الضفّاويّون الجدد

مواجاهت مع قوّات الاستعمار الإسرائيليّ على حاجز حوّارة -نابلس، 2021 | جعفر إشتيّة

 

"ماذا بقي ليُقال؟ أنا بدءًا من اليوم لن أتحدّث إلّا بيدي". تصرخ جارتي المؤقّتة، أمل الصيّاحة، الّتي حصلت على هذا اللقب القديم بتوصية من نساء الحارة؛ لأنّها لم تحشر لسانها داخل فمها يومًا، واختارت أن تطلقه محتجّة على كلّ شيء، والآن تحتجّ على ألسنة الناس ولسانها شخصيًّا؛ معلنة دخولها في أزمة وجوديّة نبشتها الحرب البعيدة (كما تقول الأخبار)، وباتت تعاني فقدانًا لغويًّا مزمنًا.

تنظر النساء إلى جسدها الضخم، وكتفيها العريضتين، وبشرتها السوداء، وحنجرتها المخبّأة تحت شال أبيض... ينظرن بخيبة، لأنّهنّ لا يعرفن ماذا سيمنحنها لقبًا بعد الآن؛ فقد حطّمت لتوّها إحدى الصور النمطيّة عن تحرّر المرأة في القرية، إذا تخلّت أمل الجهمانيّة عن صوتها، فمَنْ سيتحدّث؟

أعرف بلدات كاملة مثل هذه المرأة، بلدات فقدن لغتهنّ حتّى قبل بدء الحرب على قطاع غزّة، وصارت أبجديّتهنّ هي أيضًا تحت الردم، ويطمحن إلى العثور عليها يومًا للدفن كما يُدْفَن الشهداء دون غسل الدماء ولا صدأ القيود والخيانة عن حرف الجيم، والباء، والألف. حتّى أنّهنّ يذكرن الحروف عكسيًّا خوفًا من أشباح اللغة القديمة الّتي ستلد لغة مصدومة، تنبش في لاوعي لغتها الطفلة عن ماضيها بلدةً مستعمَرة متشظّية. حوّارة إحدى هذه البلدات، لطالما ارتبطت في ذاكرتي بالحلويّات والمناسبات الاجتماعيّة الّتي أذهب إليها مجبَرة، ومرّات كمحطّة مزدحمة بالسيّارات والبشر والدوابّ، وما تيسّر من خلق الله، وخلق الاستعمار، حين أذهب إلى نابلس.

ومع أنّني كنت صغيرة جدًّا أيّام «حاجز حوّارة – نابلس»، الّذي كنّا نترجّل عنده من السيّارات، وندخل في طوابير طويلة غاية التفتيش، إلّا أنّني ما زلت أُذَكَّر أنّه كان حاجزًا مرعبًا لأمّي تحديدًا؛ لأنّها كانت وقتذاك ’فنزويليّة مخالِفة‘ لمّا تحصل بعد على لمّ الشمل؛ لذا اعتادت أخذ هويّة قريبتها لتعرضها أمام الجنديّ فيسمح لها بالعبور تارة، ويوقفها تارات لساعة حتّى يُفْتَح الحاجز فجأة أمام الجميع، أو تندسّ بين الناس وينساها.

أعرف بلدات كاملة مثل هذه المرأة، بلدات فقدن لغتهنّ حتّى قبل بدء حرب غزّة، وصارت أبجديّتهنّ هي أيضًا تحت الردم، ويطمحن إلى العثور عليها يومًا للدفن...

قديمًا كان حدّ الاستعمار والتفتيش مرئيًّا، أمّا اليوم فأنت في حالة تفتيش مفتوح، ومرّات يوقفك الجنديّ، ودون أن يقترب منك، يومئ إليك لتفتّش نفسك بنفسك، يبحثون عن شيء مختلف لإبادته هنا.

في سلسلة زياراتي الأخيرة للبلدة أثناء عملي في رسالة الماجستير، صُدِمْت من لغتها المتآخية مع الصمت، ورحت أُنبّش عن الآثار الحسّيّة الصوتيّة الشمّيّة البصريّة الّتي عهدتها هناك، وفكّرت في أنّه من المقلق أن يعود الإنسان إلى صور طفولته القديمة فيجدها مكبّلة هي أيضًا بين الأسلاك الشائكة، وكأنّه لم يمتلك ولن يمتلك يومًا إلّا هذه الخيالات والتعريفات المحدودة لذاته المنتظِرة على الدوام قدّام الحاجز.

بحثت عن قاعات الأفراح المقيتة، عن مشتل الورد الّذي كان هوس خالتي الوحيد، وعن رائحة الحلويات الطازجة، لكنّني لم أجد شيئًا. فقط مجموعة من الشبّان يجلسون على سلّم مطعم «شمس للشاورما» قبالة الثكنة العسكريّة، يحاولون إضاءة ما يسعى المستعمِر إلى إطفائه، ولو رمزيًّا، يدخّنون وينظرون بسخط إلى حافلة الجنود الّتي جاءت بعد الظهيرة لتبديل ’الشِّفْتات‘.

أسألهم: "وين العالَم؟"، يجيبون: "مستوطِنة ختيارة أجت عند الجيش، وقالت لهم: في ولد صغير ضرب عليّ حجار وهرب. قاموا سكّروا البلد". يعقّب الثاني: "كلّ يوم بسكّروا البلد عشان مستوطن بعيّط من حجر انضرب. سقايط".

حوّارة لم تعُد حتّى محطّة، لم تعُد تربط بين مكانين أو أماكن عدّة، بل تفصل بينها، وثمّة ما هو أسوأ: هي نفسها مفصولة عن ذاتها، ومقسَّمة إلى قسمين: الشارع الرئيسيّ وباقي البلدة.

في الزقاق أجد الأشجار، والقطط والكلاب الضالّة، والأطفال والشبّان، وكلّ ما هو ممنوع في الشارع الرئيسيّ؛ فأفرح مقرّرة استعادة طفولتي لأكوّن ذكريات حرّة عن هذه البقعة من حوّارة فقط، متنازلة عن مشتل الورد والحلويات وقلق والدتي الهويّاتيّ؛ لأهرِّب وعيًا جديدًا من بين السياج، أعلّمه كيف يستعيد الماضي دون الحدود. لكنّني أخاف، ما الّذي يخيفني؟ أن أنسى الحدّ. حذّرتني أستاذتي مرّة من تخطّي الحدّ مستشهدة بجملة من كتاب «الضوء الأزرق» لحسين البرغوثي: "ابقَ على الخطّ، يا حسين". ولكن، أليس عجيبًا أنّ بنات الخطّ وأولاده يعيشون في أكثر مكان تختلط فيه الخطوط، المستعمِرة مع المستعمَرة، الصامتة مع الصوتيّة، الجامدة مع المتحرّكة... وهكذا دواليك؟ نعيش الآن مأزق الخطّ، لا على مستوى الذاكرة فقط بل الجسد أيضًا.

حوّارة لم تعُد حتّى محطّة، لم تعُد تربط بين مكانين أو أماكن عدّة، بل تفصل بينها، وثمّة ما هو أسوأ: هي نفسها مفصولة عن ذاتها...

حوّارة في الخامس من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 مُنِعَ أهاليها من المشي في شارعها الرئيسيّ، أُغْلِقَت جميع محالّها، ومَنْ يعترض يقف له المستوطن ملحِّنًا: "هذا شارعنا"، بالعبريّة. ماذا إذا قسم الفلسطينيّ نفسه إلى نصفين؟ الجزء العلويّ من جسده يمرّ: عينه تتأمّل، أنفه يشمّ، أذنه تُصغي، فمه يتحرّك، يداه منغلقتان على صدره بغضب، أمّا قدماه فمشلولتان. سيحدّق على الدوام في حذاء دون قدمين مدركًا على نحو متأخّر قيمة المشي الثوريّة.

أيّام قطف الزيتون كانت لأيدينا القيمة الثوريّة ذاتها، يهاجموننا ويمنعوننا من مدّها على الأشجار، غرسها في الأرض، إعدادها للشاي أو القهوة أو فعلها لأيّ شيء آخر. ربّما هذا هو ’الضفّاويّ الجديد‘ الّذي يسعى الاستعمار إلى فرضه علينا؛ فلسطينيّ بجسد لا يستخدم إيماءات جسده أو يختصر نصفها أو يجمّد بعضها خوفًا من العقاب. هناك وجوه وأيادٍ وأقدام، لكنّ حفنة الإيماءات الممكن استخدامها محدودة جدًّا، ترفع يدك لتحكّ أنفك لا لتضرب حجرًا، تنظر بعينين جاحظتين إلى الجنديّ فـيشبحك لساعتين على الطريق، تمشي فيلاحقونك بأسلحتهم، وإن كنت صاحب متجر يُغلقوه. سِرْ، إلى الوراء فقط. هذا هو انضباط المقهور الّذي علينا تعلّمه لنصير ضفّاويّين جددًا.

عندنا في سلفيت، حاولوا ’صندقتنا‘، أغلقوا جميع المداخل المؤدّية إلى المدينة، وراحوا يعبثون في البوّابة الشماليّة القريبة من منطقة الرأس المهدَّدة بالمصادرة، الّتي يطوّقها على الدوام حفنة من المستوطنين المتطرّفين، فتارة يلاحقون سيّاراتنا، وتارة يأتي أحد مرشّحي بلديّة المستوطنة يتوعّدنا بإغلاقها إلى الأبد، وتحضر معه جرّافات ترسم خطًّا طويلًا عريضًا من السواتر الترابيّة؛ لإيهامنا بأنّ إعادة فتحها ستكون من عجائب الدنيا السبع.

كان وليد دقّة محقًّا حين قال في دراسته «صهر الوعي» بأنّ المستعمِر بات يشغلنا في أدقّ التفاصيل حتّى ننسى السياق، وحتّى يصبح وعينا مكثّفًا داخل زمان ومكان معيّنَين على حساب الأماكن والأزمنة الأخرى. بمرور الوقت، يصبح هذا الانهماك التفاصيليّ عنصرًا حاسمًا في تشكيل حياة الضفّاويّ الجديد، وتُبْنى عليه عشرات الأساليب والطرق المتحايِلة أو الرافضة الّتي لا تعدو كونها احتجاجًا على الشكل الأخير الّذي وقفت عنده تعقيدات التفاصيل.

للأسف، لا يمكننا أن ننخرط في مقاومة الاستعمار بصورته الكبيرة وأماكنه المختلفة، إذا ما تجاهلنا هذه المعارك اليوميّة الصغيرة وتجنّبنا النظر إليها عمليّةً واجبة علينا لنجتاز الخطّ، ونرسم على مزاجنا خطوطنا أو دوائرنا وأسطواناتنا الّتي نحبّ.

نحن نعيش على الحدّ، وغالبيّة الشباب اليوم هم ’تربية حدود‘ وصار خروجهم عن الخطّ يعكّر مزاج عائلاتهم النوويّة والممتدّة والمجتمع والمدينة والمستعمِر والربّ...

صيّاحتي الجميلة الّتي سرقوا زيتها وزيتونها، تذهب إلى أرضها كلّ يوم، وتأخذ معها إبريقًا أو شيئًا تتسلّى به أثناء جلوسها على الجبل، تحيّيني حين أطلّ عليها من النافذة: "صباح الخير مثقّفتنا"، وتزمّ شفتيها، فأضحك متفهّمة سخطها، وأجيبها: "صباح الخير، يا أمل الصيّاحة". وكنت الوحيدة المحافظة على لقبها هذا؛ لأنّني آمنت حينذاك بأنّ الصياح مرّات كثيرة لا يحتاج إلى صوت أو حنجرة؛ بل يحتاج إلى أفعال وأجساد ولغة أخرى تتخلّى عن رغبتها الملحّة في قول شيء لفظيّ للعالَم؛ فمَنْ يؤمن بنا شعبًا ينشد التحرّر ليس بحاجة إلى خطابات مكرّرة، ونفس الشيء مَنْ يرفضنا ويتواطأ مع الاستعمار.

نحن نعيش على الحدّ، وغالبيّة الشباب اليوم هم ’تربية حدود‘ وصار خروجهم عن الخطّ يعكّر مزاج عائلاتهم النوويّة والممتدّة والمجتمع والمدينة والمستعمِر والربّ. لذا؛ أصابهم القنوط، وفقدوا لغتهم، ولم يعودوا شغوفين إزاء ألعابها ’الفيتغانشتينيّة‘، ولم يعُد يهمّهم العالم، ما يهمّهم الآن أن يمشوا ويركضوا، ويمدّوا أيديهم لأنفسهم حتّى يتمكّنوا من مدّها إلى المحاصرين في قطاع غزّة.

وعينا اليوم هو سلاحنا المركزيّ ضدّ التشنّج، علينا أن نرفض التحوّل إلى زومبي؛ إلى مجرّد آلات محدودة الحركة. هذا ما تعلّمته من العيش في المناطق الحدوديّة: أن أصيح بجسدي وألّا أستهين بنظراتي، مشيتي، جلستي، وتلويحات يدي، حتّى وإن كانت ستُفقدني حياتي، أو تشوّهني أو ترميني وراء القضبان، إلّا أنّها لن تبقيني في مكاني، وستمنعني من النظرات العاجزة إلى ما يحدث حولي، وستحميني من التطبيع مع الشلل.

 


 

دنيا الطيّب

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة من مدينة بيت لحم، دَرَسَتْ «الإعلام» في «جامعة بير زيت». صدرت لها عدّة روايات، وتكتب في عدد من المنابر الإعلاميّة الفلسطينيّة والعربيّة.