خبز غزّة... والخال ميلاد

طفلة تحمل وعاءً مليئًا بالخبز، رفح، 01/11/2024 | محمّد عبد

 

لا بدّ من أن نتّفق في البداية على أمر مهمّ، أنّ كلّ الأشياء الّتي نفعلها هذه الأيّام، تحت مظلّة الحرب، ما هي إلّا ممارسات لدواعي احتماليّة أن نبقى على قيد الحياة.

لهذا؛ أكتب بإشارة منّي أنّني على قيد هذه الحياة!

 

أشعر كأنّه أصبح جزءًا من أصوات الليل، والطّبيعة الّتي صمتت فجأة من أصوات عناصرها، كأنّه أصبح جزءًا من السماء العالية البعيدة؛ هذا الطيران الحربيّ الحقير، الّذي لم يرحم آذاننا منه، ولو لحظة واحدة منذ خمسة أشهر، خاصّة حينما ينتشر بشكل مكثّف.

لماذا اختفت العصافير؟ لماذا انطفأ النور في الغرف إلى الأبد؟ ولماذا لم نَعُدْ نسمع حفيف الأشجار؟ أخبار كثيرة متضاربة تدور حول وقف إطلاق النار، تظلّ تدور وتدور وتدور بلا توقّف، وبلا أيّ ردّ حاسم، مثل لعبة السهم على الحائط؛ فالأسهم أصابت كلّ الزوايا عدا المنتصف، هذا الخبر الوحيد الّذي يرجو الجميع سماعه، هو ببساطة أمنية كلّ دقيقة وكلّ ثانية تمرّ علينا في بيت النزوح، وفي كلّ شبر لا تزال فيه روح تتنفّس في غزّة.

يقول ميلاد: "يجب عليك أحيانًا أن تكون أملًا للآخرين، علينا أن نكمل حياتنا بقدر ما نستطيع، وأن نحارب لأجل ذلك"، فأتذكّر أنّني يجب أن ألهو مع صغيرتي قدر المستطاع، وأنّ الضحكة على شفتيها يجب ألّا تغادرها أبدًا، فنجلس نتذكّر لقاءاتنا بأشخاص لم نرهم منذ أشهر. تسرح ليليا طويلًا أحيانًا كي تتمكّن من تذكّرهم، والتفتيش عن أهمّ لحظاتها معهم وأحلاها. نسترجع ذكرياتنا في البيت؛ عن غرفة ألعابها، والدمى الّتي تحبّها وتعلّقت بها. تسأل إذا ما كانت الدمى لا تزال موجودة مكانها، فأُخبرها أنّنا نتمنّى ذلك، ونلعب معًا ’لعبة الغائب‘، هي لعبة اخترعناها لنستحضر ألعابها وأشياءها الّتي تحبّها واشتاقت إليها، فتجعل منها حكاية خياليّة عمّا يفعله الجميع الآن في البيت؛ حكاية تخبرني بها عن غيابهم الّذي طال كثيرًا.

هي لعبة اخترعناها لنستحضر ألعابها وأشياءها الّتي تحبّها واشتاقت إليها، فتجعل منها حكاية خياليّة عمّا يفعله الجميع الآن في البيت؛ حكاية تخبرني بها عن غيابهم الّذي طال كثيرًا.

تفتح ليليا في قلبي كلّ يوم جرحًا جديدًا، عندما تباغتني بتفاصيل تتذكّرها فجأة عن مقتنياتنا في البيت، شموعنا الدافئة، مراقبتنا لألوان السماء من الشبّاك الغربيّ، أمّا الدمى فكلّ دمية ذات اسم وزيّ ولون، عربتها الكحليّة الّتي أمضت فيها أمتع المشاوير بصحبتنا، في شوارع غزّة وعلى شاطئ البحر؛ الشاطئ الأحنّ والأرحم على وجه الأرض؛ قارورة المياه المطليّة باللون الأزرق؛ قصصها القصيرة وألوانها ورسوماتها الّتي لم نستطع حملها كلّها معنا في الحقيبة، فظلّ معظمها وحيدًا حزينًا على رفوف المكتبة. إدراكها لمفهوم الحرب بعد مرور خمسة أشهر ليس واسعًا؛ بمعنى أنّها تعرف أنّ الحرب معناها أصوات كثيرة وحالات هلع وخوف تفرّ من عيون الجميع، وتقضي على ملامح وجوههم.

أتراها تعرف أكثر من هذا؟ ربّما، وتعرف تمامًا أنّ الحرب هي المسبّب الأوّل، الّذي أجبرنا على الخروج من البيت حتّى هذه اللحظة، لكنّها لا تعرف شيئًا عن الباب الّذي يُفْتَح على دماء حمراء ورماد وحسرات مدوّية، لا تعرف شيئًا عن الطيور الّتي تحلّق فوق مدينة من ركام.

تسألني كثيرًا عن الوقت الّذي سنعود فيه إلى بيتنا، فأخبرها أنّه يجب أن يُعْلَن في الراديو وقف إطلاق النار أوّلًا، ثمّ العودة إليه؛ لأنّ المنطقة هناك ليست آمنة، تحديدًا في ما يخصّ الأصوات العنيفة، الّتي تتذكّرها ليليا جيّدًا خلال أسبوع مُضْنٍ عشناه في الشمال في بداية الحرب. أشرح لها كلّ هذا بلغة يسيرة لتتمكّن من استيعابها، فتفهم أنّ انتظارنا هذا قبيل العودة يشكّل شيئًا من الأمان، ويبعدنا عمّا قد يحفّنا بالخطر - أسخر بيني وبين نفسي لأنّ أشباح الخطر موجودة في كلّ مكان بلا استثناء - الله هو الحامي.

ندردش عن أماكن زرناها، فتسرد ليليا باقي التفاصيل الّتي تمكّن رأسها الصغير من استرجاعها، فأفرح فينة، وفينة أخرى تتملّكني حسرة تمكّنتُ من إخفائها عنها، وأُهَمْهِم بيني وبين نفسي بأنّ تلك الأماكن أُبيدت الآن ولم يَعُدْ لها أثر!

انتهيت للتوّ من قراءة الرواية، «خبز على طاولة الخال ميلاد» للروائيّ الليبيّ محمّد النعاس. كانت النهاية مروّعة وصادمة، وكأنّ هناك مَنْ وجّه رصاصتين، إحداهما إلى قلبي والأخرى إلى عقلي، وهذا آخر ما كنت في انتظاره حقًّا، كنت أنتظر أن تشرق الشمس، وتتفتّح أزهار الأمل، وتنحلّ العُقَد في نهاية القصّة، كنت أقرؤها بشغف عالٍ، ولم أعلم أنّ حلاوتها وتفاصيلها العفويّة، الّتي أخذتني إلى عالم آخر، كانت مجرّد شِباك وقعتُ فيها. لكن ما الّذي كنت أتوقّعه من شخصيّة اهتزّت بشكل تدريجيّ، على مدار فصول الرواية؟

شعرت بنفسي مثل سمكة ذهبيّة صغيرة تمارس يومها العاديّ في البحر، إلى أن صادها الصيّاد الّذي كان ينتظر بريقها منذ أيّام، وهو  يترقّب مسارها وحركتها. هكذا شعرت بنفسي عندما وصلت النهاية، كأنّني كنت أمشي في طريق طويل ومستقيم، يعجّ بالأشخاص الّذين يخبرونني أنّ ثمّة كنزًا ثمينًا في نهاية الطريق، عليّ فقط الاستمرار بالمشي بأقصى سرعة، ثمّ اصطدمتُ بسدّ منيع لا مخرج له ولا عودة منه - مثل كلّ الأشياء الّتي تحدث في الحرب - عندما نزحنا للمرّة الأولى من الشمال، مثلًا في الثالث عشر من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، ولم نَعُدْ حتّى هذه اللحظة... لا نستطيع العودة ولا البقاء في آن، لكنّه كما أؤمن، فإنّ السلامة غنيمة، معي أغلى ما أملك؛ عائلتي.

جلست على الدرج المغطّى أعلاه بالزينكو بينما كانت السماء مشمسة، وبينما كانت تمطر لأنعم بلحظة سلام واحدة وخاطفة، استمعت لأغنية قديمة ذكّرتني بأيّام الحبّ الأوّل والوحيد...

 

أثناء قراءتها جرّبت غير روتين واحد وممارسات أصبحت عاديّة الآن، بعدما فرضت عليّ الحرب بعضًا منها؛ أكلت الخبز البائت، والبصل الأخضر الّذي أعشقه ويذكّرني بوالدي، المغطّى بتراب الأرض وكأنّه قُطِف للتوّ... جلست على الدرج المغطّى أعلاه بالزينكو بينما كانت السماء مشمسة، وبينما كانت تمطر لأنعم بلحظة سلام واحدة وخاطفة، استمعت لأغنية قديمة ذكّرتني بأيّام الحبّ الأوّل والوحيد، الّذي ما زلت أحمله في جيوب قلبي.

سرحت أثناء صلواتي في سرديّات القصّة، وإمكانيّة أن يجد الكاتب حلًّا ضروريًّا للسعادة الّتي كانت على وشك الانهيار، هذا أمر طبيعيّ، ففضولي ما تحرّك منذ أشهر إلّا تجاه ما يتعلّق بالسؤال الأكبر: متى يكون هناك وقف لإطلاق النار؟ حتّى أصبح هذا السؤال أكبر من الزمن!

قرأت أخبارًا وتحليلات سياسيّة عن آخر ما استجدّ في أيّامنا الطاحنة الّتي نعيشها؛ كي لا أنفصل تمامًا عن الواقع، أخذت استراحات قصيرة من مهامّ الغسيل لمتابعة القراءة، لعبت مع صغيرتي، ولحقنا بعضنا بعضًا حول أحبال الغسيل، وانتظرنا صوت حبيبنا معًا ينادي من أسفل الدرج عند عودته من العمل، حتّى أنّني أرسلت إليه ومضات قصيرة منها عبر الرسائل القصيرة - هو يقطن في مخزن مخصّص للرجال - يطلّ على الشارع منذ بداية الحرب، في نفس البناية الّتي نزحنا إليها لدى أقاربي، ثمّ اكتشفت لاحقًا أنّ الرسائل لم تصله بسبب عطب في الإرسال.

كنت أعود إلى البيت منهكة من العمل لصعوبة المواصلات، وبمجرّد وصولي أبحث عن حضن صغيرتي في أيّ زاوية يعبث ويخرّب، أقبّلها من كلّ مكان في وجهها، وتحضنني بقوّة، ثمّ تشير إلى حقيبة يدي، وتطلب منّي ’حاجة زاكية‘ كما وعدتها مسبقًا.

أبدّل ملابسي سريعًا، أفتح هاتفي، وأتابع قراءة صفحتين أو ثلاث، أغلقه لأحافظ على ما تبقّى من شحن بطّاريّته، ثمّ أتفحّص سريعًا وجوه كلّ مَنْ في المنزل؛ لأرى ما آلت إليه الأوضاع، أو ما إذا كان ثمّة أخبار جديدة، فأجدهم يسألونني عن آخر ما يتناقله الناس في الشارع حول الوضع الراهن، في معظم الأوقات لم أكن أعود إليهم بأيّ جديد، إلّا بما يخصّ الأسعار الهائلة الّتي وصلت إليها الحاجات الأساسيّة في الأسواق، والّتي تتردّد على ألسنة التجّار المنتشرين على الأسفلت في السوق السوداء، وأنّ الناس في الخارج مشغولون بحروبهم الصغيرة، الّتي تركّز على تأمين قوت يومهم، وإشعال الحطب لأغراض الطبخ وإعداد الخبز، فضلًا على أصوات الباعة المتجوّلين بحناجر مختلفة، مميّزة وكوميديّة أحيانًا، والروائح الّتي تختلط ما بين الخضار الطازجة بأسعار فاحشة، وما بين البهارات الرديئة بسبب شحّ الموارد، والمحالّ التجاريّة، ومحلّات الملابس الّتي خلت من أيّ قطع شتويّة ومُجْدِيَة لهذا الجوّ الأربعينيّ.

أمّا باعة القهوة، فرغم أنّه نادرًا ما تجدهم، إلّا أنّني لا أتكبّد العناء للوصول إليهم؛ لأنّ رائحتها أثناء طحنها بالتحديد تشدّك وتجذبك، وتجعلك تدور حول نفسك، رغم أنّ الازدحام في الشوارع والأسواق يمنحك شعورًا بأنّ هذا المشهد هو ’بروڤا‘ ليوم الحشر!

في كلّ مشوار صباحيّ كنت أقطعه مشيًا لأصل موقع العمل، كان في داخل رأسي ما أرغب في تفريغه وإضافته، لكنّ مشاهد النازحين في الخيام وخارجها كانت تعيدني بقسوةٍ إلى الواقع، وتقطع عليّ أحبال كلّ فكرة توقّعت أنّني وجدت الفرصة للتفكير فيها بعمق أثناء المشي.

كنت أتمنّى لو لم يوجد خيام، ولا حطب، ولا غلاء هائل، ولا طفلة صغيرة تلبس تنّورة قصيرة في فبراير البارد! كنت أتمنّى لو أنّني في البيت الآن، أصنع عشاء ساخنًا وإبريقًا من الشاي.

 

عند مرور أصابعي على مشهد حالم وحقيقيّ أثناء القراءة، كنت أتمنّى لو كان كلّ ما نمرّ به منذ خمسة أشهر مجرّد نعاس يأتي شخصًا ما فيوقظنا منه، عندما كنت ألمس دفء البيت وحنان الأماكن، وبدايات الحياة، ولذّة التفاصيل الّتي كانت تصفها الشخصيّة الرئيسيّة في الرواية. كنت أتمنّى لو لم يوجد خيام، ولا حطب، ولا غلاء هائل، ولا طفلة صغيرة تلبس تنّورة قصيرة في فبراير البارد! كنت أتمنّى لو أنّني في البيت الآن، أصنع عشاء ساخنًا وإبريقًا من الشاي.

عندما يكون الخبز العنصر الرئيسيّ بكلّ رمزيّاته وصوره المتعدّدة وأنواعه، في رواية أقرؤها خلال حرب طاحنة، يمكننا من خلال طحنها إيّانا الحصول على الخبز بصعوبة بالغة، هذا في حدّ ذاته أمر لا شكّ في أنّه يزرع سكاكين العالم كلّها في صدري. كلّ ما ذُكِر فيها كان مؤثّرًا، ابتداء بتحضير العجينة حتّى خروجها خبزًا شهيًّا ساخنًا على الطاولة. فكّرت في أن أصنع مقاربة بين خبز الرواية، والخبز الّذي شهدت صنعه في أماكن مختلفة خلال الحرب، لكن لا يمكنك أن تتخيّل، عزيزي القارئ، حجم المفارقة!

كنت أختنق من حين إلى آخر، عندما أخذ الكاتب يتنقّل بخفّة بين المشاهد، واصفًا بدقّة نشأة المخبوزات بالتحديد في ليبيا، وطرائق صنعها، وأنواع الخبز العديدة، الّتي أكاد أجزم بأنّني تذوّقت بعضًا منها خلال قراءتي للرواية، وشعرت بأنّ طعمها قد ذاب تمامًا في فمي.

يبدأ الجميع بالاصطفاف على باب المخبز منذ ساعات الفجر الأولى، عند آخر الظلام، قبل أن تشقشق الشمس، وتجلس النسوة على الرصيف ويحتمين من البرد بالأغطية الرماديّة الّتي وُزِّعَتْ على الناس الّذين بلا مأوًى، ويبدأن بلعن الحرب لعنة وراء لعنة، ساعة... وقد امتلأ الطابور، ساعتان... وقد أصبح هناك طابور آخر، ثلاث ساعات... وقد ازدحم الشارع ولم يَعُدْ بإمكان العربات المرور منه، خمس... ستّ ساعات... وتبدأ الأيادي تدقّ الزينكو والحديد، الّذي ركّبه صاحب المخبز، أو رقّعه مسبقًا، لحماية البهو الخارجيّ للمخبز من عدد الناس الهائل، وللسيطرة على انتظام الطوابير؛ ليحمي المخبز من غضبهم وسخطهم وشعورهم بالحنق والقهر؛ ليحمي المخبز من الانتظار المذلّ! وهكذا يظلّ الجميع ينتظرون خبزه، حتّى يمتدّ الطابور إلى نهاية الممرّات؛ فتتحوّل إلى طوابير مسائيّة!

هل توقّع النعاس – الكاتب - أن تؤلمني الرواية؟ هل خطر بباله أنّ أحدًا ما قد يقرأ روايته تلك، ويتأثّر إلى  هذه الدرجة بظروف نشأة الخبز بحنان ورقّة؟ نعم، إلى هذا الحدّ أوجعتني، وشعرت بأنّها عشر أيادٍ ملتفّة حول رقبتي وتمنع عنّي الهواء.

كان المغزى من كتابته لذكرياته مع الخبز استحضار طفولته الجافّة من ماضيه البعيد، تلك الّتي كانت فيها أخواته الأربع والخبز مصدر أمانه وشغفه، لكن «خبز على طاولة الخال ميلاد» بالنسبة إليّ كانت تمثّل تناقض الواقع! الواقع الّذي يفتقر إلى الأمان وإلى حضن دافئ، يفتقر إلى كِسْرَة خبز يأكلها الناس بسهولة، وبلا معاناة!

كنت أتمنّى لميلاد وزينب أن يُنْجِبا طفلًا، يمضيان معه ليلهما الطويل في غرفته الخاصّة ’دار غزالة‘، الّتي ظلّت بهذا الاسم؛ طفلًا يفتح أمامهما أبواب الحياة المغلقة، ويصنع ميلاد من أجله كعكات لذيذة وفطائر ساخنة بكلتا يديه.

عذّبتني هذه الرواية؛ ليس فقط لأنّ ميلادًا لم يتمكّن من العثور على إجابة حاسمة، ولا لرفضي كلّ محاولاته لوضع نفسه في قالب بشروط صمّمه له المجتمع، وهي شروط قد بدت صارمة لفطرته الّتي نشأ عليها، والّتي نتج عنها قتله لزينب، مع أنّني لا أعرف حتّى هذه اللحظة أخانت بالفعل أم لا، لكنّها أيضًا عذّبتني لأنّ ميلادًا ظلّ يحاول طوال الوقت أن يظلّ هو! ظلّ يحارب كلّ شيء منذ البداية ليبقى على سجيّته، يذكّرنا بأنفسنا البريئة والحالمة الّتي نحاول جاهدين ألّا تتغيّر وألّا تنهار أجمل الأشياء فينا بفعل الحرب، ولأنّ سجيّته كانت تجعل سرد كلّ التفاصيل سردًا عذبًا، كأنّ مَنْ يخبرنا بها حكواتيّ محاط بالكبار والصغار من حوله، خاصّة عندما يحدّثنا عن أسرار صنع الكرواسان الهشّ المحشوّ بالشوكولاتة مثلًا، أو أن يسرد لنا تفاصيل عن كيف تكون لمّة أفراد العائلة وكأس الشاي الدافئ بصحبتهم. على عكس ما حدث، إنّ جريمة ميلاد الأولى بالنسبة إليّ تتمثّل في قتل طفله الداخليّ، الّذي حلّ مكانه وحشًا فاض به الكيل، وقد صَحَتْ معه كلّ جراح طفولته، واضعًا حدًّا لكلّ شكوكه من خلال قيامه بفعل القتل!

كنت أتمنّى لميلاد وزينب أن يُنْجِبا طفلًا، يمضيان معه ليلهما الطويل في غرفته الخاصّة ’دار غزالة‘، الّتي ظلّت بهذا الاسم؛ طفلًا يفتح أمامهما أبواب الحياة المغلقة، ويصنع ميلاد من أجله كعكات لذيذة وفطائر ساخنة بكلتا يديه.

كلّ ما كتبته أعلاه لأعبّر عن رفضي القاطع للنهاية، لكنّني هنا أحاول تحييد مشاعري قليلًا؛ لأقول بصوت عالٍ إنّها نجحت في خطفي من لعنات الحرب ومرارتها، ويذكّرني هذا بأنّه أحيانًا تسحقنا الحياة، تسحقنا الأشياء الّتي لا نريدها، والمرغمين على فعلها دفعة واحدة.

كثُرت القصص يا حبيبي، أخاف أن أنساها لأنّ رأسي ليس بوسعه ملاحقة الأحداث أو تذكّرها كاملة، أصوغ نصف القصّة؛ لأجد قصّة جديدة قد وُلِدَتْ للتوّ، أحاول صياغتها تلك الأخرى بكلام مجعّد ومرتبك؛ لأنّني نسيت كيف يكون ترتيب الكلام؛ فتتكرّر المأساة، وهكذا أظلّ أنسى من جديد كلّ ما يجب عليّ تذكره.

 


 

هيا أبو عودة

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة من غزّة.