صدمة لونيّة: شمس جعلتها إسرائيل رماديّة

سحب دخانيّة نتيجة قصف إسرائيليّ على قطاع غزّة | Getty.

 

ابنة خالتي طفلة ما تجاوزت السابعة من عمرها، أبجديّتها محدودة، وخيالها واسع، تزورني بين الفينة والأخرى، وتستعير ألواني ودفاتري لترسم عليها شمسًا رماديّة محتلّة. قبل حرب الإبادة الصهيونيّة على قطاع غزّة، كانت رسوماتها كلّها عن شمس صفراء، غير محتلّة على حدّ تعبير محمود درويش. بعد الحرب، لم يأخذ منّي الأمر وقتًا طويلًا لأدرك أنّ الاحتلال قعّد لروسن داخل ألوانها، وراح يشطب مفاهيمها الطفوليّة الفرِحة عن اللون بقبح شديد.

على الرغم من أنّ مادّتي لا تهتمّ باللوحات الفنّيّة، إلّا أنّني استقيتها من تعريف روسن للشمس؛ افتراضًا منّي وجود أنماط مختلفة للحضور اللونيّ في سياق الاستعمار الاستيطانيّ خارج إطارات اللوحات؛ فقد شوّه الاستعمار علاقتنا بالألوان على نحو مقصود، وغير مقصود، وأثّر بشكل واعٍ وغير واعٍ في طريقة تعريفنا وتفسيرنا للألوان من حولنا.

سأناقش في مقالتي أنماط الصدمات اللونيّة الّتي نعيشها، نحن الفلسطينيّين، مع التركيز على اختلاف أشكال هذه الصدمات بين مَنْ يشاهد من بعيد ومَنْ يعيشها بتفاصيلها. وهدفي من ذلك لفت الانتباه إلى الأماكن الحميمة الّتي غزاها الاستعمار ولم تُوَثَّق فلسطينيًّا، بل يُنْظَر إليها في الغالب الأعمّ تفاصيل ثانويّة لا صلة لها بالإبادة. لذا؛ سأحاول في هذا المقال تأكيد أنّ الألوان ليست اعتباطيّة في بيئة الاستعمار الاستيطانيّ، وكثيرًا ما يُسْتَعْمَر ويُفْرَض جزءًا خفيًّا من عمليّات المحو الجغرافيّة والسكّانيّة، وحتّى المشاعريّة.

 

استعمار اللون

عادةً ما تناقش الأكاديميا الألوان في سياق الاستعمار الاستيطانيّ من منظور نفسيّ بحيث تُفْهَم دلالات العنف والأذى الّتي تعرّض لها الأشخاص من خلال رسوماتهم، أطفالًا كانوا أو فنّانين. وفي دراسات السود وما بعد الاستعمار والنسويّة وغيرها، يرتبط اللون دومًا بالأبعاد العرقيّة والطبقيّة، في ما تُغَيَّب المناقشات حوله كآليّة من آليّات القمع والتعنيف الخفيّين على مستوى الجغرافيا والجسد؛ فكيف يمكننا فهم الطريقة الّتي يجري بها ذلك فلسطينيًّا؟

في حرب السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)، على سبيل المثال، ظهرت عمليّات المحو اللونيّ الّتي أقصد بها محاولة الاستعمار تغيير مفاهيمنا وعلاقاتنا بالألوان من خلال توحيد لون المكان، بحيث يطغى الرماديّ على جميع المشاهد تقريبًا: البيوت؛ الطرقات؛ الأشجار؛ السماء، وحتّى البشر؛ إذ يرتبِط هذا التوحيد في وعينا ولاوعينا بعالم الدمار والحرب والموت؛ فالأحمر مثلًا نعرفه لونًا دمويًّا، والأخضر لونًا للأشجار والطبيعة قبل أن تُقْصَف وتموت فيها الحياة.

في حرب السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)، على سبيل المثال، ظهرت عمليّات المحو اللونيّ الّتي أقصد بها محاولة الاستعمار تغيير مفاهيمنا وعلاقاتنا بالألوان من خلال توحيد لون المكان...

تُقارن إسرائيل بين مفاهيمنا المألوفة عن الألوان، وبين ما باتت حيل إليه اليوم بعدما شهدنا الحرب. مثلًا، في إحدى صفحاتها العربيّة على «فيسبوك» باسم «طريق السلامة» تشارك مقطع فيديو يُظْهِر فروقًا لونيّة واضحة بين الحياة في الضفّة الغربيّة والحياة في قطاع غزّة، كيف يلهو أطفال رام الله تحت العلم الفلسطينيّ في مشهد طبيعيّ تغزوه الألوان، وكيف يموت أطفال غزّة تحت الردم الّذي تسبّبت فيه ’الحركة الخضراء‘ على حدّ التعبير الصهيونيّ. تروِّج إسرائيل الألوان في هذا الفيديو المعنون بـ "مستقبل أولادكم في أيديكم"، مستقبلًا واختيارًا وشكلًا من أشكال الموت أو الحياة، دون أن تفصل هذه الاختيارات عن حركة «حماس» الّتي ترى أنّها المسؤولة الوحيدة عن عمليّات المحو اللونيّ، سواء في الضفّة أو في قطاع غزّة.

إنّ الطريقة الّتي يعتمدها الاستعمار في تقديم خيارات المستقبل اللونيّة لنا، تعكس فهمًا عميقًا لمعاني هذه الألوان بالنسبة إلينا من جهة، وتغلغلًا في ذاكرتنا الجمعيّة اللونيّة من جهة أخرى، ولربّما تكمن خطورة التغلغل في تنوّع طرق التشويه والمحو وابتكاريّتها الّتي قام بها، والّتي أدّت إلى شرذمة هذه الذاكرة إلى درجة أنّنا لم نَعُدْ نتّفق على تعريف واحد للون.

صحيح أنّ اللون ثابت، ولكنّنا لم نَعُدْ نراه أو نحسّ به بطريقة متشابهة ومتكافئة بيننا؛ فالصدمات المختلفة المتولّدة خلال الحرب، أو مشاهدتنا لها من وراء الشاشات، جعلتنا نكوّن تصوّرات وذكريات شديدة الخصوصيّة عمّا يعنيه الأحمر، أو الأزرق، أو الأصفر الّذي بات رماديًّا في عينَي روسن مثلًا، مع أنّ علاقتها الوحيدة بالحرب كانت عبر التلفاز.

 

اللون - جرحًا فلسفيًّا

أدّت وسائل الإعلام دورًا مهمًّا في توثيق الصدمات اللونيّة؛ بإجرائها مقارنة مصوّرة بين غزّة قبل الحرب وغزّة اليوم. ولطالما فكّرتُ في أنّ الصدمة الأكثر وضوحًا تجري بيننا نحن المتفرّجين؛ لأنّ حجم العنف والألم اللذين تعرّض لهما الغزّيّون حال دون إبراز إحساسهم بالغياب اللونيّ، الّذي توارى خلف صدمات أكثر وضوحًا مثل صدمة الموت والفقدان والتهجير. لذا؛ كانت عمليّة التأمّل العاجز لمقاطع الفيديو المتداولة عن الحياة قبل الحرب وبعدها، صادمةً لانتقالها المفاجئ من مشهد حيّ إلى مشهد ميّت، وأحيانًا تتضمّن هذه المشاهد ألوانًا مهترئة وباهتة تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتجرحنا بصريًّا، وتولّد مشاعر لا يمكننا التحكّم بها، ولا العثور على مصدرها في آن؛ لأنّها باتت جزءًا من حياتنا اليوميّة.

تسمّي بوليس[1] هذا النوع من الألم بالصدمة اللونيّة، وهي الطريقة الّتي يتجسّد بها اللون مادّيًّا، تاركًا آثار تجسيده في مشاعرنا. أتذكّر مرّة حين التقيت بأسير محرَّر في أثناء عملي في الصحافة الثقافيّة، وراح يحدّثني عن منزله الّذي شرع في بنائه، وكيف اختار طلاء جدرانه باللون الأزرق؛ محاوِلًا إخراج رماديّة السجن من رأسه. ربّما هذا العطش اللونيّ، الّذي أستعيره من حسين البرغوثي، يتجسّد بوضوح في سياقنا الفلسطينيّ، خاصّة لدى الأسرى الّذين يمكثون لسنوات في السجون؛ فالأبعاد النفسيّة للون بالنسبة إليهم ترتبط بذكرياتهم عن التحقيق والتعذيب والعزل الانفراديّ، وتكرار المشاهد نفسها يوميًّا، والعيش في دوّامة التصحّر اللونيّ، الّتي يحاولون نسيانها قدر استطاعتهم متى خرجوا من السجن.

للصدمة اللونيّة خصوصيّة سياقيّة ونسقيّة فلسطينيًّا، تجعلها أكثر من مجرّد تأثّر بصريّ بالدمار، أو حنين إلى اللون أو فرار منه؛ إنّها بطريقة ما جرح فلسفيّ...

تبيّن لنا هذه الأمثلة أنّ للصدمة اللونيّة خصوصيّة سياقيّة ونسقيّة فلسطينيًّا، تجعلها أكثر من مجرّد تأثّر بصريّ بالدمار، أو حنين إلى اللون أو فرار منه؛ إنّها بطريقة ما جرح فلسفيّ[2] ينمو بشكل علائقيّ في أرواحنا، يتأثّر بماضينا، ويؤثّر في حاضرنا ومستقبلنا.

هنا، في الضفّة الغربيّة، يتحوّل معظم المدن والبلدات والقرى الّتي ينصب فيها الاستعمار حواجز، إلى أماكن تتراوح بين الرماديّ والأخضر الداكن. مع ذلك، ثمّة أماكن تحتفظ بألوانها، ولكنّ نظرتنا إليها تتغيّر؛ فنحملها داخل رؤوسنا أينما ذهبنا، ونعجز عن التخلّص من إحالاتها المتعلِّقة بصدماتنا؛ لأنّنا لا نعي أصلًا هذه الصدمات؛ فهي أصغر وأكثر خفاء من أن تكون صدمة. أحاينًا تستوقفني عمليّات فرض اللون هذه، وأتساءل: لماذا نحن مجبَرون على رؤية ألوان معيّنة؟ لماذا لا يمكننا تغييرها؟ وهل نحن قادرون أصلًا على مواجهتها؟

 

المقاومة اللونيّة اليوميّة

صحيح أنّه ليس باستطاعتنا فعل شيء إزاء التسييج الجغرافيّ الّذي يحدّ من سيطرتنا على المكان، ولعلّ الحديث عن زراعة الأشجار، وتربية الأزهار، ونشر الحياة على الشرفات والطرقات، سيبدو مبتذلًا. لذا؛ لا بدّ لنا من العودة إلى الجسد. ولطالما كانت أجسادنا - وما زالت - ذخيرة للمقاومة، سواء أحيّة كانت أم ميّتة[3]. وقد لاحظتُ نمطًا يستخدمه الشبّان المقدسيّون للمقاومة بالألوان، ويتمثّل بارتدائهم ملابس رياضيّة سوداء باتت تشكّل اليوم جزءًا من هويّتهم فلسطينيّين مقدسيّين، وتشكّل حماية لهم من الجيش والشرطة؛ لأنّ الوحدة اللونيّة تصعّب عمليّة اكتشاف الشبّان الّذين يشتبه الاحتلال بارتكابهم مخالفات أو تنفيذ عمليّات.

ربّما يدلّنا هذا المثال الصغير على الطريقة الّتي أُعيد بها تعريف اللون في السياق المقدسيّ، ويفتح لنا الإمكانيّات للتفكير في طرق أخرى للمقاومة اللونيّة.

بالنسبة إليّ، فلسطينيّةً تعيش في الضفّة الغربيّة، أفكّر أحيانًا في أنّ هذه المقاومة قد تتمثّل في رفض تغيير مفاهيمي وعلاقتي بالألوان في حياتي اليوميّة. أرفض هيمنة الاستعمار على بصري ومشاعري، وحين أفكّر في الرماديّ فإنّني أتركه لونًا حرًّا في خيالي، ولا أستعيده لونًا خرِبًا ومحطَّمًا، أو فاصلًا ومشرذمًا.

إنّها طريقتي الخاصّة في معالجة اللاتكافؤ اللونيّ بيننا وبين المستعمِر؛ فأقصى ما باستطاعة ألواننا فعله هو حمايتنا نفسيًّا وجسديًّا، أمّا ألوانهم فإنّها قاتلة ومشوِّهة للأماكن والأرواح على حدّ سواء. ولا يثير عجبي أبدًا أنّها تُسْتَخْدَم لنزع الإنسانيّة عنّا، في ما يكون حضورها العنيف هذا معاكسًا؛ فهو وسيلة لتعزيز مشاعر الألم والصدمة، وحتّى المقاومة لدينا.

 


إحالات

[1] Bowles, Kathy Johnson. “The Color of Trauma.” Afterimage. 48.2(2021): 9-32.

[2] يرد مفهوم الجرح الفلسفيّ لدى غاربرينو في مقالته عن صدمات الأطفال في سياق الحرب، ويقصد به الطريقة الّتي تؤثّر بها الصدمات في معنى الحياة لدى الأطفال، وكيف تشوّه خرائطهم الاجتماعيّة المألوفة فيتجرّدون من أخلاقهم، ويبجّلون الموت والبؤس. في سياق هذه المقالة، أميل إلى تبنّيه لوصف الأثر النفسيّ، وهي مجرّد مقاربة. المرجع الأصليّ:

Garbarino, James. “An Ecological perspective on the effects of violence on children”. Journal of community psychology. (2001).

 


 

دنيا الطيّب

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة من مدينة بيت لحم، دَرَسَتْ «الإعلام» في «جامعة بير زيت». صدرت لها عدّة روايات، وتكتب في عدد من المنابر الإعلاميّة الفلسطينيّة والعربيّة.