«نساء ونساء»… عن ذكوريّة تشيّدها النساء

«نساء ونساء» (1978) للكاتبة اليابانيّة إيزومي سوزوكي (1949-1986)

 

"تنطوي اليوتوبيا دومًا على خيبات الأمل والفشل" - سيديا هارتمان.
 

مجتمع تشكّله النساء، فيه النساء يحببن ويتزوّجن وينجبن ويربّين النساء، بينما يُلقى أيّ رجل يُلمح في ناجِد أو ’نطاق الإقصاء الجندريّ الدائم‘، وهو غيتو أشبه بالسجن على أطراف المدينة. تقصي السلطات فيه الذكور من الحياة والذاكرة البشريّة؛ فتمنع قانونيًّا الإنتاجات الّتي تصوّرهم في التلفاز أو الثقافة بشكل عامّ. لا تصف قصّة «نساء ونساء» (1978) للكاتبة اليابانيّة إيزومي سوزوكي (1949-1986) حال مدينة معيّنة في اليابان فحسب، بل العالم ككلّ، الّذي أغلقت حدوده ما بعد كارثة بيئيّة تسبّب فيها وصول الرجال إلى عالم ’النساء‘، وآلت إلى انقراضهم منه؛ فقرّرت السلطات احتواء القلّة الّتي تبقّت والّتي ستأتي منهم لتنقذ العالم وتعيده لحالته الّتي كان عليها قبل وصول هذا النوع البشريّ، الّذي أطلقت عليه اسم ’العيب‘ البيولوجيّ. 

 

انتصار النساء 

تبدو تلك سرديّة تروي انتصار نسويّة راديكاليّة ظلاميّة، تحيل إلى محو ’الرجل‘ بوصفه طريقًا للخلاص من مشكلة الهيمنة الذكوريّة في العالم؛ فتسرد العالم الّذي يتجاوز مأزق الاختلاف الجنسيّ بإقصاء الرجال الّذين يمثّلون النوع الاجتماعيّ الإشكاليّ؛ حيث لا تعود هناك ضرورة اجتماعيّة حقيقيّة لهم مع تقدّم الزمن وإدراك أنّ الهويّة الجندريّة غير مرتبطة بشكل قطعيّ بـ ’الحقيقة‘ البيولوجيّة؛ فالرجولة والأنوثة (المظهر الخارجيّ، الملابس، السلوكيّات) هويّات تنشأ بتكرار هذه ’الأفعال‘، ممّا يعطي انطباعًا كاذبًا بوجودها حقًّا كهويّات جندريّة ثابتة ومستقرّة[1]. بذلك، يمكن للنساء أن يقلّدوا ’الرجال‘ بحسب الصور ومصادر المعلومات القليلة الّتي أبقتها السلطات مسموحة في ذلك العالم، وذلك ليؤدّوا أدوارهم الاجتماعيّة الّتي تركوها فارغة عقب انقراضهم-إقصائهم.

الرجال في القصّة جريمة؛ فالتواصل معهم ممنوع، فاقدون للروح، قابعون في السجون، لا يُعطَون أسماء فقط أرقامًا، تُقطع أجسادهم في الأفلام فلا يُرى منهم إلّا رؤوسهم، وتمنع من دون الثامنة عشرة من رؤيتها...

تشكّل تلك السرديّة بذلك نظريّة نسويّة توضّح مرونة الأدوار الجندريّة أو الاجتماعيّة الإنسانيّة وميوعتها، وتقدّمها سوزوكي في أكثر من قصّة وعمل أدبيّ قبل أن تصبح نظريّات رسميّة وبديهيّة في الدراسات أو المعرفة الجندريّة بعقود. في نفس الوقت، هي سرديّة تشفي غليل معارضي - أو حتّى ’كارهي‘ - النسويّة الّذين اهترأت حناجرهم من تكرار نظريّات المؤامرة، والصور النمطيّة عن النسويّة باعتبارها كارهة للرجال وهادفة إلى سلبهم ما يتصوّرونه رجولتهم، وهو وجود فئة ’النساء‘ اللواتي يفتقدنها. 

تستند القصّة إلى هذا العداء تجاه النسويّة لتقديم نقد للنظام الذكوريّ يخاطب كلّ جمهوره، بمن فيهم مرتكبوه وميسّروه من الرجال وغيرهم. توظّف القصّة ذلك التهديد أو السلبيّة الّتي يُقابِلُ بها ’الرجل‘ الخطاب النسويّ، الّذي يدعو إلى المساواة التامّة وإسقاط الفروقات بين الرجل والمرأة، وتستثمره في توفير مساحة يتعاطف ويتماهى معها الرجل، وتفكّك ذكوريّته في الوقت ذاته بجعله ’الضحيّة‘؛ فتخاطب الرجال متسائلة: ماذا لو كنتم الجنس المهمّش، المرتبة الأدنى بيولوجيًّا، المقصين من التاريخ، المخيّبين للتوقّعات الجسديّة والسلوكيّة، الممنوعين من الظهور والمشاركة؟ 

الرجال في القصّة جريمة؛ فالتواصل معهم ممنوع، فاقدون للروح، قابعون في السجون، لا يُعطَون أسماء فقط أرقامًا، تُقطع أجسادهم في الأفلام فلا يُرى منهم إلّا رؤوسهم، وتمنع من دون الثامنة عشرة من رؤيتها. تضع القصّة للرجال أيضًا معايير ’جماليّة‘ جسديّة واجتماعيّة ’أنثويّة‘ يفشلون في تحقيقها غالبًا؛ فعندما تقابل المراهقات في القصّة الرجال لأوّل مرّة، وذلك في زيارة ميدانيّة لـ ’ناجِد‘، تخيب آمالهنّ لأنّ الرجال لا يشبهون رجال ’الشوجو‘، أي ’مانغا‘ (القصص المصوّرة اليابانيّة) الفتيات الّتي امتلأت برجال حالمين شغوفين وسيمين بملامحهم الرقيقة، وهي من الإنتاجات الثقافيّة الوحيدة من ’ما قبل‘ انتصار النساء الّتي يُسمح بتداولها. 

 

فشل الرجال 

"لماذا بحقّ السماء كانوا يتزوّجون الرجالَ سابقًا؟"، تسأل إحدى الفتيات، "ربّما لأنّ الرجال سابقًا كانوا يشبهون رجال المانغا"، تجيبها فتاة أخرى. تحيك الرواية تجربة للرجل في نظام عُكست فيه الآية، انتصارًا للصوت المؤنّث في بنيات السلطة والقوّة الّذي يُشيّد على فشل الرجال؛ فالقصّة تحدث في زمن متقدّم، لكنّ النساء تبقى في خربة خلّفها الرجال الّذين يتركون العالم وراءهم في شحّ من الموارد، ودمار من الحروب، تتدهور فيه الخدمات العامّة مثل المواصلات، وتُغلَق محطّات التلفاز، وتُمنع الأسطوانات الموسيقيّة، وغيرها من إجراءات النفي المتطرّفة تحسّبًا لحدوث ظاهرة ’الرجال‘ المدمّرة مجدّدًا. 

تشدّد القصّة على أنّ النساء هنّ ناجيات بالضرورة، تربط مثلًا بين الرجال والثورة والعمل والفنّ، فتقول على لسان يوكو بطلة القصّة المراهقة: "بل الأسوأ من ذلك، بدؤوا (الرجال) يلهون بمفاهيم مثل الثورة والعمل والفنّ، مهدرين طاقاتهم في ملاحقة كلّ أنواع المساعي المجرّدة". بينما تقول إنّ لدى النساء في المقابل "شيئًا يُدعى ’الحبّ‘، لكنّه شيء أكثر واقعيّة"، وهو ما يضمن ’بقاءهنّ‘ وبقاء عائلاتهنّ. بالتالي بينما يختفي الرجال من العالم، لا تختفي تلك ’المفاهيم المجرّدة‘، أي ثقافة الرجال الّتي أنشؤوا بها العالم؛ فمثلًا، يستمرّ نظام العمل والمنافسة الّتي حوّلت الحياة على الأرض ’جحيمًا‘ معاصرًا كما تصفه يوكو، ويتدهور وضع النساء في ذاك النظام الرأسماليّ إلى درجة أن تصبح السجائر مثلًا من الأشياء ’الفاخرة‘. في المقابل، وللمفارقة، يبقى توزيع الأدوار الجندريّة قائمًا حيث تذهب النساء الأكثر ’رجولة‘ للعمل، وتظلّ النساء الأكثر أنوثة في البيت لتعتني به. وبالتالي، إنّ شيئًا آخر غير ’الرجل‘، كمفهوم أو هويّة اجتماعيّة، يُقصى من ذلك العالم. 

 

الجنس المغيَّب

في السنة المدرسيّة الأخيرة، تذهب الطالبات في زيارة رسميّة ’تعليميّة‘ إلى ناجِد، الّتي يقابلن فيها الرجال للمرّة الأولى والوحيدة في حياتهنّ. وفي نهاية الزيارة الّتي تقوم بها يوكو وقريناتها، يتهجّم أحد الرجال ’الفالتين‘ على إحدى الفتيات؛ فيحضنها ويرفض إفلاتها، إلى أن تتعاون المعلّمة ومرشدة الزيارة في تخليصها. تذعر الفتيات والمعلّمة، بينما تعتذر المرشدة، وتعبّر عن عجزهنّ عن إدراك دوافع هذا التصرّف المتكرّر عند رجل لا يشكو من أمراض نفسيّة حسب وصفها، بينما تعقّب المعلّمة بأنّ الرجال هكذا ’خطيرون‘. 

يمكن بالطبع قراءة هذا الغموض الّذي يعتري دوافع فعلته، بوصفه تعبيرًا للكاتبة عن عجز النساء والناجيات عن تصوّر مبرّر منطقيّ لجرائم التحرّش الجنسيّ، وعدم القدرة على ربطه حتّى بالأمراض النفسيّة؛ لأنّ كثيرًا من ممارسيه عادة ما يكونون ’أسوياء‘ عقليًّا، أو يسوّغ الطبّ لهم هذا على الأقلّ. لكنّ يوكو لا تفهم لِمَ وصفت المعلّمة، عقب هذا التصرّف، الرجال بالخطيرين، فتقول يوكو: "إن كان مستاءً من العالم خارج ناجد، كان بالأحرى أن يستعمل سلاحًا مثل سكّين أو ساطور أو شيء من هذا القبيل. لم أتمكّن من التوصّل إلى ما دفعه إلى مهاجمتها ولفّ ذراعيه حولها كما فعل… ربّما لا تعلم المعلّمة ذلك أيضًا". يؤكّد تعليق يوكو على جهل المعلّمة، أنّ ثمّة أمرًا مغيّبًا عن المعلّمات كما عن الطالبات، كما عن المرشدة الّتي تعجز عن وصف فعلة التحرّش بالمرض أو الخلل النفسيّ أيضًا؛ فتشكّل دوافع فعلته فراغًا تعجز تلك السرديّة الجندريّة عن تعبئته. 

تتناول القصّة بشكل عامّ فضول يوكو الّتي تلمح ولدًا في الحقل مقابل بيتها، ممّا يدفعها إلى التساؤل كثيرًا وحقيقة عن دور الرجال في العالم، وينتهي بها إلى الاصطدام بـ ’الجنس‘...

تستحضر هذه الحادثة كلّ فراغات القصّة الّتي تحيط في مجملها بـ’العمليّة الجنسيّة‘؛ فبينما لا يزال الإنجاب حاضرًا ومطلوبًا، إذ "لا تزال النساء في حاجة إلى الرجال للإنجاب" كما تقول يوكو، إلّا أنّ الجنس بذاته مغيَّب من القصّة أو من مخيّلة النساء فيها. لا يُقصى ’الرجال‘ من العالم إذن، بل يُقصى الجنس، فيشكّل الإنجاب عندهنّ مثلًا بروتوكولًا غامضًا كما تصفه يوكو: "عندما تتجاوزين سنًّا معيّنة، إذا قرّرتِ أنّك تريدين أطفالًا، تذهبين إلى المستشفى… إنّهم في الغالب يحقنونك بالدواء أو ما شابه". هذا هو السبب وراء إبقاء الرجال في تلك السجون: "لجمع أحد الإفرازات الّتي ينتجونها". تقول يوكو إنّها لا تعلم أيّ شيء عن الإنجاب عدا ذلك. وهذا يدلّ على أنّ المعرفة الجنسيّة الّتي تحملها الفتيات ليست مغيَّبة بالكامل، بل يحملن منها فقط ما هو ضروريّ لتيسير هذه الوظيفة المحدّدة لـ ’الجنس‘ وهي الأمومة. 

 

الرغبة في الأمومة

تتناول القصّة بشكل عامّ فضول يوكو الّتي تلمح ولدًا في الحقل مقابل بيتها، ممّا يدفعها إلى التساؤل كثيرًا وحقيقة عن دور الرجال في العالم، وينتهي بها إلى الاصطدام بـ ’الجنس‘؛ فعندما تتحدّث مع صديقتها ري ويقاربن المجتمع البشريّ لخليّة النحل، تشير ري إلى أنّ ضرورة الرجال تكمن في قابليّة النساء للإنجاب فقط؛ فالمجتمع الّذي يسكنّه لا يتطلّب الزواج أو تشكيل الروابط الاجتماعيّة للإنجاب، فقط ’الرغبة‘ في ذلك: "كلّ ما عليك فعله لإنجاب الأطفال هو الذهاب إلى المستشفى". تشكّل تلك الرغبة في الأمومة، الرغبة الوحيدة الّتي يتيحها ذلك النظام للمرأة، وهي وظيفتها ’الرسميّة‘ في نظام أسّسته الذكوريّة، يختزلها في فائدتها البيولوجيّة بوصفها أُمًّا بالمطلق، ليس لأطفالها فحسب بل للعالم-الرجل. لعلّ هذه السرديّة إذن، تختزل دور المرأة ’نوعًا‘ في الأمومة وإنجاب الأطفال وضمان بقاء النسل، بينما لا تعرف النساء الجنس حقًّا، أو الرغبة الجنسيّة. 

يربط علم النفس الرغبة الجنسيّة بالتقدّم والفشل؛ فقد اعتبرها مؤسّسه سيجموند فرويد (1939) جزءًا كبيرًا من ’دافع الحياة" أو Libido، وهو المحرّك الأساسيّ لسلوكيّات الإنسان من حيث إنّه يشكّل رغباته وفق غرائزه البدائيّة الّتي تهدف إلى تحقيق "المتعة الآنيّة والتامّة له"؛ فعندما يدخل الإنسان المجتمع (العقد الاجتماعيّ ونظام الأخلاقيّات)، يصبح إشباع رغباته كافّة غير ممكن، أو مسبّبًا للصراع الاجتماعيّ. لهذا يعطي الأنا أو ego، وهو الجزء الواقعيّ في النفس الإنسانيّة والمسؤول عن التعبير عن غرائزها، لهذه الرغبات البدائيّة أشكالًا جديدة تداعب النفس الإنسانيّة. أي ينظّم الجزء ’الواقعيّ‘ من الإنسان غرائزه البدائيّة في رغبات يمكن إعلانها وإشباعها دون أن تسبّب للإنسان الانفصام عن الواقع؛ فمعظم الرغبات بحسب فرويد يمكن إرجاعها إلى حاجة إلى إشباع الغريزة البدائيّة، وتحقيق المتعة الجنسيّة الّتي هي بطبيعتها لا تنصاع للمقيّدات الاجتماعيّة. لذلك ينظّم الجزء ’الواقعيّ‘، معظم تلك الرغبات البدائيّة في أشكال غير بدائيّة ولا جنسيّة، مثل الإبداع وغيره من الرغبات الّتي تتعلّق بإشباع الذات وتحقيق ’المتعة‘ في النظام المعاصر مثل العمل والإنجاز، إلخ…[2].

إذن، ليس غريبًا أن ترتبط ’المساعي المجرّدة‘، مثل العمل والثورة والفنّ في قصّة سوزوكي بالرجال، والّذين يمتلكون حرّيّة الرغبة الجنسيّة في النظام الذكوريّ. بينما تُخْتَزل النساء في ’الحبّ‘ الّذي يفسّر على أنّه قدرة المرأة على البقاء رغم كلّ شيء، ذلك لأنّها لا تنشغل بـ ’التقدّم‘، بل تقتصر غريزتها البدائيّة على ضرورتها البيولوجيّة للرجل، وهي ممارسة الأمومة لضمان بقائه وتلبية احتياجاته، ولا تمتلك المرأة حرّيّة الرغبة الجنسيّة الّتي تدفع الإنسان إلى التقدّم. 

فكما تقول أساكو، أخت يوكو المنهمكة في العمل و’المحافظة‘ على النظام: "النظر إلى العالم من خلال عدسة التقدّم هو الّذي أدّى بالأنهار والمحيطات إلى التلوّث (...) يمضي الوقت، وللكوكب تواريخ متعدّدة، تتدهور الأشياء، هذا كلّ ما في الأمر"، مشيرة في ذلك إلى تربية ذلك المجتمع القائمة على الانصياع لصراع البقاء دون الحاجة إلى تطوير الوجود النسائيّ. ينفي هذا كون القصّة عملًا يوتوبيًّا يروي انتصار النساء، ويجعلها عملًا يروي فشلهنّ في استعادة الهيمنة على الرغبة الجنسيّة، وإمكانيّاتها اللاجنسيّة التحرّريّة.

 

فشل النساء

تروي القصّة فشل ’النساء‘ اللواتي، حتّى لو عشن في وهْم أنّهنّ استعدن العالم كلّه دون أن يستعدن حرّيّة الرغبة، فلن يتخلّصن من ’الذكوريّة‘ الّتي همّشتهنّ وسلبتهنّ الوجود الإنسانيّ الحرّ؛ فهي جاءت أساسًا استعمارًا لجنسانيّتهنّ، بحيث تكون رغبتهنّ الوحيدة هي رغبة الرجل الأوديبيّة، أي أن يكنّ أمًّا له، بمعنى محقّقات بقائه ورغباته[3]. فكما ترينا القصّة، كلّ علاقات النساء والرجال الاجتماعيّة قابلة للاستبدال بعلاقات مع النساء، ما عدا العمليّة الجنسيّة بينهما، وهي ما يقدّمنه هنّ حصرًا للرجال، ممّا يجعل جنسانيّتهنّ محلّ صراعهنّ معهم. 

النساء في القصّة، حتّى أكثرهنّ عرضة للشهوة الجنسيّة، بحسب أسس العالم الذكوريّ، مثل الممثّلة النجمة ’صافو‘ الّتي تتهافت عليها المعجبات. فعندما تصارح ري صديقة يوكو،  النجمة صافو بإعجابها فيها، حتّى تسارع صافو إلى طلب الزواج منها وإنجاب الأطفال، متخطّية أو متجاوزة مرحلة الرغبة (الجنسيّة). والّتي قدّمتها سوزوكي في مفارقة لطيفة وجدليّة عندما سمّت الممثّلة ’صافو‘، في إشارة إلى الشاعرة الإغريقيّة الّتي عُرفت بقصائد الحبّ غير المجندر، والّتي عاشت في جزيرة لسبوس فسُمّيت السحاقيّة Lesbianism تيمّنًا بها[4]. هي الجريمة الفعليّة الّتي ترتكبها المرأة في العالم، امتلاكها هيمنة وتصرّفًا في رغباتها، فأمّ يوكو ليست ميّتة كما يقولون لـ ’الناس‘، بل أُبعدت في منشأة للاحتجاز و تدّعي عائلتها موتها أو ’تقتلها‘ أمام الناس، فقط لكيلا تفضح جريمتها الحقيقيّة، وهي أنّها أحبّت رجلًا ورغبت فيه، الّذي أنجبت منه يوكو الّتي تربّيها جدّتها مع أختها المتبنّاة أساكو. 

تروي القصّة فشل ’النساء‘ اللواتي، حتّى لو عشن في وهْم أنّهنّ استعدن العالم كلّه دون أن يستعدن حرّيّة الرغبة، فلن يتخلّصن من ’الذكوريّة‘ الّتي همّشتهنّ وسلبتهنّ الوجود الإنسانيّ الحرّ...

في نهاية الأمر، عندما تلحق يوكو ذلك الصبيّ الّذي تشاهده في الحقل تمارس معه الجنس؛ فتكتشفه لأوّل مرّة، وتكتشف دور الرجل كوالد أيضًا، وهو الدور المغيَّب عن الذكور في الذكوريّة. تسمّي يوكو الجنس ذلك ’الشيء البغيض‘؛ فهو الّذي يؤرّق النساء ويعقّد حياتهنّ. وتكتشف يوكو بهذه المغامرة أيضًا، أنّ جدّتها كانت تراقبها طوال الوقت، عندما تستدعيها عقب فعلتها هذه لتعلّمها أنّها سلّمت الصبيّ للسلطات، وذلك لكي تحميها من الاحتجاز الّذي وضعت فيه أمّها. في هذا إشارة إلى دور ’الأمّ‘ في نقل التربية الذكوريّة للابنة؛ فعلاقة الأمّ - الابنة أساسيّة في النظام الذكوريّ لضمان حصول الابنة على إرث الأمّ، وبالتالي إعادة إنتاج نفس العلاقة الخاضعة لأشكال الذكوريّة[5]؛ فلا عجب أنّ يوكو تتمرّد وتكسر القوانين الّتي تمنعها عن الجنس والرغبة، فهي لا تملك أمًّا تنقل إليها تلك التربية الذكوريّة. 

 

المخيّلة النسائيّة

يتمثّل فشل النساء في القصّة إذن، في خدمتهنّ للنظام الّذي يستعمرهنّ؛ فالقصّة تخاطب بشكل أساسيّ النساء اللواتي يساهمن في استعمار النساء والمحافظة على النظام الذكوريّ. بل إنّ القصّة، كما عنوانها، لا تتناول علاقة الرجال بالنساء، بل علاقة النساء بالنساء في هذا العالم الذكوريّ، واللواتي يُعفين الرجال من الظهور كمستعمرين لرغبات النساء، بضمان تربية تنشئ نساء يجهلن وجود الرغبة لديهنّ وحقّهنّ في التصرّف فيها؛ فالنساء بشكل عامّ لا يمكنهنّ تشخيص هذا الاستعمار، لأنّهن يفتقرن إلى الأدوات الّتي تميّز وتتماهى مع الرغبة الحرّة؛ فلا يستطعن إدراك دوافع التحرّش الجنسيّ كما حدث في القصّة مثلًا، ذلك أنّهنّ لا يستطعن تصوّر طبيعة تلك الرغبة الحرّة، الّتي قد يتمادى الرجال لإشباعها بالقوّة.

 النساء في القصّة يسعين إلى هدف واحد، وهو إبقاء حالهنّ على ما هو. أغلقن محطّات التلفاز، ولا تصلهنّ الجرائد اليوميّة، ويكتفين بمسرحيّتين في العامّ، بحيث يبقى احتكاكهنّ وتأثيرهنّ في الثقافة ضئيلًا، وبالتالي لا يتطوّر وجودهنّ ولا يتحرّرن من نظام الرجال الّذي سلبهنّ الرغبة أبدًا. تتحدّث القصّة إذن، عن المخيّلة النسائيّة، كيف تتصوّر ذاتها المستقلّة، بل تتساءل إن كان بإمكانها فعل ذلك أساسًا؛ فتضع تحرير الرغبة الجنسيّة للأنثى من قبضة قوانين الرجل شرطًا أساسيًّا لذلك. 

تسأل يوكو جدّتها في النهاية: "ما كان هذا؟"، فتجيب الجدّة "فانتازيا مراهقة". في المراهقة نكتشف الجنس لأوّل مرّة ولا يعود بعدها العالم كما هو، يصبح العالم كلّه معتمدًا عليه: من نحن؟ وأين نذهب؟ وما المسموح؟ وما الممنوع؟ وما حدود مخيّلتنا ورغباتنا؟ 

عندما تذهب النساء في القصّة إلى مقابلة الرجال في منفاهم، يقابلون نسخة مهذّبة جنسيًّا منهم؛ إذ يكونون في حالات يُرثى لها، فاقدين للإحساس كريهي الرائحة، أي يقابلونهم ليشهدن جنسانيّتهنّ المعدومة، ووظيفة واحدة لهنّ فيها كمتلقّيات للسائل المنويّ وبالتالي أمّهات. ذلك لأنّ إيقاظ مخيّلتهنّ الجنسيّة، بأيّ شكل من الأشكال، يوقظ فيهنّ كلّ الرغبات الّتي قد تتحوّر وتتطوّر إلى مفاهيم جديدة يقدن بها وإليها العالم، مفاهيم تشذّ عن النظام الذكوريّ القائم، وتدخل إليه رغبات النساء الّتي قد لا تضمن دائمًا تحقيق رغبات الرجال الجنسيّة تجاه النساء، أي متعتهم فيهن. وهذا هو الخطر الّذي سلب الرجال لأجله جنسانيّة النساء. 

وهو يشبه إلى حدّ ما استعمار الرجل الأبيض للرجل الأسود؛ فمثل هذه الممارسات مبنيّ على استعمار الآخَر لتحقيق رغبات فئة واحدة. وصحيح أنّ الممارسات القمعيّة تتقاطع وتتعدّد وتخلق طبقيّات مختلفة (نساء بيض، رجال سود، إلخ …)، إلّا أنّ لكلّ نوع قمع محلًّا للصراع؛ تتنافس القوميّات/ العرقيّات على الموارد الطبيعيّة والقوّة الإنتاجيّة البشريّة، في ما تتنافس الأنواع الجندريّة على الغريزة والمتعة الجنسيّة. 

دور مفهوم ’الأمّ‘ في هذا النظام هو طمس ظهور هذه المخيّلة بإخفاء ’الرغبة‘ في تربية النساء منذ الطفولة، وعرض دور الأمّ بوصفه الوظيفة الجنسيّة الوحيدة للابنة عقب اكتشافها الجنس، ويكون دور النسويّة بهذا تحرير تلك المخيّلة. ذلك أنّ ظهور تلك المخيّلة في نظام يقمعها، يستحضر الثورة المحتومة؛ فالرغبة بطبيعتها تتشكّل بتوسّع المخيّلة عقب انكشافها على رغبات أخرى. فمراقبة الجدّة ليوكو ورغبتها يجعلها تستحضر رغباتها الخاصّة أيضًا؛ عندما تنادي الجدّة يوكو لتعلّمها أنّها سلّمت الصبيّ للسلطات، تدخل يوكو لتشهد الجدّة بتنّورة قصيرة تكاد ترى: "للحظة اعتقدت أنّها لا ترتدي واحدة على الإطلاق"، ثمّ تغلق الجدّة النوافذ، وتخالف القانون بتشغيل أسطوانة موسيقيّة احتفظت بها من العصر السابق والحرّ. 

 

فشل النسويّة

رغم تسامح الجدّة مع ممارسات يوكو ، إلّا أنّها تقمع الحفيدة مدفوعةً بخوفها من النظام والسلطات الّتي سلبتها ابنتها - أمّ يوكو عندما تمرّدت على القانون، فلا تسمح الجدّة ليوكو أن تنجرّ وراء رغباتها بمواعدة ذلك الصبيّ كما سمحت لابنتها أمّ يوكو قبلها. تعود يوكو بعد هذا القمع إلى غرفتها وقد امتصّت الجدّة غضبها بامتيازات بديلة أخرى قدّمتها لها، مثل الموسيقى، فتقول يوكو "نساء ونساء. تمامًا كما يجب"، ثمّ تكتب يوكو في مذكّرتها: "في الوقت الحاليّ، لا أنوي التضحية بحياتي لحركة مقاومة سرّيّة. ولكن من يدري؟ قد يحدث ذلك يومًا ما"؛ فالنظام الأموميّ أقوى من يوكو وجدّتها، وحدهما لا تستطيعان مواجهته، وهذا إدراك سوزوكي أنّ هذا التحرير النسائيّ يجب أن يكون فعلًا جماعيًّا شاملًا لكلّ النساء. 

النظام الأموميّ أقوى من يوكو وجدّتها، وحدهما لا تستطيعان مواجهته، وهذا إدراك سوزوكي أنّ هذا التحرير النسائيّ يجب أن يكون فعلًا جماعيًّا شاملًا لكلّ النساء...

وهذا هو الفشل النسويّ الّذي خاطبته الكاتبة؛ فمن يبحث في تاريخها يعلم أنّها عاشت فترات انقسمت فيها الحركات النسائيّة في اليابان، إلى تلك الّتي طالبت بحرّيّة تامّة للمرأة، وتلك الّتي رأت دورها أُمًّا وزوجة بالأساس، ولم تستثمر في تحرير مخيّلة النساء لتقلع النظام الذكوريّ من جذره. لكنّ يوكو في النهاية بالفعل تقرّر كتابة سرّها في المذكّرة، بعد أن امتنعت عن ذكر الصبيّ فيها بشكل صريح طوال القصّة، وفي هذا إقرار بدور الكتابات والعمل الثقافيّ النسويّ في هذا التحرير؛ فيوكو تتراجع عن "نساء ونساء"، وتصبح أكثر ميلًا "إلى حركة المقاومة السرّيّة" عندما تشرع في كتابة رغباتها ومغامرتها في مذكّرتها. فالعمل الثقافيّ النسويّ عليه أن يحرّض النساء على النظام الذكوريّ بتذكيرهنّ بأهمّيّة رغباتهنّ لتقدّمهنّ، والإمكانيّات الّتي يتوقّعنها من العالم والّتي لا تحصر في توقّعات الرجال. 

مثل ما تفعل سوزوكي في أعمالها، الّتي تقصي العلاقة بالرجال وما يتوقّعونه إلى هوامش المخيّلة النسائيّة. وتستحضر في المقدّمة علاقة أكثر أهمّيّة لأيّة فئة مضطهدة، وهي علاقات المضطهدات ببعضهنّ، وعلاقتهنّ بأنفسهنّ، بالاضطهاد الّذي يواجهنه. بهذا، تستعيد سوزوكي علاقة مهمّة للنساء، وهي  علاقة الأمّ والابنة، وعلاقة المرأة بالمرأة، باستعادة الأمومة من الذكوريّة الّتي احتلّتها وجعلتها رغبة للرجال، فتجعلها سوزوكي مجدّدًا رغبة للنساء، قد تأتي ولا تأتي بكلّ طبيعيّة مع جملة من الرغبات الأخرى الّتي يحملنها. فيوكو في النهاية، الّتي تعني الابنة-الابن باليابانيّة، ثمرة رغبة أمّها الحرّة، الّتي دفعت حياتها ثمنًا لها، ومنها نتعلّم كيف ننشئ في الثقافة والأمومة مفهوم "المرأة" في المجتمع.

 


إحالات 

[1] Judith Butler. Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity. New York, Routledge, 1999.

[2] Sigmund Freud. Three essays on the theory of sexuality. Standard Edition, 7, 1905.

[3] Ibid. 

[4] Wikipedia contributors. Sappho. Wikipedia. https://en.wikipedia.org/wiki/Sappho Accessed November 2 2022.

[5] Jack Halberstam. The Queer Art of Failure. Durham, Duke University Press, 2011.  p.124.

 


 

حنين عودة الله 

 

 

 

مخرجة وكاتبة فلسطينيّة مهتمّة في التحليل الثقافيّ والفلسفة والسينما والثقافة الشعبيّة والبديلة. حاصلة على شهادة الماجستير في «التحليل الثقافيّ المقارن» من «جامعة أمستردام».