التمثيل بالتراث... عن ابن الهيثم في رواية يوسف زيدان

الحسن ابن الهيثم وتصوير لجانب من منجزه العلميّ

 

ما من نشاط معرفيّ عرفه البشر إلّا دمغوه ببشريّتهم، وأضافوا إلى متن موضوعه هامشًا لذواتهم. حتّى في أكثر المجالات رصانة وعلميّة، ثمّة دومًا أثر لبصمة بشريّة ما. نحن أسرى أنفسنا، وحتّى في أكثر محاولاتنا المعرفيّة جرأةً تجاه العالم، لا ننعتق من حدود الحواسّ ومقولات الذهن، فإدراكنا للأشياء ملوّث بنا (أو لنقل إنّه مفعَم بنا لمَنْ تؤذيه لفظة التلويث). ونحن حتمًا لا نحاول هنا قولًا جديدًا في ثنائيّة «الذات والموضوع»؛ فهذه أكثر ثنائيّات الكتابة الفلسفيّة إتخامًا وبدانة، وأمام أدبيّاتها اللانهائيّة فإنّ التواضع يستلزم اعتصامًا بالقراءة وزهدًا شديدًا بالكتابة، فكلّ ما يمكن أن يُقال قد قيل على الأرجح.

مَنْ يختار مادّة تاريخيّة لينطلق منها، ويحشد فيها، بقدر ما حشد زيدان، هو بحكم اليقين مهتمّ بالواقعة التاريخيّة، وهو في إعماله لخياله حريص على ألّا يصطدم المتخيَّل الروائيّ بالواقع التاريخيّ...

 

هذا التورّط بذواتنا يتفاوت حسب المجال، لكن المؤكّد أنّ الكتابة عن أعمال الأدب والفنّ تفيض بهذا التورّط. ليس هذا تورّطًا حميدًا بالتأكيد، خاصّة لمَنْ يقدّمون النقد الأدبيّ بوصفه ممارسة منهجيّة بقواعد وأصول تحاكي مضامير العلوم. كثير ممّا يُكْتَب في امتداح رواية هنا أو ذمّ رواية هناك، يكون عرضًا لأشياء أخرى بعيدة عن الرواية ذاتها؛ ذائقة شخصيّة، علاقات بينيّة، زمالات، امتقاع مسبق للكاتب، مودّة سابقة للراوي، أو مجرّد تسمين لسيرة الناقد وأعماله. وقبل غير قرن، كتب أوسكار وايلد عن الناقد الأدبيّ الأرفع، بصفته فنّانًا لا ناقدًا، ولا غرابة طبعًا، فالمذكور كان مؤمنًا جذريًّا بفنّيّة الفنّ، واستحالة إخضاعه لمجسّ التحليل العلميّ ولثنائيّات الصواب والخطأ، أو الخير والشرّ.

 

المتخيّل الروائيّ والمؤكّد التاريخيّ

هذه فاتحة لازمة قبل الحديث عن رواية يوسف زيدان الأخيرة «حاكم - جنون ابن الهيثم» (2021)؛ ففي اللحظة الّتي يتحلّل فيها زيدان من صفة المحقّق التاريخيّ، ويلبس جبّة الروائيّ، يعطي نفسه رخصة كبرى حتّى وهو يقارب مسألة تاريخيّة في عمل فنّيّ. يملك زيدان الحقّ في أن يُعْمِل خياله كما يشاء، وأن يعيد رواية الأحداث بما يخدم قريحته الفنّيّة، وكثير من السجالات الّتي تعقب أعمالًا «تاريخيّة» أسيرة دائرةٍ فقيرة معروفة سلفًا، ومحفورة بالصخر لفرط تكرارها: النقد الموضوعيّ للأحداث المرويّة في العمل، واعتصام الكاتب بحقّه الذاتيّ في الخيال. في لعبة شدّ الحبل هذه، يجرّ النقّاد حبلهم صوب حدّ الحقيقة، ويشدّ الكاتب عكسَهم لناحية الخيال. لكن المسألة ليست بالضرورة رهن ثنائيّة «إمّا – أو».

مَنْ يختار مادّة تاريخيّة لينطلق منها، ويحشد فيها، بقدر ما حشد زيدان، هو بحكم اليقين مهتمّ بالواقعة التاريخيّة، وهو في إعماله لخياله حريص على ألّا يصطدم المتخيَّل الروائيّ بالواقع التاريخيّ، وأن يرفد الأوّل الثاني ويملأ فراغاته، وهي فراغات فسيحة بطبيعة الحال، ويمكن ملؤها بألف طريقة وطريقة. هذا مُنْطَلَقٌ أساس في قراءتنا لهذه الرواية، وهو منطلق عادل – في ما نرى – لمَنْ يقتحم مضمار التاريخ من بوّابة الأدب: للكاتب أن يجترح ما شاء من أحداث، وأن يخترع ما عنّ له من قصص، شريطة ألّا تصطدم اختراعاته بالثابت التاريخيّ.

ليوسف زيدان أن يحدّثنا عن الحياة العاطفيّة لابن الهيثم، وأن يضع على لسانه كلامًا من غير لغة ابن الهيثم، ويحمّله أفكارًا من عصر التنوير، وقيمًا من القرن الحادي والعشرين، وأن يخبرنا أيضًا عن حواريّات الحَسَن الشخصيّة مع أصدقاء متخيَّلين، وعن مشروباته المفضّلة، وأن يبتدع تفاصيل لطفولته المجهولة، ويخترع له حسّ فكاهة، ويهبه خواطر وأحلامًا، ويجعله متمرّدًا سرّيًّا على مركزيّة الأرض في النظام الفلكيّ لزمانه، وأن يتبنّى رواية البيهقي فيُميته – ختامًا - بالإسهال. كلّ هذا من حقّ زيدان؛ لأنّ أيًّا منه لا يصطدم مباشرة بالمؤكّد التاريخيّ عن الحسن بن الهيثم.

صحيح أنّ بعض هذا المتخيَّل مستحيل في سياق ابن الهيثم الزمنيّ، لكن لا غضاضة ما دام الأمر - مرّةً أخرى - رواية وخيالًا، ولا يتناقض مباشرة مع وقائع مؤرّخة ومؤكّدة.

ثمّة مشكلتان في رواية يوسف زيدان، وفي جزئها المتعلّق بابن الهيثم على وجه التحديد. المشكلة الأولى تكمن في شيء يفعله الكاتب، والثانية في شيء لا يفعله. والمشكلتان في حقيقتهما تُفْضِيان إلى بعض، وليستا مختلفتين إلّا بالظاهر.

 

رصفٌ لا حياكة

لقد اختار زيدان مادّة غنيّة عندما قرّر استحضار الحسن بن الهيثم عنوانًا لروايته، وجعلَه بطلًا لقسمها الثالث. وعندما نتحدّث عن «الغِنى» في المادّة، لا نقصد ما نعرفه عن حياة أبي عليّ الحسن بن الهيثم، وإنّما عن إرثه العلميّ الشاسع. لكن زيدان يترك الشاسع العلميّ، ويتمسّك بالضيّق الشخصيّ الّذي وصلنا عن حياة الرجل وسيرته. ولولا سطور محدودة لبضعة مؤرّخين (ابن أبي أصيبعة، والقفطيّ، والبيهقيّ، والشهرزوريّ) لما عرفنا شيئًا عن حياة الرجل. والواقع أنّ معرفتنا بسيرته فقيرة إلى الحدّ الّذي تجعل السيرة كلّها - بثابتها ومشكوكها وملفَّقها - مسرودةً بكاملها في رواية زيدان، وهي لو عُزِلَت وحدها لما احتلّت أكثر من صفحتين. هذا الانحياز صوب السيرة، والإضراب عن الإرث العلميّ، فوّتا فرصة أثيرة لحبك قصّة يلتحم فيها العلميّ بالحياتيّ.

ما يفعله زيدان هو رصف وليس حياكة. هو يجعل من خياله صمغًا لإلصاق أطراف الأحداث ببعضها بعضًا، بدلًا من أن يوظّف خياله نولًا لغزلها وشدّ نسيجها، أو لإعطائها بطانةً تزيدها عمقًا.

 

ما يفعله زيدان هو رصف وليس حياكة. هو يجعل من خياله صمغًا لإلصاق أطراف الأحداث ببعضها بعضًا، بدلًا من أن يوظّف خياله نولًا لغزلها وشدّ نسيجها، أو لإعطائها بطانةً تزيدها عمقًا. هو مضطرّ طبعًا إلى هذا التصميغ، وعاجز عن الحياكة؛ لأنّ المدوّنة الّتي اختارها لم تكن المدوّنة العلميّة الباذخة للحسن بن الهيثم، وإنّما سيرته الشخصيّة المحدودة، فالمادّة هنا أصغر من أن تُحاك. وحتّى عندما يحاول الاقتراب من إرث الحسن العلميّ، فهو يكشف لنا، عَرَضًا ودون قصد، حجم اغترابه عن ذاك الإرث ومحدوديّة فهمه له. لدينا غير مثال هنا، لكنّنا نكتفي بواحد حتّى يتّضح قصدنا.

يسرد زيدان حوارًا متخيَّلًا بين ابن الهيثم وامرأة، تسأله عن المناطق الداكنة الّتي تظهر على صفحة القمر وتعكّر صفاء بياضه، فيجيبها ابن الهيثم في الرواية: "... لأنّ سطح القمر غير صقيل وليس مستويًا... فتظهر فيه تلك الظلال..."، فتردّ المرأة: "نعم، لكن هذه الأشكال تتغيّر"، فيجيب الحسن: "صحيح، وهذا بحسب موضعه من الأرض". ثمّ يخبرنا زيدان بأنّ ابن الهيثم يجمع رأيه في الموضوع بعد هذا الحوار، ويكتبه في مقال عنوانه: «ماهيّة الأثر الّذي يبدو على وجه القمر».

ثمّة أمران لافتان هنا؛ الأوّل أنّ ابن الهيثم في المقال المذكور – وهو مقال كتبه بالفعل، ونملك نسخة عنه ليومنا هذا - ينقض بالتحديد ادّعاء «عدم استواء سطح القمر»، ويُثْبِت بطلانه، وهو يؤكّد، علاوة على ذلك، ثبات الأثر الداكن في صفحة القمر مهما كان الموضع أو الوقت؛ أي عكس المذكور بالرواية تمامًا؛ ففي النصّ الأصليّ لمقال ابن الهيثم، يكتب الحسن قائلًا: "ويمكن أن يُقال إنّ موضع الأثر خشونة بارزة، وأجزاؤها شاخصة... وجميع هذه الآراء تبطل وتضمحلّ عند تحقيق الناظر، ونحن نبيّن فساد جميع هذه الآراء". ثمّ يكتب بعد ذلك: "بل يوجد الأثر الّذي في القمر أبدًا في القمر، في موضع بعينه من سطح القمر، كان القمر في الأفق، أو في وسط السماء، أو في ما بين ذلك".

غرابة الخطأ الّذي يرتكبه الروائيّ، لا تنجلي تمامًا، إلّا عندما نعرف أنّ زيدان، شخصيًّا، حقّق مخطوط «ماهيّة الأثر الّذي يبدو على وجه القمر» عام 2002، عندما كان مسؤولًا عن إدارة المخطوطات في «مكتبة الإسكندريّة»؛ أي أنّه قرأ المخطوط الأصليّ، حقّقه، صدّره بدراسة عن ابن الهيثم، كتب هوامش توضيحيّة عليه، لكنّه – بعد ذلك كلّه - خرج بفهم مقلوب تمامًا لمحتواه.

كان بوسعنا أن نغضّ الطرف عن هذا الخطأ، أو أن نعدّه مقصودًا لو أنّه يخدم «أكروباتيّة» (بهلوانيّة) روائيّة معقّدة، أو مناورة خياليّة تحقّق جماليّة إضافيّة، لكنّ الأمر ليس كذلك، وحواريّة «أثر القمر» يرصفها زيدان في روايته رصفًا بجانب مثيلاتها لا أكثر، مصمّغة على ما قبلها وبعدها. والمؤسف أنّ الرأي الفعليّ، الّذي يقدّمه ابن الهيثم في مخطوطه عن «ماهيّة الأثر»، أكثر إثارة بكثير ممّا يقدّمه زيدان في روايته. وهذا مثال لافت – ومحزن - للكيفيّة الّتي يُضْحِي فيها الخيال وسيلة لإبهات الواقع وطمس غناه، وهي مفارقة متكرّرة في هذه الرواية.

وحتّى يكتمل الارتباك التاريخيّ، يخبرنا زيدان بأنّ ابن الهيثم ينتقل، بعد إنجازه لمخطوط «أثر القمر»، للعمل على كتاب «المناظر». لكن الواقع أنّ ابن الهيثم يستشهد بكتاب «المناظر» في مقال «ماهيّة الأثر»، فالثاني لاحق على الأوّل بعكس ما يسرد في روايته. ومرّةً أخرى، فزيدان لا يكسب شيئًا على مستوى الخيال والقصّ، عندما يمارس هذه البعثرة التاريخيّة.

 

خذلان الإرث

هذه خلاصة المشكلة المزدوجة لرواية زيدان: أنّه لا يقتحم جوهر الإرث الهيثميّ ليبني منه روايته، وأنّه، بالمقابل، يفشل بالإمساك به وبفهمِه عندما يحاول الاقتراب. لكن هل يمكن روائيًّا أن ينجح في أمر عسير كهذا، وفي مواجهة نصوص علميّة من خارج اختصاصه؟

 لدينا مثال لافت في الإجابة عن هذا السؤال، وهو مسرحيّة الكاتب الإنجليزيّ مايكل فراين، المعنونة «كوبنهاجن». هناك، يتناول المؤلّف شخصيّتين علميّتين في إطار تاريخيّ (نيلز بور وفيرنر هايزنبرغ)، ويدرس نتاجهما العلميّ – بصبر كبير - ليخيط من قلبه سردًا يشدّ الشخصيّ على الفيزيائيّ، ويحيك تحفة أدبيّة، بحقّ، لا تصطدم بالثابت التاريخيّ، بل تبني من داخله، وتوظّف الخيال لتحويل الرياضيّات وتعقيدات الفيزياء إلى مسائل حياتيّة نابضة بالدلالة الإنسانيّة. والواقع أنّ المقارنة بين العملين مؤلمة على غير صعيد، أهمّها أنّ ابن الهيثم يمنحنا إرثًا زاخرًا، وحريًّا بشيء من قامة «كوبنهاجن»، في ما رواية زيدان خذلان لذاك الإرث الثريّ؛ خذلان لا يتحمّله زيدان وحده، بل لعلّنا نتحمّله جميعًا.

غرابة الخطأ الّذي يرتكبه الروائيّ، لا تنجلي تمامًا، إلّا عندما نعرف أنّ زيدان، شخصيًّا، حقّق مخطوط «ماهيّة الأثر الّذي يبدو على وجه القمر» عام 2002، عندما كان مسؤولًا عن إدارة المخطوطات في «مكتبة الإسكندريّة»...

 

يسكب يوسف زيدان إطراءً بغير حدّ على ابن الهيثم، وينعته بالعبقريّ على لسان غير شخصيّة، ويمجّد به وبإرثه، لكنّه يفعل كلّ ذلك دون معرفة بذاك الّذي يمجّده، وأقصى همّه – وسط كلّ ذلك - أن يهرّب على لسان الحسن أفكاره الشخصيّة الخاصّة، بمعنًى ما، هذه مأساة ابن الهيثم المعاصرة؛ جهلنا به، ثمّ اختزالنا لإرثه في سيرة شخصيّة مشكوك في مصداقيّتها، واختصاره في عناوين كُتبه دون كُتبه نفسها، وفي تمجيدنا الأعمى لذاك الّذي لا نعرفه حقًّا.

ورغم كلّ هذا، فإذا ما عدنا – ختامًا - خطوتين إلى الوراء، وحاولنا النظر من مكان مشرف، فقد نرى شيئًا إيجابيًّا رغم مرارته: أمامنا هنا رواية ممتازة عن فهمنا المعاصر لابن الهيثم، لكنّها ليست الرواية الّتي يكتبها يوسف زيدان، وإنّما الرواية الّتي هي يوسف زيدان نفسُه في كتابته عن رجل لا يفهم من إرثه العلميّ شيئًا.

رحمك الله يا أبا عليّ.

 

 


عوني بلال

 

 

كاتب مهتمّ بتاريخ العلوم وفلسفتها، العربيّة منها على وجه الخصوص. مختصّ بالكهروديناميكا التطبيقيّة من جامعة بيرمنغهام بالمملكة المتحدة، وله كتابات عدّة في مجموعة صحف ومواقع عربيّة حول مسائل ثقافيّة  مختلفة.