التضامن مع سلوان... وجهة نظر معلّمة

سلوان | أ.ف.ب

 

المصدر: mondoweiss.net

ترجمة: خالد السيّد - فُسْحَة.

 

قبل 20 عامًا، انضممت إلى طاقم من المعلّمين، كانوا يعملون على وضع الأسس لموضوع جديد لتعليمه لصفوف التاسع بعنوان «دراسات الهويّة والعرق»، في «مدرسة بيركلي الثانويّة» الواقعة في منطقة خليج كاليفورنيا، ولم يكن لدينا وقتذاك أدنى نيّة لإدماج الدراسات الّتي تتناول مسألة عرب الولايات المتّحدة أو الفلسطينيّين، بل لم نناقش هذه الإمكانيّة أصلًا. ولكنّ طلّابي اليمنيّين والفلسطينيّين، هم مَنْ دفعني في أعقاب هجوم 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001، على استيعاب أهمّيّة إدماج الدراسات المختصّة بالأميركيّين العرب، والعنصريّة المعادية للعرب، وكراهية المسلمين وفلسطين، في مساقنا للدراسات العرقيّة. ومنذ أن بدأت الحديث عن المسألة الفلسطينيّة في حصصي، بدأت أفهم القدر الهائل من المعلومات الّتي عليّ أن أتعلّمها (فضلًا على تلك الّتي يجب أن أنساها) عن الصورة المشوّهة الّتي يتلقّاها الطلّاب من الإعلام، وعلى مدى شُحّ الموارد المتاحة لتدريس القضيّة الفلسطينيّة بدقّة، وبمراعاة للجيل، وبأسلوب تمكينيّ للطلّاب.

كنت قد زرت فلسطين عام 2012، للمرّة الأولى في حياتي؛ إذ أردت أن أرى الواقع بعينيّ لكي أدرّسه للطلّاب بشكل أفضل. وشأني شأن الكثيرين مثلي من الأميركيّين الّذين أَجْرَوْا زيارات مشابهة، تغيّرت حياتي بعد هذه التجربة. وبتوجيه «تحالف أطفال الشرق الأوسط»، المؤسّسة حيث أعمل اليوم، زرت أنا وأسرتي بيت لحم، وبيت ساحور، والقدس، والخليل، ورام الله.

إن سألتموني عن أبرز ما رأيت فسأقول سلوان، تلك القرية الفلسطينيّة الّتي تقع في ظلال أسوار القدس القديمة؛ فقد أدهشني ما تقدّمه هذه القرية من مقاومة حيويّة ومستمرّة للمساعي الإسرائيليّة اللانهائيّة لتهجير أهلها. هناك، عرّفنا الناشط المحلّيّ، جواد صيام، الّذي أسّس مركز «مدى الإبداعيّ»، على المكان؛ ورأينا أطفالًا يتبدلّون في استخدام الحواسيب في غرفة للحواسيب، ويرسمون في المكتبة؛ كما شاهدنا تدريبات فرقة هيب هوب شبابيّة، وتحدّثنا مع نساء يتعلّمن طريقة صنع وجه فسيفساء للطاولات؛ أخبرونا بأنّه الأمر مثل تحضير أكلة المقلوبة (أكلة فلسطينيّة شعبيّة)، فكلّ ما على الواحدة منهنّ أن تفعله هو أن "تقلب كلّ شيء رأسًا على عقب، ومن ثَمّ قلبه تجاه اليمين للقمّة".

ومن ثَمّ أخذنا جواد لنرى أحدث مشاريعهم في الجهة المقابلة من الشارع، حيث يقع مركز ثقافيّ صغير، يحتوي على ملعب رياضيّ وجداريّات وجدول كامل من النشاطات المزمع إقامتها للمجتمع المحلّيّ. تناولنا القهوة والمعجّنات في مقهى المركز، وجلسنا على طاولات الفسيفساء الّتي صنعتها النساء. وكانت القهوة المسكوبة فناجين صغيرة سميكة وحلوة، وتفيح منها رائحة الهيل.

 

غلاف كتابة «مصمّمون على البقاء: شباب فلسطينيّون يقاتلون من أجل قريتهم» – بقلم جودي سوكولار

 

بعد أسبوعين من عودتنا إلى الولايات المتّحدة، هدم الإسرائيليّون المقهى، معلّلين ذلك بأنّهم يحتاجون إلى المساحة الّتي بُني عليها؛ لإنشاء موقف سيّارات لحديقة «حول القدس» (حديقة «الملك ديفيد الوطنيّة»)؛ وهي بمثابة «مدينة ملاهٍ أثريّة»، كثيرًا ما تذرّعت السلطات فيها للقيام بعمليّات هدم وتهجير في سلوان. كدت لا أصدق ما حدث! لماذا لم تكن ضجّة إعلاميّة حول القضيّة؟ شعرت بغضب وبعجز شديدين؛ إذ لم يكن بوسعي أن أفعل شيئًا. لكنّ غضبي دفعني بإلهام من المجتمع السلوانيّ إلى تأليف كتاب حديث النشر تحت عنوان «مصمّمون على البقاء: شباب فلسطينيّون يقاتلون من أجل قريتهم».

أمّا اليوم صبحًا، فلا أكتب هذه الكلمات للتعبير عن الغضب ذاته، بل عن سُخطي من مواصلة آلة الهدم الإسرائيليّة عملها في الشيخ جرّاح وسلوان، وهدمها لمنازل ومصالح في حيّ البستان برغم الحملة الدوليّة ضدّ هذه الانتهاكات. فقد ذكّرتني الصور القاتمة المتدفّقة عبر وسائل الإعلام، الّتي توثّق القوّات الإسرائيليّة وهي تهاجم فلسطينيّين كانوا يحاولون حماية منازلهم، بالشابّة الفلسطينيّة سارة، الّتي كانت من بين الصبايا اللاتي قابلتهنّ لإعداد كتابي؛ إذ تعيش سارة في حيّ وادي حلوة في سلوان، أعلى حيّ البستان، يطلّ فناء منزلها عليه.

كنت قد سألت سارة: "ما أولى ذكرياتك عن المستوطنين الإسرائيليّين؟".

أجابت سارة: "اليوم الّذي هدموا فيه منزلنا. كنت لا أزال صغيرة وقتها، ابنة ثمانية أعوام. كانوا يقفون أمام باب منزلنا. ذهبت لأرى المنزل، لكن عناصر الشرطة وكلابها كانوا يحيطون به من كلّ زاوية. سألت أختي الكبرى عمّا يحدث. قالت: 'لقد جاؤوا لهدم منزلنا بالجرّافات. إذا لم تسكتي الآن، فسوف يضربونك". حبسونا في غرفة في الطابق السفليّ، وكنّا نسمعهم وهم يحطّمون منزلنا فوق رؤوسنا. بعد ذلك، لازمني كابوس عن أحداث هذا اليوم. وما زلت أحيانًا أراه مجدّدًا في أحلامي. شعرت بالخوف لفترة طويلة، لكنّني لم أعد خائفة".

أرتعد خوفًا بمجرّد التفكير في تجربة سارة، والتجارب المماثلة الكثيرة الّتي تتكرّر مع أطفال مقدسيّين آخرين في حيّ البستان، والشيخ جرّاح، وبطن الهوى، وغيرها. فهناك الكثير من أوجه التشابه بين ما يواجهه الشباب في فلسطين وما يواجهه نظراؤهم في الولايات المتّحدة، خاصّة ممّن ينتمون إلى الأصلانيّين أو السود أو غيرهم من الشباب الملوّنين. بإمكاننا أن نرى بالعنف الّذي شهدناه الأسبوع الماضي في سلوان، رمزًا إلى الآليّة الّتي يعمل من خلالها الاستعمار الاستيطانيّ. إسرائيل دولة استعماريّة استيطانيّة مصمِّمة على مواصلة الاحتلال والتوسّع؛ شأنها في ذلك شأن الولايات المتّحدة. لهذا، علينا أن نثقّف أطفالنا (في الولايات المتّحدة) عن فلسطين لسببين: أوّلهما أن يتمكّنوا من فهم واقعهم على نحو أفضل، ولكي يأخذوا دورًا في حركة تضامن دوليّة تسعى إلى عالم يقوم على العدل والسلام والاستدامة، وليس على الاحتلال والغزو والتهجير القسريّ.

حاولت [في كتابي] أن أخلق مثل هذه الروابط لليافعين، ولبقيّتنا أيضًا؛ ولذلك أسهبت مثلًا في سرد قصص يعقوب عودة، الّذي كان يبلغ من العمر ثمانية أعوام، عندما طُرِدَت عائلته من قرية لفتا القريبة جدًّا من سلوان، عام 1948. مقابلة قصّته، مع ما روته الأصلانيّة كورينا جولد، عن شعبها أوهلون، وهم السكّان الأصلانيّون لمنطقة خليج كاليفورنيا حيث أعيش.

هنا في الولايات المتّحدة، يقاتل الصهاينة والقوى اليمينيّة الأخرى بكلّ ما أوتوا من قوّة، لإبقاء القضيّة الفلسطينيّة خارج الفصول والمناهج الدراسيّة، وليس صدفة أنّ القوى ذاتها تقريبًا، هي مَنْ يحارب من أجل إبقاء حركة «حياة السود مهمّة» والنظريّة العرقيّة النقديّة خارج الفصول الدراسيّة أيضًا؛ فهؤلاء يعرفون جيّدًا قوّة تأثير هذه الروابط في الشباب، في بحثهم عن فهم طبيعة الدولة الّتي يعيشون فيها، ووضع إستراتيجيّات لمقاومة هذا الواقع.

وليس ثمّة مجال للشكّ في أنّ حظر القضيّة الفلسطينيّة في المناهج الدراسيّة هو محو، وإن لم يكن بالعنف الجسديّ المتمثّل بهدم بيت الفلسطينيّ، إلّا أنّه بالتأكيد جزء لا يتجزّأ من إستراتيجيّة الهدم ذاتها. إنّ أهمّيّة النضال من أجل إدخال مسألة فلسطين إلى فصولنا الدراسيّة في عمليّة تحرير فلسطين، كأهمّيّة التظاهر، ودعم حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات على إسرائيل (BDS)، وجميع أعمالنا التضامنيّة الأخرى.

 

 


الكاتبة: جودي سوكولر، معلّمة وكاتبة، ومركّزة شريكة في مشروع «علّم عن فلسطين»، في مؤسّسة «أطفال الشرق الأوسط».

 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من الإنجليزيّة والفرنسيّة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، بإشراف المترجمين، أسامة غاوجي ومعاد بادري.

موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا. 

* بعض الموادّ البصريّة الواردة في هذه المقالة من اختيارات هيئة التحرير، لا المصدر الأصل.

 

 

مواد الملف

جغرافيا من مسنّنات

جغرافيا من مسنّنات

نروي الهبّة: من الشيخ جرّاح إلى غزّة | ملفّ

نروي الهبّة: من الشيخ جرّاح إلى غزّة | ملفّ

جدليّة شَبابْنا مْلاح وْبَناتْ بِتْأَرْجِلْ

جدليّة شَبابْنا مْلاح وْبَناتْ بِتْأَرْجِلْ

"هبّة القدس"... ثوريّة البذاءة

لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

مستشفيات إسرائيل... احتفاء واهم بالتعايش

مستشفيات إسرائيل... احتفاء واهم بالتعايش

في مديح الْجَدْعَنَة

في مديح الْجَدْعَنَة

الهبّة... عودة الفنّان إلى شارعه

الهبّة... عودة الفنّان إلى شارعه

محمّد الكرد... شاعر من القدس يكتب عن رِفْقَة | حوار

محمّد الكرد... شاعر من القدس يكتب عن رِفْقَة | حوار

 نروي الحكاية، نستعيد الجبل

نروي الحكاية، نستعيد الجبل

"أسبوع الاقتصاد الوطنيّ"... تنظيم الذات الفلسطينيّة

مغترب أمام حدث وطنيّ اسمه «الهبّة»

مغترب أمام حدث وطنيّ اسمه «الهبّة»

مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

«أجمل ما فينا»... قيم الهبّة ومعانيها

«أجمل ما فينا»... قيم الهبّة ومعانيها

الاحتلال متقدّم في قياس حالة الطقس!

الاحتلال متقدّم في قياس حالة الطقس!

في الجَناح يا عمّي: معجم المواجهة والاشتباك

في الجَناح يا عمّي: معجم المواجهة والاشتباك

ابن العنف: سارتر والاستعمار وفلسطين

ابن العنف: سارتر والاستعمار وفلسطين

«إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أَوانُه»... فنّ يفضح

«إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أَوانُه»... فنّ يفضح

مستحيلات المكان وأعجوبة السمكة

مستحيلات المكان وأعجوبة السمكة

الصراع في ضوء الهبّة: الرواية والزمن والتدويل

الصراع في ضوء الهبّة: الرواية والزمن والتدويل

هبّة من أجل القدس: ثقافة الرفض وأفعال المقاومة

هبّة من أجل القدس: ثقافة الرفض وأفعال المقاومة

لنضع ذكرياتنا في الحقيبة... جاءت الحرب | شهادة

لنضع ذكرياتنا في الحقيبة... جاءت الحرب | شهادة

«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

للحارات شباب يحميها | شهادة

للحارات شباب يحميها | شهادة

 قواعد الاشتباك الأربعون

 قواعد الاشتباك الأربعون

حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطّة، والمحكمة | شهادة

حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطّة، والمحكمة | شهادة

واجبنا أن نغضب | ترجمة

واجبنا أن نغضب | ترجمة

الصور الّتي لن تفارقنا

الصور الّتي لن تفارقنا

مظاهرة هارتفورد: الهتافات، والشرطة، واللغات

مظاهرة هارتفورد: الهتافات، والشرطة، واللغات

معركة «سيف القدس»: صحف أوروبّا وأمريكا تنحاز لسرديّة إسرائيل

معركة «سيف القدس»: صحف أوروبّا وأمريكا تنحاز لسرديّة إسرائيل

الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الموت والحياة

الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الموت والحياة

عنوان المعركة: وعي جديد يفكّك وعيًا مريضًا

عنوان المعركة: وعي جديد يفكّك وعيًا مريضًا

خوارزميّات الموت والاضطهاد: الحزن، التفاعل التشاركيّ، البعثرة الخورازميّة في السوشال ميديا

خوارزميّات الموت والاضطهاد: الحزن، التفاعل التشاركيّ، البعثرة الخورازميّة في السوشال ميديا

هستيريا جماعيّة: انفجار نظريّة العرق في وجه أصحابها

هستيريا جماعيّة: انفجار نظريّة العرق في وجه أصحابها