«البحث عن مدينة تائهة»... عجائبيّة الحلم الإنسانيّ

 

حين يتجاوز الكاتب نصّ الواقع، إلى ما وراء المنطق، واللاواقعيّ، والخارق للمألوف، بتطويع ماورائيّ وعجائبيّ؛ لأجل تصوّر هذا الواقع بنقيضه المتخيّل، نجده يحلّق في تقاطعات بين الحدود الفاصلة لعالم تحكمه فانتازيا الفكرة، مفتوحة على إمكانيّات التأويل في فواصل بين عوالم الواقع والحلم، الماضي والحاضر، الموجود والمنشود، لربّما طمعًا في الوصول إلى واقع أكثر يوتوبيّة، فنصوغ السؤال الملحّ بين الفكرة ودلالاتها، هل يمكن الواقع أن يكون وليد أحلامنا الخارقة لنعيد الشمس إلى كبد سمائها؟

هذه الحيرة هي الّتي تُوْقِع المتلقّي بين حالتَي التوقّع المنطقيّ والاستغراب غير الطبيعيّ أمام حدث خارق للعادة، لا يخضع لأعراف العقل والطبيعة وقوانينهما.

في زئبقيّة المكان، وتأرجحه المنفتح على المجهول، عمدت الكاتبة والناقدة كلارا سروجي – شجراوي في روايتها «البحث عن مدينة تائهة»، الصادرة عن «مكتبة كلّ شيء»، إلى توظيف لعبة المرئيّ واللامرئيّ، ممعنة في استنطاق حيرة القارئ بين أنساق عالمين متناقضين، عالم الحقيقة الحسّيّة وعالم التصوّر والوهم والتخييل، "دون تحديد جغرافيّ تتشكّل أركانه من أسطرة حضاريّة مترفة الدلالة"؛ استنادًا إلى "أنّ الأشياء الغامضة الخفيّة المخبّأة تثيرنا؛ لأنّنا نحبّ التعامل مع خيالاتنا وأحلامنا، لا نريد كتابًا مفتوحًا لأنّنا نهوى الألغاز واختراق الثقوب السوداء" (ص 30)، هذه الحيرة هي الّتي تُوْقِع المتلقّي بين حالتَي التوقّع المنطقيّ والاستغراب غير الطبيعيّ أمام حدث خارق للعادة، لا يخضع لأعراف العقل والطبيعة وقوانينهما.

 

تحايل على القوالب التقليديّة

تُمْعِن الكاتبة في رحلة بحثها عن مدينة تائهة، إلى اختراق قوانين الواقع بزمانه ومكانه وأحداثه، وفق أسلوب يتميّز بتفاعل غنيّ بين الإنسان وعالمه الداخليّ من جهة، وبينه وآنيّة الواقع في أخرى، من خلال استخدام إمكانيّات اللغة وما فيها من إيحاءات مثقلة الدلالة، كالاغتراب، والانتماء المتأرجح، في عالم يكسوه البرود، "فكلّ ما يحيط بي مصنوع من المعدن الفضّيّ؛ النوافذ والأبواب، الطاولات والمقاعد، الحواسيب وأجهزة التلفاز، بشاشات كبيرة، حتّى الكائنات لونها فضّيّ برّاق، إلّا أنا كنت بلون رمال الصحراء" (ص 19).

لما تقدّم من خصائص أسلوبيّة بالغ الأثر في استلهام ما من شأنه التحايل على القوالب التقليديّة؛ لتمرير الانتقادات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، في واقع تمثّل العجائبيّة فيه حيّزًا للانعتاق من قيود العرف وضوابطه الثقيلة؛ ارتكازًا إلى ثنائيّة الاقتراب من الواقع ومفارقته في آن، من خلال تجاذب حدّين متصادمين، أوّلهما الرغبة في توصيف هذا الواقع وتجسيد تجلّياته، كما هو حال النمط التقليديّ في الممارسة السرديّة، وثانيهما يتمثّل في التمرّد على رتابة الواقع ومسلّماته؛ ممّا يرسم واقعًا حكائيًّا جديدًا بزخم رمزيّ ودلاليّ مكثّف، تتّسع له فضاءات التأويل والاحتمال والممكنات النصّيّة، والانصراف صوب بنية سرديّة ذات أنساق انزياحيّة غير واقعيّة، يتسنّى من خلالها إعادة قراءة لتجلّيات الواقع ومجريات أحداثه، وتحويلها إلى نصّ يختزن الكثير من الأسئلة ذات الأبعاد الفلسفيّة والوجوديّة حول مصير الإنسان وماهيّة الحياة، الّتي تتغذّى على تراكمات النفس البشريّة، كما وردت على لسان ما صدّرته لنا الكاتبة عبر شخوصها، وتحديدًا على لسان «جي»؛ ذلك الكائن القادم من عالم موازٍ ويتمتّع بقدرات خارقة: "إنّ أقصى ما يخشاه الإنسان أن يكون حرًّا تمامًا! فالحرّيّة بالنسبة إليه، تعني عدم وجود حيّز محدّد واضح يدور في فلكه؛ لذلك يقدّس الناس أسيادهم وقادتهم... يختلقون لهم أسبابًا وتبريرات، تبدو لهم منطقيّة، تشرّع الظلم والاستبداد بهم، فتفشل ثوراتهم بعد أن تتحوّل إلى مجرّد فوضى عارمة، كالبعوض ينجذب إلى الضوء فيلتهمه النور" (ص 99-100).

 

العجائبيّ

غدا الأسلوب الفانتازيّ والعجائبيّ في السرد الروائيّ صيغة تعبيريّة في عالم طافح بالغرابة، جسّدته شجراوي في معالجة مثيرة للواقع، وصياغة البدائل في موازاته، كنوع من التشييد لعالم منشود في ظلّ عالم موجود، مستمدًّا من مخزون التراث الإنسانيّ عمومًا، ومنفتحًا على كلّ المرجعيّات، والمتخيّل التاريخيّ والشعبيّ والثقافيّ في ظلّ التحوّل الحضاريّ الملحّ، الّذي جاء مطلبًا يحاول تلبية حاجات ثقافيّة واجتماعيّة وحضاريّة أفرزتها التحوّلات الّتي نعيشها، باعتبار أنّ الصورة الروائيّة ترسمها حركة المتغيّرات الاجتماعيّة والحضاريّة، وتحوّلات الواقع وحقيقة ابتذاله كواقع لايقينيّ ومشحون بالشكّ والحيرة والقلق وهواجس الذات، الّتي تؤرّق «وطن» الشخصيّة الّتي تداخل حضورها ضمن صور متشابكة تعيش صراعًا مركّبًا، اعترفت من خلاله بأنّ "والدها أطلق عليها اسم ‘وطن‘، ولم تحبّ الاسم قطّ، فهو مثل الطنين بالأذن، يوجعك ولا يكفّ عن لكزك بأنّك مقصّر تجاهه، فلا يهدأ بالك ..." (ص 30).

الصورة الروائيّة ترسمها حركة المتغيّرات الاجتماعيّة والحضاريّة، وتحوّلات الواقع وحقيقة ابتذاله كواقع لايقينيّ ومشحون بالشكّ والحيرة والقلق وهواجس الذات...

وجاء تأكيد ذلك الصراع المركّب لدى «مجد»، في ما أخبرها به الكائن الفضائيّ «جي»، بأنّها لا تزال طفلة بريئة لمّا تنضج بعد حين قال: "قد مرّ على نكبتك قرن من الزمان، وما زلت كما أنت! العالم تغيّر. بلادك الّتي لا تكفّين عن الكلام عنها غير موجودة إلّا في خيالك، مقدّساتك ليست إلّا في الكتب..." (ص 22)؛ في إشارة إلى عمق مأساة حفرت أخاديدها عميقًا في ذاكرتها على مدار قرن من الزمن؛ في محاولة إعادة برمجتها لتشفى.

 

سلطة مضادّة

يشكّل التحام السرد بعالم الخيال وفعل التخييل، سلطة مضادّة تشكّل هي الأخرى شكلًا تعبيريًّا قادرًا على تجديد الصياغة، والتمرّد على الاحتمالات والإمكانات، وخلق منافذ بديلة للتخفيف من وطأة الواقع، تعقيداته وسلبيّته، كوسيلة للتخلّص من التصوّرات والمفاهيم المعتادة؛ صور حالمة وشاعريّة تعبّر عن محمول ذاكرة عصيّة ترافق مجد في أحلامها: "في تلك الليلة حلمت بأنّني قد دُعيت إلى حفلة راقصة من نوع خاصّ، فارتديت ثوبي الأزرق الّذي يضيق عند خصري ثمّ ينفتح ويتوسّع ليضمّ السهول والجبال والوديان، تركت شعري الترابيّ المبلول حرًّا منسابًا" (ص 74).

وترصد لنا الكاتبة كلارا صورًا لما تعيشه شخصيّة «مجد»؛ من نزف في الذاكرة في هذا الواقع المتقلّب، مستطردة على لسانها: "صرت أنا العطشى الغريبة، وتحوّل لون فستاني إلى أحمر دون أن أنتبه، صرخت عاليًا للأمم، أعيدوا إليّ فستاني بلون السماء، أعيدوا إليّ كياني، وتاريخي، ونهري، وحجارتي المباركة" (ص 75)؛ لتبيان ما يتميّز به عالمنا الإنسانيّ من ألم وضيق وكبت ورعب، سعيًا إلى الهروب من حدود الواقع إلى عالم يتستّر خلف يوتوبيا متخيّلة. من خلال نصّ هارب من شفتَي جدّة مجد، حين همست لها: "يا بنيّتي الصغيرة، الشرّ والتنافس والعراك، واغتنام الفرص والوصول إلى المناصب العليا، والانتهازيّة والتعصّب والتكفير وفرض سلطة الأقوى، كلّ ذلك من طبيعة حياتنا الإنسانيّة، لا يمكننا أن نهرب تمامًا من عدوانيّتنا الغريزيّة المتأصّلة فينا منذ وجودنا الأوّل. يبقى الجمال والخير والعدل هدفًا أعلى تطمح إليه النفوس الرقيقة الحسّاسة الناعمة القلقة. عندما تصل البشريّة إلى تحقيق كلّ ما هو جميل" (ص 26).

 

الحلم الإنسانيّ

إنّ ما تحتويه رواية «البحث عن مدينة تائهة» من عجائبيّة عناصرها المدهشة، بشخوصها المختلفين عن الأشخاص العاديّين إمّا نفسيًّا وإمّا فيزيقيًّا، وبأحداثها الّتي تخالف المألوف، إنّما هي تجسيد للحلم الإنسانيّ بشكل أكثر عمقًا وكثافة، ورغبة لتجاوز الواقع في محاولة خلق انسجام مطلق بين روح الإنسان وروح الكون، كتعويض عن افتقاد القيم والقيود، وتعبير عن حالة الإنسان القلقة والمتشظّية.

فالواقع العجائبيّ، وما فيه من خصائص مشبعة بالإيحاءات والدلالة، قادر على النفاذ إلى أعماق الشخصيّة عن طريق الحلم، وإخراج الواقع إخراجًا يرتبط بأكثر الأمور تعقيدًا، ويولّد من هذا الامتزاج بين المنطق واللامنطقيّ، رؤيا جديدة ترصد أدقّ تفاصيل الحركة الداخليّة، وتسمح من خلالها للاوعي بالتعبير عن نفسه، وعن طاقاته الدفينة ورغباته وحاجاته، الّتي لا يصرّح عنها مباشرة، في رحلة استكشاف خارج الزمان والمكان.

وأيًّا كانت المعالجة الّتي تناولتها كاتبة هذه الرواية، فهي معالجة مشرّعة على نوافذ الأمل؛ عملًا من أجل التحرّر من قوى الظلام الّتي غطّت سحاباتها وجه المشرق...

وأيًّا كانت المعالجة الّتي تناولتها كاتبة هذه الرواية، فهي معالجة مشرّعة على نوافذ الأمل؛ عملًا من أجل التحرّر من قوى الظلام الّتي غطّت سحاباتها وجه المشرق، تمتطي صهوة التاريخ من أسطورة طائر الفينيق، صورة التجدّد بعد الفناء، للانعتاق من الفساد والنفاق الأخلاقيّ، واحترام الحرّيّات، وتعزيز دور المرأة الفاعلة، وإعادة الحقّ بالحياة الكريمة للضعفاء والمقهورين والمظلومين، في مشهديّة يسودها ما يمكن الإنسان الحالم أن يتخيّله؛ من سلام وأمان وحبّ واستقرار ورفاهيّة.

 


 

فهيمة السعيد

 

 

محاضرة في أكاديميّة القاسمي – باقة الغربيّة، وباحثة تهتمّ بالشأن الثقافيّ والسياسيّ الفلسطينيّ والعربيّ. تكتب في الأدب والثقافة والسياسة، حاصلة على بكالوريوس علوم الحاسوب والرياضيّات، وماجستير في الاستشارة التربويّة. تحضّر حاليًّا لقبي ماجستير علم الحضارات في جامعة حيفا، ودكتوراه الإدارة التربويّة في جامعة اليرموك.