من أيلول إلى أيلول

بابلو بيكاسو


(1)

كان معظم الزائرين من المستقبل محض سياح يدفعهم الحنين إلى الماضي لزيارة حاضرنا. وقد بات السفر إلى الماضي قِطاع مزدهر يكاد ينافس قطاع السفر المكانيّ على نحو يُذكّر بمقولة الكاتب ليزلي بولز هارتلي: "الماضي بلد أجنبيّ، تُمارس فيه الأشياء على نحو مختلف".  أمّا أنا، فلم أكترث بالوقت بل كنتُ أتجنّب التفكير فيه. كنت - بوصفي امرأة من المشرق - أشعر بالخوف من الماضي وبالملل من الحاضر وبعدم الاستقرار من المستقبل، لذا لم أكترث بالزائرين، خاصّة وأنّ معظمهم كانوا سيّاحًا إلّا ذلك الكهل الذي زار والديه في تشرين السابق، من أجل أن يعبّر عن حبّه لهما، وحتى تلك القصّة مملّة بالفعل وعاطفيّة على نحو مبالغ فيه.

إلّا أنّني لم أتوقّع أن يأتي يوم أقع فيه بحبّ السيّد عزّام، أحد السيّاح المستقبليّين. دائمًا ما كنت أسخر من الكليشيه الذي تقوله فتيات كليّة شؤون المرأة: "الحبّ يأتي لوحده، يأتي من بعيد"، وقد أتى حبّي بعيدًا من بلاد المستقبل.

لم أعرف إذا ما كان ذلك الحبّ وما صاحبه من لهفة ونشوة وضعف وارتخاء، هو ما جعلني أُحملق في طبق الصفيحة الأرمنيّة لأكثر من ساعة من دون الشعور بالجوع، أو كان سبب شبعي هو الشعور بالذنب على تامر، صديقي في الكلّيّة، الذي وعدته أكثر من مرّة، ببلاهة أعترف بها، أن نسافر على نحو طبيعيّ، أي من دون آلة وقت، إلى مستقبل يجمعنا. 

على الناحية الثانية من الطاولة، أنهى تامر صحنه وهو يتحدّث عن كلّ شيء، عن الماضي والحاضر والمستقبل، وعن النسويّة والذكوريّة والاشتراكيّة والرأسماليّة والإقطاعيّة والعالم الثالث وعن أنطونيو جرامشي والنخبة المعولمة الليبراليّة. في السابق، كنت أكره وأحبّ كيف كان طالب كليّة شؤون المرأة ذاك، يُخفي ما فيه من بقايا الذكوريّة والذكورة تحت غطاء كراهيّته للعولمة. أمّا الآن فلا أشعر تجاهه لا بالكراهية ولا بالحبّ، بل أشعر بالاغتراب، لا أعرف كيف أقنعت نفسي يومًا برجولة هذا الشاب اليانع غير الناضج، الذي يأكل الصفيحة كالأطفال ويجاهد للبحث عن أشباه صوت جهوريّ في تبجّحه المعهود بالمعرفة والمطالعة والثقافة.

 عندما أخبرته عن رغبتي في مستقبل هو ليس فيه، سالت دمعة على خدّه وسقطت في صحن الصفيحة الفارغ، فتأكّد لي صحّة قراري بالابتعاد عنه، الرجال يبكون عندما تحدث مصيبة، أمّا هو فيبكي لأنّني أعتقته من مصيبة علاقتنا. ربّما سيصبح شجاعًا ويحبّ بصدق وربّما سيستسلم ويجبن ويترك والدته لتختار له عروسًا، هذه ليست مسؤوليّتي. 

خرج تامر بعدها من المخبز الأرمنيّ ومشى بعيدًا، كنتُ قد توقّعت وابلًا من الرسائل النصيّة على الهاتف، مشحونة بكراهيّة بغيضة وحبّ أبغض، إلا أنّه فاجأني بعض الشيء عندما أغلق هاتفه عدّة أيام وبعث، قبل سفري، برسالة مكتوبة من خلال والدي، فيها اقتباس غريب (ومبتذل السياق) من أحد أفلام الحرب العالميّة الثانية التي يعشقها: "لقد كنتُ مغفّلًا بالفعل يا فاسيلي، الرجل سيكون دائمًا رجلًا، ليس ثمّة رجل جديد، لقد حاولنا بصعوبة بالغة بناء مجتمع متساوٍ، ليس فيه ما تحسد عليه جارك، لكن هناك دائمًا ما سيكون مثارًا للحسد، الابتسامة، الصداقة، أمور لا تستطيع أن تُصادرها، في هذا العالم، حتى في شقّه السوفييتيّ، سيكون هناك دائمًا غنيّ وفقير، غنيّ بالموهبة وفقير بالموهبة، غنيّ بالحبّ وفقير بالحبّ". 

 

(2)

لم يمرّ أسبوع إلّا وقد خطبني عزّام. هذا الحبّ الحقيقيّ جعلني أكتشف جوانب في مهجتي غير معروفة، رومانسيّة ومتهوّرة، أذكر كيف كنت دائمًا أحدّث تامر عن التروّي والبرغماتيّة، عن ضرورة الانتظار سنة أو اثنتين قبل الخطبة، عن التفكير مليًّا بكلّ خطوة نتّحذها. كم أنا حرّة الآن من كلّ ذلك!

استغرقت بالنظر إلى عزّام وهو يستمتع بقيادة سيّارته المستأجرة، (القديمة والكلاسيكية بالنسبة إليه). كان هادئًا صامتًا غير مكترث، يسوق في شوارع الماضي وطريقه إلى قلبي بسلاسة وبأقلّ جهد. عطره كان قويًّا مجهول الطراز، وهذا جذبني أكثر، تخيّلته يلتقطه في الحانوت ويجرّب رائحته في مستقبل صاخب أو في ماضٍ جميل، شعره كان بنّيًّا كثيفًا كورق القيقب يتخلّله شيب كالثلج، وكأنّه دلالة على أنه يقطن رزينًا متفكرًّا في خريف حياته. جسده كان مكتملًا كتمثال إغريقيّ يزداد قوّة وجاذبيّة مع الوقت والحتّ والتعرية. 

أحببت عزّام ببديهيّة وسهولة وكأنّني ورقة هندباء في السماء تتراقص بين النسمات. كان شعوري بتلك الهشاشة ما جعلني أقلق، فاحتجت منه أن يُطمئنني بشأن المستقبل وخلوّه من العواصف العاتية، فهو وقت مجهول حتّى لو كان حبّي له أكيدًا. قبّلت كتفه وأمسكتُ بيده التي لا يقود بها وسألته إن كان سيسمح لي باستقبال صديقاتي في المستقبل، فردّ بالإيجاب، قبّلت خدّه الأيمن وسألته إن كان سيسمح لي بالعودة إلى الماضي من أجل إكمال فصلي الأخير بالكليّة، فردّ بالإيجاب. قبّلت رأسه ومن ثم سألته إن كان سيسمح لي بزيارة والدي ووالدتي، فقال مازحًا ضاحكًا "اسمحي لي أن أقود السيّارة وتجنّب الوقوع  في حادث سير وسأسمح لك بكل ما ترغبين فعله".  

 

(3)

غادرنا من أيلولي الحاضر إلى أيلوله المستقبليّ لنبدأ شهر العسل. في جولتنا في دول الخارج كنت أجنبيّة المكان، أمّا في بلدتي المستقبليّة كنت أجنبيّة الزمان أكثر. في اليوم التالي لعودتنا كنت على شرفة القصر الواقع على رأس الجبل المطلّ على البلدة أشرب الشاي في رداء النوم، أتطلّع إلى ما كانت من قبل جبال أحراش، وقد آلت إلى جبال إسمنت. بعض المباني كانت جميلة فارهة، إلا أنّني شعرت بشيء من الاغتراب، هذه بلدتي وليست بلدتي. حتى الحيّ القديم الذي يحوي المخبز الأرمنيّ كان قد هُدم وبُني بدلًا منه مركز تجاريّ، سألت الخدم إذا ما كان هناك مخبز أرمنيّ بديل داخل المركز الجديد، فأجابوا بأنّهم لا يعرفون.  

كنتُ خائفة من الذهاب هناك للتأكّد من ذلك، بل كنت خائفة من الخروج من البيت إلى البلدة بشكل عام منذ أن وصلتني رسالة إلكترونيّة من بريد مجهول مكتوب فيها عبارة "الحمد لله على السلامة؟ تبًّا لك!". هل سيلاحقني تامر؟ شعرت بأنّه عليّ زيارة الماضي لأكون في حياته كصديقة من أجل أن يكون أقلّ مرارة منّي في المستقبل. 

جاء عزاّم إلى الشرفة فصببت له كأسًا من الشاي، وأخبرته بأنّني أحبّه وأنّه توأم روحي. ضحك وسألني ما هو دليلي على ذلك. قلت له إنّ "هذا البيت الواقع على قصر الجبل، كان في الماضي قصرًا مهجورًا وكنت دائمًا أحلم بأن أجدّده وأعيد بناءه، فجئت أنت وجدّدته وأعدت بناءه وكأنّ خواطرنا تواردت وعشقنا ذات الشيء". 

"جميل" قال عزّام "ما رأيك أن نذهب لزيارة والديك؟"  فنهضتُ عن الكرسي وعانقته وقبّلته "حقًّا!". 

"بالتأكيد! سنذهب إلى المقبرة لزيارة والدك ومن ثمّ إلى بيت العجزة لزيارة والدتك". 

أبعدتُ جسدي عن جسده بعد أن صُعقت لسببين. ثانيهما أنّ عزّام يقترح مثل هذا الأمر وأوّلهما أنني لم أفكر ولو حتّى للحظة كيف سيكون شكل حياة والدي ثلاثين سنة في المستقبل. تبًّا للحبّ وشهر العسل! 

"أنا... أنا... قصدت أن نزورهما في الماضي، هل هذه مزحة؟ لماذا تقول إنّك تريد زيارتهما في هذا الوقت؟". 

"لأنك لن تعودي إلى الماضي، وسوف تعيشين حياتك في هذا البيت وفي هذه البلدة وفي هذا الوقت تحت رقابة حرسي الدائمة". 

"ماذا؟! لا أفهم!" نظرتُ في عينيّ عزّام العميقتين الغاضبتين المجنونتين واكتشفت المصيبة. 

"تامر؟!" سألت ويداي تهتّزان من الجزع ودمعةٌ واحدة تنزل على خدي. 

أشار تامر بيده إلى دمعتي وقال: "هذا هو بالضبط ما أريد أن أراه وأحصل عليه، كلّ يوم وإلى الأبد!".

 


 

فخري الصرداوي

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من "جامعة ديوستو" في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.