الأرض الأخيرة: قصّة فلسطينيّة - عرض كتاب

علي أبو مغيصيب

 

ترجمة: أسامة غاوجي.

المصدر: palestinechronicle.

 

(Ramzy Baroud. The Last Earth: A Palestinian Story. London: Pluto Press, 2018. Pre-order now)

يمكن وصف كتاب الدكتور رمزي بارود الجديد، "الأرض الأخيرة: قصّة فلسطينيّة"، بأنّه، ببساطة، سرديّة غير خياليّة للتاريخ الفلسطيني الحديث.

لكنّه لدينا، القرّاء، أكثر من ذلك بكثير، فهو يقدّم لنا، فصلاً تلو الفصل، لقاءات قريبة وممتعة بأصدقاء جدد؛ ويمنحنا الفرصة والامتياز للاستماع إلى قصص ثمينة وحيّة مترعة بمخاوف وأفراح الروح الإنسانيّة، وحافلة بمعاناتها وانتصاراتها.

إنّ مقاربة بارود وممارسته تفضحان عوار نظريّة كارليل التقليديّة عن الأبطال، التي ترى بأنّ "تاريخ العالم ليس إلّا سيرة أبطاله ورجاله العظام"، فيغدو البطل النخبويّ نقطة محوريّة ومفصليّة في التاريخ. فعبر احتفائه بالأبطال العاديّين الكامنين في دواخل نفوسنا، يجعلنا بارود نتواصل مع هذه الحيويّة الفائضة للآخر الفلسطينيّ؛ عند خالد، وجمال، وتمام، وأمّ مروان، وهناء، وسارة، وعلي، وليلى، والعديد من الأصدقاء المتضامنين مثل جو.

بعبقريّة الخيميائيّ، يصفّي بارود، في بوتقة فنّه، ساعات من المقابلات التي تروي قصص الحبّ والولادات، وحكايا الطفولة والاختفاءات والمحن، وحوادث التعذيب والموت، ليصهرها في جوهر من الحبّ والحقيقة والسحر. ونحن أيضًا، حين نقرأ ما يكتب، نصفو ونستنير بالمعرفة القويّة التي يجب ألّا يجهلها أحد.

بوصفه ناشطًا ومعلّقًا ومؤلّفًا ومحرّرًا وشاعرًا، لا شيء يضاهي الطاقة الاستثنائيّة التي يحوزها بارود إلّا حسّه العالي بالمسؤوليّة تجاه النضال الفلسطينيّ لأجل الحقوق الإنسانيّة والسياسيّة. وبينما تتّسم مقالاته بالانضباط الفكريّ، وتنتهج نهج تحليل الوقائع، فإنّ النسيج الشعريّ لـ "الأرض الأخيرة" يستبطن حسًّا من النقد والأمانة التي تنصهر في موجة شعوريّة طافحة، حانية وهادرة في آن معًا.

يقدّم كتاب "الأرض الأخيرة" ثماني قصص شخصيّة، سأتلمّس معالم ثلاث منها؛ "روح البيّارة"، و"رسالة موت"، و"رسائل إلى هبة"، وسأترك بقيّة القصص الخمس ليستكشفها القارئ بنفسه.

تكثّف قصّة "روح البيّارة" الروح الثوريّة المتجذّرة في أرض فلسطين، والتي تتشجّر عاليًا في قلوب الفلسطينيّين، وتستمدّ قوّتها وصلابتها من العائلة. فعبر ثلاثة أجيال عاشت في قبضة القسوة الإسرائيليّة، تكشف لنا قصّة يوسف وحمدة وسليم، وأمّ مروان ومحمود، وأطفالهم مروان وكمال وإيمان، أنّ الفلسطينيّ البسيط، حين يتعرّض أطفاله للخطر، يتحوّل إلى بطل، وتبزغ المرأة من المطبخ والبيّارة كاللبوءة المنقضّة على المسافة بين "صرخات أطفالها والجنود الغاضبين"، لتدافع عن جراح أبطال حرّيّة فلسطين. تزخر هذه القصّة الحقيقيّة بمعانٍ ملهمة من الحكمة والرفعة.

"رسالة الموت": لا تكاد الأخبار التي تروي قصّة اعتقال هناء شلبي وترحيلها إلى غزّة تكشف عن شيء ممّا حدث وسط ذلك؛ فقصّتها تمتدّ إلى ما قبل النكبة، فقد هُجّرت عائلتها من حيفا إلى برقين بالقرب من جنين، حيث التقى أبوها يحيى وأمّها بديعة، جارته الشابّة، وتزوّجا. قبل أن تبلغ الثامنة من عمرها، قتل رصاص الجنود الإسرائيليّين أباها، واعتُقِلَ أقرباؤها عمر وعمّار، وشقيقتها هدى، حين هجم الإسرائيليّون لسحق المقاومة الفلسطينيّة وتدمير المخيّم، وهو المكان الذي يضمّ رفات أخيها سمير، الذي استشهد هناك. اعتقلت السلطات الإسرائيليّة هناء، من دون دليل على كونها تشكّل تهديدًا على إسرائيل، وأُرْسِلَتْ للإسرائيليّين. صمدت هناء في وجه الإذلال والتعذيب الجسديّ والنفسيّ خمسة وعشرين شهرًا. عاشت هذه القسوة مرّة أخرى حين اعتُقِلَتْ من جديد عام 2012، وعندها أعلنت عن إضرابها عن الطعام، مطالبة بالعدالة، مدّة 47 يومًا، انتهت بوصولها إلى حافّة الموت ونفيها إلى غزّة.

رمزي بارود

تذكّرني قصّة "رسائل إلى هبة" بمحنة النبيّ أيّوب، بما تتضمّنه من تاريخ قاس، ومن رحلة أوديسيّة من التشرّد، والتطواف، والتضحيات الشخصيّة للمقاتلين الفلسطينيّين الأحرار.

بات علي أبو مغيصب الآن رجلًا عجوزًا، ذلك البدويّ والمقاتل المقاوم المكلوم، الذي تتكشّف ملامح قصّته في رسائله التي كتبها إلى ابنته، التي وُضِعَ اسمها في خانة المفقودين من مخيّم اللاجئين في درعا بسوريا. عام 1948، اقْتُلِعَتْ عائلة أبو مغيصب من قريتها في وادي الشلالة ببئر السبع، فلجؤوا إلى غزّة. وعام النكسة 1967، هرب عليّ إلى الأردنّ وعمره 17 عامًا، ليلتحق بمنظّمة التحرير الفلسطينيّة. بعد سنوات طويلة من ذلك التاريخ، وبعد أن عاد إلى غزّة، ظلّ عليّ متشبّثًا بأمل لا ينطفئ بالتئام شمله بهبة. يتشبّث القارئ أيضًا بأمل محموم بأن يُتوّج هذا التشرّد الأوديسيّ بعودته إلى بيته في وادي الشلالة.

وأنا أقرأ هذه الحكايات المصاغة بجماليّة لغويّة رفيعة، تذكّرت بهجة الطفولة، وغرام المراهقة، والوقوع في الحبّ، والارتباط بالمكان، لكنّني في الوقت نفسه تعجّبت من قوّة روح الفلسطينيّين الذين اعتادوا على عنف الاحتلال الإسرائيليّ اللاشرعيّ، وتساءلت في قرارة نفسي، كيف يمكنني أن أتعامل مع خسارة بيتي وألّا أعرف، كلّ هذه السنين، ما إذا كان قد دُمّر، أو هُدّم، أو سكنه أجنبيّ معتد بصورة غير قانونيّة ومن دون تعويضات؟ كيف يمكنني أن أتعامل إذا قُتل أبواي، أو أشقّائي، أو أقربائي، أو أصدقائي؟ هل يمكنني أن أوسّد الأطفال القتلى في قبورهم؟ هل بإمكاني أن أحتمل التعذيب؟ هل أمتلك القوّة للإضراب عن الطعام 47 يومًا؟ لا أعرف الإجابة، لكنّني أنحني احترامًا لروح الفلسطينيّين المحاربة.

تنتمي هذه القصص إلى خانة قصص النفي والفقدان، سواء من ظلّوا في فلسطين أو من تشرّدوا في الشتات، وهي قصص تتحدّى آلة البروباغندا الإسرائيليّة الجبّارة، وتعيد صياغة التاريخ الفلسطينيّ الذي سرقه الاستعمار الصهيونيّ المتوحّش وشوّهه طيلة عقود من الزمن.

يستعيد كتاب "الأرض الأخيرة" الحقيقة الثابتة القائمة على الحبّ الصامد الذي لا يتزعزع في قلوب اللاجئين الفلسطينيّين لأرضهم المسروقة في فلسطين.

إنّ هذا الكتاب كتاب خطير، ذلك أنّه يجعلنا نتماسّ مع أهل فلسطين ونعيش بقربهم، وهو بذلك يعلن ويؤكّد على ضرورة التحرّك الأخلاقيّ لإنهاء هذا الظلم البشع؛ لهذا السبب، لا بدّ أن نقرأ كتاب بارود "الأرض الأخيرة"، ولا بدّ أن ننشره.

 

روزنة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من الإنجليزيّة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، بإشراف الشاعر والمترجم أسامة غاوجي.

الصور الواردة في هذه المقالة من اختيارات هيئة التحرير، لا المصدر الأصل.