لجنة شؤون القرود 



"لو لم تكن فلسطين محتلّة، لكانت دولة عربيّة مثلها مثل الدول العربيّة المحيطة بها: غابة ومجتمع حيوانيّ، فيه أقلّيّة بشريّة إنسانيّة، والباقون قرود".

ممّا قيل في تقرير «لنتخيّل فلسطين كيف ستكون لو لم تكن محتلّة»، الّذي أُعِدّ من قِبَل المنصّة الإعلاميّة البشريّة الإنسانيّة «ممشى 33»، الملفوظة بطريقة ساحرة ورشيقة بالأحرف اللاتينيّة: «Mamsha33».


 

(1)

كان القرد جالسًا تحت مظلّة الموقف العموميّ، يشير بيده إلى الحافلات الآتية من بير زيت، المؤدّية إلى رام الله. توقّفت حافلة يقودها سائق قرد. تطلّبت شركة الاتّصالات الّتي يعمل القرد فيها أن يلبس بدلة وربطة عنق. دخوله إلى الحافلة الشعبيّة الطابع بذاك الهندام المتمدّن، دائمًا أشعره بشيء من الغرابة والاغتراب، وكأنّه موزة مستوردة مصطنعة في كيس فقّوس.

ازدحم الطريق بسيّارات خاصّة فاخرة يركبها بشر يلبسون بدلًا فاخرة. ارتبك القرد قليلًا؛ فهو لا يذكر أنّ عدد السيّارات الخاصّة (وعدد البشر) كان في يومٍ كثيفًا إلى هذه الدرجة. تفاقم ارتباك القرد حتّى صار تعجّبًا وجزعًا عندما وصلت الحافلة رام الله، الّتي كادت تخلو من القردة وتمتلئ بالبشر، وقد أجّجت شعوره رمقات هؤلاء الناس فيه، وكأنّه آتٍ من دغل بعيد. 

مرّ عنه "مؤثّر" بشريّ، يركب "هافربورد" مضيئًا، ويلبس ثيابًا أنيقة رياضيّة بيضاء، وسمّاعات لاسلكيّة وطاقيّة حمراء، كتلك الّتي يلبسها مغنّو "الراب".

يا للهول! قال المؤثّر بلكنة عربيّة - أميركيّة. أنت قرد!

ماذا؟ قال القرد مرتبكًا.

أنت قرد! ردّد المؤثّر. بل قرد يلبس بدلة ويحمل حقيبة رسميّة. كم أنت ظريف ومروّع في ذات الوقت! ظريف لأنّك تلبس بدلة، ومروّع لأنّه ما زالت ثمّة قرود في هذا البلد.

لا أفهم. ماذا تريد منّي؟ تساءل القرد أمام ذاك التهكّم وتلك العدائيّة، وأمام تجمُّع مُلئ من البشر الفضوليّين.

عليّ أن أصوّرك، سأحصل على مئات الألوف من المشاهدات. قال المؤثّر قبل أن يخرج هاتفه الذكيّ:

أهلًا بكم مرّة أخرى، يا أعزّائي المتابعين، لقد عثرت في هذا الصباح على شيء من غرائب الدنيا وعجائبها؛ قرد يلبس بدلة وذاهب إلى العمل، وكأنّه آدميّ مثلنا.

قفز القرد هاربًا إلى محطّة حافلات، فانفجر المؤثّر ضاحكًا ضحكته الصاخبة الّتي يألفها ويحبّها متابعوه.

 

(2)

قرّر القرد أن يرجع إلى البيت، وأن يتغيّب عن العمل بحجّة المرض. لم يفهم من أين جاء كلّ هؤلاء البشر، وأين اختفت القردة!

خلع بدلته وقفز في أنحاء البيت عاريًا، وهو يفكّر. نظر إلى الحاسوب، فتذكّر حساباته على وسائل التواصل، الّتي أغلقها قبل الأسبوع. قرّر أن يعيد تفعيل تلك الحسابات، فقد تكون الطريقة الوحيدة ليعلم ما حلّ بالدنيا من دون الخروج إلى البيت.

فتح القرد الشبكة العنكبوتيّة، فصُعق أنّ العالم قد تغيّر وانقلب رأسًا على عقب خلال نهاية الأسبوع.

قبل ثلاثة أيّام، هاجم جيش من القرود بقيادة قرد يُدعى "قيصر" مبنى الكابيتول في الجمهوريّة الرومانيّة، ودمّر جيش آخر من القرود، بقيادة قرد يدعى "نمرود" برج بابل في بلاد ما بين النهرين، فانصدمت القرود حول العالم، ومن هول تلك الصدمة بدأت بطريقة كافكيّة عسكريّة تطول قاماتها، وتفقد شعرها، وتتقلّص ذيولها، فباتت معظمها بشرًا، بل بشرًا "إنسانيّين" في ليلة وضحاها.

وقد أعربت المنظّمات الدوليّة والإقليميّة البشريّة، مثل "الأمم المتّحدة" و"جامعة الدول العربيّة" عن قلقها من هذه الظاهرة.

أمّا المتحدّث البشريّ باسم "جيش الدفاع"، فقد ظهر في غور الأردنّ في مزرعة موز تتبع لمستوطنة قريبة، وهو يحادث مجموعة من القرود: إنّ دولة إسرائيل متسامحة مع القرود الّتي تريد أن تعيش حياتها وتمارس طقوسها في الطبيعة، ولكن ما نرفضه هو "عسكرة" القرود.

ظهر بعدها العديد من الشيوخ البشريّين على شاشات التلفزة؛ لكي يذكّروا القرود بأنّ الإنسان خُلق في أحسن تقويم، حاضّين إيّاهم على الإسراع بالتحوّل إلى بشر مؤمنين صالحين. 

وجاء بعدها محلّلون اقتصاديّون نيوليبراليّون، يؤكّدون أنّ انفتاح دول العالم على السوق الدوليّة، يحتاج إلى الإقلال من منسوب القرود، وزيادة منسوب البشر.  

أمّا الماركسيّون فقد أكّدوا أنّ القرود تُعتبر من البروليتاريا الرثّة، وأنّه لا سبيل إلى تنظيم الحركة الثوريّة العمّاليّة ما دامت القرود لا تزال قرودًا.

وقد أصدر عدد من المنظّمات الحقوقيّة والنسويّة بيانات استنكار وإدانة، تؤكّد فيها أنّ القرود هي حيوانات غير قادرة بطبيعتها على احترام إنسانيّة الآخرين، وخاصّة المرأة والفئات المهمّشة. 

وأمّا مؤسّسة "هوموسيبيان" الحقوقيّة فقد كتبت رسالة إلى القرود، تقول فيها: نحن لا ندعم التوجّه القائم على التهجّم على القرود، بل نتعاطف معها، وندرك أنّها تعيش في حالة إنكار لذاتها الجوهريّة الإنسانيّة، ونقول لكلّ قرد: نحن نعرف أنّك تشعر بالعزلة، وتكره، وتعاقب نفسك؛ لأنّك قرد يريد من الداخل أن يصبح إنسانًا، لذلك؛ نبلغك باهتمام وحرص شديدين أنّ المجتمع البشريّ مفتوح لك أيّها القرد، متى تخلّيت عن حالة الإنكار الّتي تعيشها، وقرّرت أن تتقبّل كونك هوموسيبيان. 

 

(3)

مكث القرد على جهاز الحاسوب ساعات حتّى حلول المساء، غير قادر على النهوض عن الشاشة. كانت عيناه المرهقتان الحمراوان تلتهمان الصفحة الإلكترونيّة تلو الأخرى. 

حتّى قرود البارحة؛ أصدقاؤه المقرّبون، أعلنوا إنسانيّتهم على حساباتهم، وكتب عدد منهم مقالات مؤثّرة عن تجربتهم المفعمة بالإنسانيّة على المنصّات الإعلاميّة البشريّة الإنسانيّة، مثل منصّة "إنس" الملفوظة بطريقة شديدة الجاذبيّة والألق بالأحرف اللاتينيّة: "Inns" ومنصّة "بشريون.نت" الملفوظة بطريقة واثقة ومعتدّة: "Basharyoon.net"، والمنصّة الجندريّة البشريّة "جنسنا" الملفوظة بطريقة شيّقة وحماسيّة: ."Jinsuna" 

وحتّى ابن عمّه المقرّب، الّذي كان من قبل شديد القردنة في أنحاء القرى والمخيّمات، نشر على حسابه صورًا مع عشيقته البشريّة في مدريد، حيث كتب معلّقًا على الصورة: مارسوا الحبّ، لا القردنة، الحبّ دائمًا ينتصر، وهو ما يميّز الإنسانيّة.

ومن فرط ما انهمك على الحاسوب وقت الغروب، عثر القرد أخيرًا على نفسه، وهو في حالة من الجزع والغضب، في ذاك الفيديو الّذي صوّره المؤثّر وقت الصباح، مزدانة قوائمه بوجوه صفراء ضاحكة وغاضبة وباكية وتعليقات وشتائم ومناوشات واستقطابات عن سبب بقاء القرد قردًا، تخلُّف المجتمع أم تقصير السلطة؟ 

فجأة، دُقّ باب بيت.

فتح القرد، فإذا هما عنصران أمنيّان بشريّان من "لجنة شؤون القرود"، يريدان منه أن يأتي معهما "ليشرب كأسًا من كوكتيل الحليب والموز".

- حتّى أنتم أصبحتم بشرًا؟

- نعم، أخذنا دورة مكثّفة في مجال الإنسانيّة. 

 

(4)

في اليوم التالي، استيقظ القرد من النوم وهو لا يشعر بذيله. وقف أمام المرأة فشهد على التحوّل العظيم، أصبح القرد إنسانًا، بل أصبح من الخارج رجلًا وسيمًا أصهب الشعر يشبه الممثّلين الأتراك، وأصبح من الداخل إنسانًا إنسانيًّا كوزموبوليتانيًّا معاصرًا كاملًا، على نحو يذكّر بما قاله جون بول سارتر عن تشي جيفارا بأنّه الإنسان الأكثر كمالًا في القرن العشرين.

والجميل في الموضوع، أنّ الإنسان الجديد لم يضطرّ، مثلما فعل "الكومدنتي تشي" أن يدخل مع بضعة مسلّحين إلى جزيرة لتغييرها والعالم للأبد (هذه، في القرن الحادي والعشرين حركات قرود ومرفوضة قطعًا)، بل كلّ ما كان عليه أن يفعل؛ من أجل الوصول إلى الكمال الإنسانيّ، هو أن يتوقّف عن كونه قردًا.

وجد القرد الّذي أصبح إنسانًا، أنّ لجنة شؤون القرود، تركوا له في الخزانة بدلة على مقاسه الجديد الطويل. بل تركوا له سيّارة فاخرة مستأجرة في الخارج لبضعة أيّام، ريثما يشتري واحدة من خلال قرض بنكيّ.

لبس الإنسان الجديد هندامه، وصعد سيّارته متوجّهًا إلى العمل. لدى مروره من موقف الحافلات، كان السائق القرد قد ركن حافلته جانب الطريق ينتظر صعود الركّاب، وكان – للعجب - لا يزال قردًا. يا للهول! قال الإنسان الجديد مندهشًا؛ قرد يسوق! سيقلب الحافلة في الوادي، كم هو ظريف ومروّع في ذات الوقت! عليّ أن أصوّره. 

أخرج الإنسان الجديد هاتفه الذكيّ، وصوّر القرد السائق سبع ثوانٍ وهو يضحك، ونشر الفيديو على حسابه، قبل أن أكمل سياقته إلى العمل، وهو يشعر بنشوة الإنجاز الإنسانيّ؛ 

لأنّه ليس بقرد.

 


 

فخري الصرداوي

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من "جامعة ديوستو" في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.