوم نتفرّج على مشهد النشطاء المعارضين للتطبيع في العالم العربيّ، الّذين يخوضون نضالاتهم بقوّة ورغم القمع، ونحن في صمت؛ فهم يعبّرون عن معارضتهم لتطبيع أنظمتهم وللاتّفاقيّات الاقتصاديّة المختلفة المبرمة مع إسرائيل، وفي ما هم يتظاهرون ويقاومون أنظمتهم، لا نقوى نحن على تنظيم وقفات للمطالبة في وقف الحرب لا أكثر، في دولة إسرائيل ’الديمقراطيّة‘. وأمّا مشاعر الحبّ إذا عبّرنا عنها فتتحوّل إلى تحريض، وأمّا آيات الذكر الكريم فإذا كتبها بعضنا فتتحوّل إلى دعم للإرهاب - استغفر الله العظيم.

 

4

نقول لمَنْ يحاسبنا على مشاعرنا بأنّه صادق في قراءتها، نعم، نحن نعيش يوميًّا داخل أروقة مستشفيات قطاع غزّة، نتابع حربًا استثنائيّة تدور أساسًا داخل أروقة مستشفيات مليئة بآلاف المرضى والنازحين وبالطواقم الطبّيّة الآبية إلّا أن تؤدّي دورها. نعيش بقلوبنا داخل المدارس الّتي يلجأ إليها مَنْ تهدّمت بيوتهم فيُقْصَفون داخلها، نعيش معهم افتراضيًّا ونتألّم معهم جسديًّا. مرّ علينا نحو الستّين يومًا ونحن نشاهد مجازر وانفجارات تجري في مستشفيات ومدارس حفظنا أسماءها عن ظهر قلب. مرارًا وتكرارًا سمعنا من الطواقم الطبّيّة بأنّ أقسامًا من مستشفياتهم خرجت عن الخدمة، ولكنّهم مستمرّون في عملهم. ثمّ يعلنون أنّهم يفتقدون أبسط المعدّات الطبّيّة، لكن يستمرّون ثمّ يعلنون أنّ الوقود آخذ في النفاد ولكن يستمرّون، ثمّ تُقْطَع الكهرباء عنهم لكن يستمرّون، ثمّ تُقْطَع المياه فيخلطونها مع أخرى غير نظيفة، لكن يستمرّون. تنزل عليهم الأطنان من الموادّ المتفجّرة ويستمرّون، ويستشهد العديد منهم، وتخرج المستشفيات عن الخدمة، ويستمرّون.

إذا تغنّينا ببطولاتهم الأسطوريّة فقد نرسم لوحة رومانسيّة لمشاهد فظيعة وحزينة، وهذا عيب علينا. لكن دون رمنسة نقول بأنّنا نقف إجلالًا لهم، وبأنّنا نعبّر عن حبّنا لهم. والأمر نفسه ينطبق على الإعلاميّين والصحافيّين، الّذين يُقْتَلون بأعداد ونسب ليس لها سوابق منذ أن بدأ الإعلام الحديث، أولئك الّذين يدفنون موتاهم وينهضون كما فعل الصحافيّ وائل الدحدوح الّذي فقد فلذات أكباده واستمرّ في التغطية، فلا نجد إلّا أن نقول لهم ولأبناء شعبنا الصامدين: ما أجملكم! وما أقبحهم! وما أتعسنا!

 

5

نعم، نحن نخاف، لكن لا لأنّنا جبناء أو متخاذلون، بل لأنّنا بشر، والبشر خوّافون. ليس صدفة أنّنا نقول أحيانًا إنّ الصمود في وجه الجرائم بطوليّ وأسطوريّ، فنحن لا نستطيع أن ننجز الأساطير. لكنّنا جميعًا نتألّم لآلام أبناء شعبنا المحاصرين برًّا وبحرًا وجوًّا منذ ما يقارب العقدين. أبناء شعبنا وبناته الّذين قالت مؤسّسات حقوق الإنسان الدوليّة مرارًا قبل الحرب، عن جغرافيّتهم الضيّقة بأنّها مكان غير صالح للحياة. صَنَع أبناء شعبنا وبناته في قطاع غزّة حياة وأملًا وحبًّا وتفاؤلًا وفنًّا وموسيقى وعلمًا وعزّة في ظلّ الحروب، وذلك على الرغم من قساوة الحصار، ومخلّفات الحروب السابقة، وضيق المكان، والتضييق على سبل العيش الكريم وأسبابه، إلّا أنّ مَنْ يحاصرهم يأبى إلّا أن يتحدّى قدراتهم وحبّهم للحياة، بينما هو بنفسه ومن خلال طغيانه وانتقامه يجعلهم أبطالًا لا يجدون أمامهم إلّا تحقيق الأساطير.

لا يتحمّل هذا النصّ الصغير الكثير، لكن قبل أن أنهيه أشعر بأنّه لزامًا عليّ التحذير من عودة العربيّ ذي الوجهين، الّذي كثيرًا ما أسماه اليهود الإسرائيليّون ’عرڤي حَنْفان‘، ذلك الّذي تحدّثت عنه في دراسة لي حول هندسة الرجولة الفلسطينيّة في فترة الحكم العسكريّ الّتي تلت النكبة. في حينه كتبت بأنّ سياسات الحكم العسكريّ أنتجت نمطًا من ’عربيّ إسرائيليّ‘ ذي وجهين: واحد يعلنه أمام سلطات الدولة مداهنًا إيّاها لكي يحفظ لقمة عيشه، وآخر أمام نفسه وربّما أمام أهله يكره الظلم والاحتلال، ويحقد على مصادرة أرضه، ويحلم بلمّ شمله مع عالمه العربيّ.

سيتفهّم غيرنا من أبناء شعبنا إن كنّا صامتين، ولكن إن لم نحافظ على كرامتنا وهيبتنا وهيبة شعبنا وهويّتنا سوف تحاسبنا غزّة حين تنهض وتسأل: ماذا فعلتم يا إخوتي المرابطين؟

في حينه، كتبت أنّ اليهوديّ الإسرائيليّ يحتقر هذا النفاق، ولكنّ الفلسطينيّ مارسه لكي يستطيع العيش في ظلّ الحكم الّذي فرضه عليه ذلك الإسرائيليّ ’الّذي لا يحبّ النفاق‘، وربّما استمرّت هذه النفسيّة المهزومة لدى قلّة لعقود ما بعد مرحلة الحكم العسكريّ. وأمّا في المرحلة العبثيّة الّتي نعيشها اليوم، فإنّ بعض القلقين على دولتهم من اليهود الإسرائيليّين في المستشفيات، والأكاديميّات، وأماكن البيع، والصيدليّات، وشركات الهايتك، والمصانع، والكلّيّات ومساكن الطلبة، وفي الساحات الافتراضيّة أيضًا، عادوا ليطالبوا بكلّ وقاحة بعودة ذلك العربيّ ذي الوجهين. هم يعلمون، بل هم على يقين، بأنّ هذا العربيّ لا يريد أن تُلْتَقَط له صورة مع علم إسرائيل، وبأنّه لا يتماهى معه، ولا يتعاطف مع القتل الّذي يجري بحقّ أبناء شعبه في قطاع غزّة، وبأنّه يتألّم لآلامهم. لقد ذهب إلى السكوت والامتناع عن التعبير عن مشاعره؛ خوفًا إمّا من الطرد من العمل أو التعليم وإمّا من الاعتقال، وإمّا من سحب هويّته وهم يعلمون ذلك. ولكنّهم يحاسبونه حتّى على صمته، ويصرّون على ذلك العربيّ المتملّق الّذي يُظْهِر غير ما يبطن، الّذي خلقوه بأنفسهم واحتقروه.

ذلك النموذج الّذي ميّز بعض أهالينا بعد النكبة ممَّنْ لم يكن حول لهم ولا قوّة. أولئك الّذين أصرّوا، وما زالوا يصرّون، على أن يدرس أبناؤهم الطبّ والهندسة والقانون اعتقادًا منهم بأنّ المهن الحرّة تحمي بناتهم وأبناءهم من العوز، وتقيهم من الذلّ الّذي عاشوه؛ لتسخر منهم ومنّا الأقدار بعد نيّف وسبعين عامًا من النكبة، وبعد نيّف وخمسين عامًا من الحكم العسكريّ والنكسة، ولتنزل الضربة القاضية على هذا المعتقد، ولنجد أنّ أولئك الناجحين على المستوى الفرديّ، لربّما هم الشريحة الأضعف؛ فهم تحديدًا المطالبون بإثبات الولاء والخضوع.

أيّها المتغطرسون، ربّما قد تنجحون في التأثير في بعضنا، أوّلًا لأنّ أهالينا بفضلكم استبطنوا الخوف، وورثنا نحن بعضًا منه، وثانيًا لأنّ غريزة البقاء قد تعلو أحيانًا على نزعة الحرّيّة، ولكن تأكّدوا أنّ تلك الغريزة اللعينة لا تدوم. سيتفهّم غيرنا من أبناء شعبنا إن كنّا صامتين، ولكن إن لم نحافظ على كرامتنا وهيبتنا وهيبة شعبنا وهويّتنا سوف تحاسبنا غزّة حين تنهض وتسأل: ماذا فعلتم يا إخوتي المرابطين؟ فنحن نحبّ شعبنا، ونقول لأبنائه في غزّة وقضائها، سيحفظكم مَنْ قال "ألم نشرح لك صدرك".

 


 

عرين هواري

 

 

 

أكاديميّة وناشطة نسويّة وسياسيّة. باحثة في «مدى الكرمل – المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة»، حاصلة على الدكتوراة في دراسات الجندر من «جامعة بئر السبع».