كلّهم يرقصون على التكنو ما عداي

فرانسيس غويا

 

ها هو الوطن مربوط فوق ظهرك الواسع. تستطيع السير يا بغلي الجميل… عليك أن تمشي حتّى تخرّ قواك وتنهار في إحدى المدن الكبيرة والباردة، وعندما تسقط، سوف تتكوّر على نفسك مثل جنين خائف في رحم بارد وغريب.

اجلس وراقب؛ وجوه كثيرة وقصص أكثر، انظر إلى كلّ هذه العيون الّتي تلمع في هذه الأقبية المعتمة والسراديب التحتيّة، انظر إلى كلّ هذه الشرايين الّتي تضخّ الدماء المليئة بالكحول والخوف والموسيقى... انظر إلى الخوف!

 الخوف رجل محترم يجلس في الزاوية ببدلته المخطّطة مثل حمار وحشيّ… لا أحد يراه أو ينتبه إليه… يضع رأسه بين ركبتيه ويردّد: أنا لستُ خائفًا… أنا لستُ خائفًا. 

لديك الوقت كلّه للاستيقاظ من النوم. لا شيء مستعجلًا لليوم، وربّما للسنتين القادمتين على أقلّ تقدير. هذا ما قاله الخبراء على التلفزيون بالأمس، لا تستيقظ، تثاءب أيّها المواطن الضئيل... ابلع المحيط كلّه ولا تترك ذرّة هواء، ثمّ انفجر مثل بالون ضخم فوق هذه المدينة الصامتة؛ بالون هائل من الفرح والتفاؤل والكرات الملوّنة.

كلّ شيء معطّل في الخارج؛ برلين صامتة. الحدائق فارغة والمطاعم مقفولة بالجنازير الثقيلة. لقد تفشّى الوباء. لا أحد على التلفزيون سوى ماما ميركل، ولا أحد يستطيع الدخول أو الخروج من المدينة إلّا ماما ميركل أيضًا. لقد تفشّى الوباء وأغلق العالم أبوابه، وكلّ ما تبقّى لك من هذه الحفلة الكبيرة، هو نافذة تطلّ على هذا الهدوء المفزع في الخارج. هذا ما يمكنك أن تفعله ببساطة؛ أن تراقب الشمس وهي تزحف على جدران غرفتك الصغيرة طوال النهار.

ثمّة إيقاع جديد وعليك أن ترقص على هذا الإيقاع! عليك أن تتعلّم، انظر إلى البشر من حولك وهم يتحوّلون إلى قطعان من الماعز المطيع… انظر إلى هذه الأفواه المفتوحة للذباب والعدم.

تستطيع رؤية الوباء من هنا… في العشب الّذي ينمو ويتطاول أمام منزلك الصغير، تستطيع رؤيته في الأرجوحة الّتي تتحرّك بهدوء مع رياح الربّ الصباحيّة…

ثمّة إيقاع جديد، وعليك أن تتمايل معه مثل عشبة سامّة في هذه الحديقة الجميلة.

كانت الصدمة قاسية في البداية ولكنّنا اعتدناها… اغسل يديك لثلاثين ثانية بالماء والصابون. افرك جيّدًا ما بين الأصابع. عليك أن تجلي سنين عمرك بالكحول. لا تلمس وجهك. لا تلمس الدرابزين. قلت لك لا تلمس وجهك. لا تلعب بالكِمامة كثيرًا لكي لا يتسلّل الفيروس إليك. لا تقبّل أو تحضن أحدًا… لا تعطس. انتبه من مقابض الأبواب، لا تقف مثل أبله هنا. هيّا… تحرّك أيّها الأحمق.

سر مع السائرين… ضع رأسك بين الرؤوس وقل يا قاطف الرؤوس… ها هي المنظومة تنهار؛ حضارة كاملة من الليغو تنهار أمامك يا طفلي المدلّل. 

الرفوف فارغة في السوبرماركت، ولا شيء يشجّع على الشراء أكثر من الرفوف الفارغة. كلّ شيء يختفي بسرعة فائقة؛ علب السردين والتونة والمعكرونة والكورنفليكس وورق التواليت.

 آآآآآه من ورق التواليت! لقد تحوّل الناس إلى مؤخّرات كبيرة هائجة في هذا الوباء... مؤخّرات غاضبة تبحث عن مساحة للأمان ولا تجدها… ومع ذلك لا بأس. إنّهم بشر، مجرّد بشر؛ يضحكون ويبكون ويصابون بالذعر خلف عرباتهم المتورّمة، بشر تضيء عيونهم أمام الشاشات اللانهائيّة، بشر معجونون في طين البراءة والخبث والسذاجة والطيبة…

إنّهم مجرّد بشر، وللمرّة الأولى، نكون فيها معًا... 7 مليارات إنسان يدًا بيد على طول المعمورة، نراقب... نتفتّل بين الجهات الأربع بأعناق ممطوطة وننتظر التعليمات من كلّ مكان… وما أن سمعنا صافرة الراعي الحنون، حتّى هرعنا إلى حظيرتنا الدافئة.

 أهلًا بكم في عصر الحجر الصحّي؛ الحفلة الكبيرة الّتي لن يخرج منها أحد. 

ودخلنا إلى حظيرة الحجر الصحّي، حظيرة التكنو الجميلة الواسعة. مشينا في الممرّ الضيّق. كانت الموسيقى أشباحًا قديمة تسبح في كلّ مكان، تستطيع أن تراها هذه المرّة؛ أشباح تخرج من سمّاعات يوم القيامة؛ من الجدران والسقف والأرضيّة، أشباح تدور وتدور في المكان، وتكاد تمسّ قلوبهم، ولكنّها لا تفعل. 

وصلنا إلى الباب الكبير. كان موصدًا، ومثبّت عليه مطرق نحاسيّ يشبهني إلى حدّ بعيد… أعرف هذه الرأس… إنّها رأسي، كانت بحجم كفّة اليد. أمسكت المطرق وبدأت بطرق الباب، ومع كلّ مرّة كنت أطرق فيها هذا الباب الكبير، كان يجتاحني ذلك الألم الهائل في مؤخّرة رأسي.

بعد لحظات، انفتح الباب وخرجت موظّفة محترمة من الداخل تفوح منها رائحة الشامبو والكريمات... أخرجتْ ختمًا دائريًّا أحمر، وطبعته على معصمي وأفسحت الطريق، وقالت: "تفضّل يا سيّدي".

كان الختم وجه ماعز عصبيّ داخل دائرة.

لقد ختموا يدي! الآن سوف تتحوّل أيّها الكاتب المحترم ذو الكرش الحنون إلى party animal، ماذا تريد أفضل من ذلك؟ ثلاثة أيّام من الجنون المتواصل. لقد كنت طوال عمرك مجرّد نكرة، محض animal لا راح ولا أجا، أمّا الآن يا عزيزي، لقد اختلفت المعادلة كلّيًا وأصبحت السيّد party animal.

انفتح الجحيم على مصاريعه… ها هي الموسيقى أمامك… إنّها التكنو يا أمّي، أرض خضراء يسرح فيها الماعز بدون أيّ مشاكل وجوديّة… حظيرتنا الدافئة... إنّها التكنو يا الله، مليون شيطان يتقافزون أمام وجهك الكريم، وليس عليك أن تفعل أيّ شيء سوى أن تراقب بصمت!

طوال عمري كنت أخاف من الماعز، هكذا بدون أسباب واضحة، أخاف من وجهه وملامحه وشكله الغريب، أخاف من عيونه الفارغة ومن أقدامه غير المنطقيّة… وها قد تحوّلت للتوّ إلى واحدة.

نظرت من حولي… كانت أرض الماعز مليئة وفجأة… أُلقي المايكروفون في يدي وصمتت السماعات الكبيرة. الجميع تجهّزوا وانتبهوا إليّ. لم أكن أعرف ما الّذي يحدث، حتّى سمعت صوت "الأخ الكبير".

ومعانا اتّصال جديد وبنقول مااااع...

 انتبه الجميع إليّ في هذه اللحظة. رفعت المايكروفون وقلت:

- مااااع. أنا سوبر ماريو صديق البرنامج… يجب أن أقتل البعبع الصغير والمكّعبات الغبيّة، عليّ أن أركض وأنقذ الأميرة، وبضربة واحدة يمكنني أن أقضي على هذا الوحش الكبير… 

هاج الجميع فجأة بعد أن أنهيت الكلام… رميت المايكروفون وبدأت أركض وأصرخ بينهم كمَنْ فقد أمّه… لقد بدأت الأمور تخرج عن السيطرة… دعها تخرج إذًا، انظر إليها من نافذتك الكبيرة وهي تغادر حياتك السخيفة، انظر إليها وهي تجرّ حقيبتها في شتاء برلين القاسي… هل تسمع صوت الحقيبة؟ هل تحسّ بهذا البرد؟ برد بشوارب خفيفة وشعر ممشّط إلى اليمين بعنفوان…

المكان صاخب وكلّ شيء يهتزّ هنا. حتّى الكاسات المنسيّة على الطاولات بدأت تهتزّ وتقترب من الحوافّ… روحك أيضا تهتزّ وتقترب من الحافّة… وفي هذه اللحظة، وبسحبة واحدة من إصبع الدي جي الطاهر إلى الأعلى، ينقلب كلّ شيء وتنسلّ روحك من بين أصابعك.

كانت قطط جدّتي الـ 15، مستلقيات على السمّاعات مثل مزهريّات من الفخّار، تتثاءب ببطء تحت الإضاءة المجنونة، والجدّة تقف على منصّة الدي جي، تقف أمام عرشها المضيء بثوب الصلاة المرقّط بالطائرات وتحرّك الموسيقى والأقدار. كان الناس يقعون في شباكها مثل حشرات علقت للتوّ في شباك العنكبوت… بينما تضع الجدّة السيجارة في فمها وتتحرّك مع الإيقاع.

الجدّة ترفع الكِمامة فيرفع الجميع كِماماتهم... الجدّة ترفع يديها الاثنتين فيرفع الجميع أياديهم، الجدّة ترفع بلوزتها فتتدلّى أثداؤها المجعلكة أمام الجميع فيصرخ الجميع. الجدّة تسحب النفس الأخير من سيجارتها فيتوقّف العالم عن الدوران والنباح.

 كلّ شيء يعلو، الموسيقى تعلوـ وروحك أيضًا تعلو وتصعد هذا الدرج اللانهائيّ… 

كلّ مَنْ عرفتهم كانوا في هذه الحفلة أيضًا؛ سائق البلدوزر وفلاديمير الأحمق، حتّى عامر، تلك الخرقة البيضاء المليئة بالدماء والصراخ الأبديّ كان هنا… كان الناس يتقاذفونها فيما بينهم ويضحكون… وعامر يضحك من داخلها...

- هييييه يا جدّتي. ما الّذي يحدث هنا؟

- الله أكبر.

- يا جدّة. ما هذا المكان؟

- الللااااااهوووو أكبرررر.

حتّى أبو رباح كان هنا! 

- هيييييه… أبووو ربااااااح.

لم يسمعني أبو رباح. تلاشى صوتي وسط كلّ هذا الضجيج، واختفى هو بين حشود الماعز الكثيرة.

كان يأتي إلى حارتنا في كلّ يوم أحد. يعبر الحاجز من الضفّة الغربيّة إلى إسرائيل... يجرّ عربة من الملابس وينادي على بضاعته، جرابات وكلاسين وشبّاحات بيضاء للعاطلين عن الأمل… بشيكل وشيكلين، وأمامه مروحة صغيرة تعمل على بطّاريّات مثبّتة على العربة… 

أبو رباح يسير بين الحواجز، يبتسم للدبّابات ويقول صباح الخير، ويدفع عربته الصغيرة… يدفع الحياة أمامه ويشقّ طريقه بين الجنود المكدّسين في كلّ مكان. أبو رباح ينادي بصوته الجهور… ولا أحد يهتمّ له.

كان طوله يصل إلى مترين وثلاثة سنتيمترات. كان عاليًا ومتواضعًا مثل جمل، يمشي في الشارع ويأكل الغيم الأبيض وينحني أمام الأبواب ليدخل… وعندما يتفاءل خيرًا، كان يقول إنّه يحتاج إلى ثلاثة سنتيمترات أخرى ليسلّم على ربّنا مباوسة… لم يؤذ أحدًا في حياته، عاش ومات دون أن ينتبه إليه أحد. في الحقيقة لم ينتبه أحد إليه إلّا بعد أن مات. حيث كانت ميتته شنيعة تحدّث فيها أهل القرية لسنوات وسنوات.

هكذا إذًا يا سادة. لقد وقع الرجل في مصرف المجاري الرئيسيّ للقرية!

تقرير الطبّ الشرعيّ حينها أفاد أنّ الوفاة كان سببها صدمة عصبيّة! بالطبع صدمة عصبيّة لا يمكن لأحد أن يتحمّلها. صدمة عصبيّة وأنت تحاول النجاة من كلّ هذا الخراء… تدفعه ويدفعك، تحاول الخروج منه فتغوص فيه أكثر فأكثر، تصارعه حتّى الرمق الأخير، وفي النهاية… يغلبك الغائط.

كنّا نتوهّج نحن أيضًا من شدّة الوحدة والتعب، تلك الوحدة الّتي بدأت تتحوّل من إحساس فرديّ، إلى إحساس ينهش الجميع… ودون أن ننتبه، بدأت تتحوّل العلب الصغيرة الّتي نسكنها، إلى زنازين دائمة.

لقد تسمّرت البشريّة وراء الشاشات، وأصبح الأونلاين أكثر اخضرارًا؛ الوظائف أونلاين والحبّ أونلاين والأكل أونلاين والسكس أونلاين… كلّ شيء أصبح أخضر فجأة، ما عدا هذه الشجرة الميّتة أمام نافذتي الكبيرة.

قال المسؤولون الجادون على التلفزيون، إنّ الحدود سوف تغلق حتّى إشعار آخر. كان الأمر عاديًّا في البداية، ولذلك قرّرت فعل ما أفعله باستمرار؛ البقاء في المنزل حتّى إشعار آخر أيضًا، هذا المكان الّذي يتحوّل شيئًا فشيئًا، إلى مجرّد فكرة بدون جدران أو سقف أو حتّى أرضيّة، مجرّد منزل صغير داخل صورة معلّقة في رأسي الواسع.

دعيني أحدّثك عن المنازل قليلًا، عن هذه الغرف الّتي ما أن نسكنها، حتّى تفرّخ داخل أرواحنا ملايين الغرف الأخرى، كوبي بيست يا حبيبتي… منازل داخل منازل وغرف داخل غرف. هذه هي روحي من الداخل. ميناء هائل من المكعّبات الغبيّة الّتي تتكاثر دون هدف. وكلّ ما عليّ فعله في هذه اللحظة، هو فقدان مفتاح المنزل، لتنهار كلّ هذه المكعبات وتتحوّل إلى ركام داخل هذه الروح الزلقة. مجرّد انهيارات داخل انهيارات داخل انهيارات… خطأ في الخوارزميّة، خطأ في السِّسْتِم، خطأ في المنظومة… هذا ما أحسّ به حقيقة تجاه المنازل.

نحن البنّاؤون الأحرار… نحن أبناء الشمينت والشمينتو. نبني بيوت الآخرين وننام في بيت عتابا آيل للسقوط. نحن السكّان الأصليّون… نرتدي البلاد على رؤوسنا وندور حول نارنا الأبديّة دون كلل أو ملل ونغنّي:

Oh my fucking jumping jesus!
Oh my fucking jumping jesus!

جيسوس أيضًا كان في الحفلة. ها نحن هنا إذًا، سنة جديدة وعقد جديد وآمال كبيرة. مليون مسمار لأجلك يا جيسوس ولا تزعل يا حبيبي. أيّها الفلسطينيّ الجدع. أعرف ما الّذي ستقوله… ولكن لا. مَنْ صفعني على خدّي الأيسر سأعضّه من خدّه الأيمن. سوف أقضم وجهه مثل تفّاحة شهيّة. تعال يا جيسوس. اجلس بجانبي وتعلّم يا ابن خالتي.

لقد غيّرت أوروبّا من طباعك… هل تذكر حيفا؟ الناصرة؟ بيت لحم؟ هل تذكر أيّ شيء على الإطلاق؟ طيّب هل تذكر أمّك؟ خالتي مريم وطنجرة المجدّرة وهي نازلة من الجبل، من شارع ستيلّا ماريس حتّى شارع بن غوريون في البلدة التحتى… عليها السلام لقد كانت امرأة طيّبة…

يا إلهي كم مشت الأيّام… ونحن نلهث وراءها مثل كلاب مشدودة بأطواق ملوّنة….

أذكر في تلك الليلة يا جيسوس. وقفت أمّك أمام النساء وقالت "ابني تكلّم في المهد… لقد تكلّم في المهد". لم تكن ردّة الفعل مفاجئة. انطلقت التبريكات والزغاريد في بيت لحم، وفي لحظة ما، قالت إحدى الجارات: "عادي. هيك الولاد الصغار. أنا ابني هشام الله يخليلكن ولادكن حكى وهو جوّا بطني… بالأوّل خفت زيّ حالاتك يا أختي يا مريم. بسّ شو بدّو يصير عليه يعني… إيّاه اتوظّف في مديريّة الزراعة في طولكرم وصار واتصوّر. وكبّاية الشاي بتوصل لحدّ عنده".

 

 


نوّاف رضوان

 

 

شاعر وكاتب. صدرت له مجموعة شعريّة بعنوان 'الصلاة الأخيرة على باب الكنيسة' عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر (2013)، ومجموعة نصوص تحت عنوان "حقيبة مليئة بالضحك" عن منشورات المتوسّط (2018).