فلسطين والتضامن والأولمبياد في طوكيو

الوفد الفلسطينيّ في أولومبياد طوكيو

 

المصدر: Mondoweiss.

ترجمة: خالد السيّد - فُسْحَة.

 

كانت لحظة دخول الوفد الأولمبيّ الفلسطينيّ، المكوّن من خمسة رياضيّين محترفين إلى الملعب الأولمبيّ في طوكيو، خلال افتتاح الدورة الأخيرة للأولمبياد في 23 تمّوز (يوليو) الماضي، بينما كانوا يرتدون الزيّ التقليديّ الفلسطينيّ، وحاملين العلم الفلسطينيّ معهم، لحظة فخر شعرت بها بحنين إلى الماضي أيضًا.

أشاهد الألعاب الأولمبيّة مُذْ كنت طفلًا، ولست وحدي في ذلك؛ إذ في كلّ مرّة كان يأتي فيها هذا الحدث الرياضيّ الدوليّ، ولمدّة شهر كامل حتّى انتهائه، تحوّلت الألعاب الأولمبيّة إلى موضوع الساعة، الّذي تحدّث عنه جميع أبناء مخيّم اللاجئين، الّذي وُلدت وترعرعت فيه في غزّة.

قبل المشاركة الفلسطينيّة الأولى في الألعاب الأولمبيّة عام 1996 (...) كنّا نشجّع، وما زلنا نفعل، جميع البلدان الّتي بدا لنا أنّها تنقل تجاربنا الجماعيّة، أو تشاطرنا جزءًا من تاريخنا.

 

وبعكس المنافسات الرياضيّة الأخرى مثل كرة القدم، لم يهمّنا نوع الرياضة الّتي نشاهدها لفهم المعاني الكامنة وراء الأولمبياد؛ إذ بدا أنّ المسابقة سياسيّة بأكملها.

لكنّ السياسة في الأولمبياد تختلف عن السياسة العامّة اليوميّة؛ فهي تتخلّل أشياء أعمق كثيرًا، كالهويّة، والثقافة، والنضال الوطنيّ من أجل التحرّر، والمساواة، والعِرق، دون أن ننسى الحرّيّة بالطبع.

قبل المشاركة الفلسطينيّة الأولى في الألعاب الأولمبيّة عام 1996، الّتي ناب عن فلسطين فيها رياضيّ واحد فقط، وهو ماجد أبو مرحي، كنّا نشجّع، وما زلنا نفعل، جميع البلدان الّتي بدا لنا أنّها تنقل تجاربنا الجماعيّة، أو تشاطرنا جزءًا من تاريخنا.

وكنّا أنا وأفراد عائلتي وأصدقائي وجيراني في المخيّم، نتكدّس في غرفة صغيرة مفروشة بأثاث بسيط، في الحرّ غالبًا، أمام جهاز تلفزيون صغير بالأبيض والأسود؛ لنتابع هذا الحدث العالميّ. واعتبرنا حفل افتتاح الأولمبياد، الحدث الأهمّ؛ إذ على الرغم من أنّ الكاميرات كانت تُسَلَّط لثوانٍ معدودة على كلّ وفد، إلّا أنّ بضع ثوانٍ كانت كلّ ما نحتاج إلى إعلان مواقفنا السياسيّة في ما يخصّ كلّ دولة. ولن أُفاجِئ أحدًا عندما أقول إنّنا كنّا نهلّل لجميع الدول الأفريقيّة والعربيّة، ونقفز فرحًا عندما يدخل الوفد الكوبيّ، ونوجّه صيحات الاستهجان إلى أولئك الّذين ساهموا في الاحتلال العسكريّ الإسرائيليّ لوطننا.

لكم أن تتخيّلوا الفوضى الّتي كنّا نُحْدِثُها في غرفة الصالة الصغيرة، كلّما صاح أحد الحضور ليدلي بموقفه السياسيّ تجاه دولة ما، معلّلًا الأسباب الّتي يجب أن نشجّع فريقها أو نمقته؛ لتتتالى جُمَل على مسامعنا مثل "الكوبيّون يحبّون فلسطين"، و"جنوب أفريقيا هي دولة مانديلا"، و"الفرنسيّون أعطوا إسرائيل طائرات ميراج المقاتلة"، و"الأميركيّون منحازون لإسرائيل"، أو "قال رئيس هذه الدولة أو ذاك أنّ الفلسطينيّين يستحقّون الحرّيّة"، و"كينيا أيضًا احتلّها البريطانيّون"، إلخ.

وبالطبع، لم يكن إصدار حكم جماعيّ بالأمر السهل في جميع المواقف؛ ففي بعض الأحيان، لم يستطع أحد منّا تقديم رأي قاطع يُثْبِت وجوب تشجيعنا أو رفضنا لأحد الفرق. وعلى سبيل المثال، تردّدنا في حسم موقفنا من دولة أفريقيّة طبّعت علاقاتها بإسرائيل، فمع أنّنا كرهنا حكومتها إلّا أنّنا أحببنا الشعب. وغالبًا ما تُرِكَ العديد من هذه المعضلات الأخلاقيّة دون إجابة.

السياسة، والسموّ الإنسانيّ، والعنصريّة، وغيرها من الأمور المتعلّقة الكثيرة، كانت لا تزال حاضرة بالنسبة إلينا نحن الفلسطينيّين؛ فهناك ما هو أكثر من التشجيع المعتاد هذه المرّة، هناك رياضيّونا الّذين نفتخر بهم؛ دانيا وحنّا ووسام ومحمّد ويزن...

وُجِدَتْ مثل هذه المعضلات حتّى قبل ولادتي، فقد واجه الجيل الفلسطينيّ الّذي سبق جيلنا، مآزق مشابهة في دعم فرق دول معيّنة في الأولمبياد. وعلى سبيل المثال، لا بدّ من أنّ أبناء ذاك الجيل من سكّان مخيّمنا في غزّة، واجهوا سؤالًا صعبًا عندما رفع الرياضيّان الأميركيّان من أصل أفريقيّ، تومي سميث وجون كارلوس، قبضتيهما محتفلين بالنصر، في أثناء حفل توزيع الجوائز في أولمبياد تشرين الأوّل (أكتوبر) 1968 في مكسيكو سيتي، أيفرحون لهما أم لا؟

فمن ناحية، كرهنا الدور التاريخيّ المدمّر الّذي تستمرّ الولايات المتّحدة بلعبه في تسليحها وتمويلها إسرائيل منذ إقامتها، ودعمها سياسيًّا؛ فلولا هذا الدعم، لما استطاعت إسرائيل أن تحافظ على نظام الاحتلال العسكريّ، والفصل العنصريّ الّذي تفرضه على الفلسطينيّين. لكن من ناحية أخرى، لطالما دعمنا، وما زلنا ندعم، الأميركيّين من أصل أفريقيّ، في كفاحهم الشرعيّ من أجل المساواة والعدالة. في هذه المواقف، غالبًا ما كنّا نقرّر دعم اللاعبين، مع الاستمرار في رفض البلدان الّتي يمثّلونها.

ولا تُشَكِّل دورة الألعاب الأولمبيّة الجارية في طوكيو استثناء في هذا المعترك السياسيّ المعقّد، ومع أنّ التغطية الإعلاميّة ركّزت على جائحة كوفيد-19 بشكل أساسيّ، وعلى فكرة انعقاد الأولمبياد في مثل هذه الظروف، وعن كيفيّة الحفاظ على سلامة اللاعبين، وغيرها من الأمور المرتبطة بالفيروس، إلّا أنّ السياسة، والسموّ الإنسانيّ، والعنصريّة، وغيرها من الأمور المتعلّقة الكثيرة، كانت لا تزال حاضرة بالنسبة إلينا نحن الفلسطينيّين؛ فهناك ما هو أكثر من التشجيع المعتاد هذه المرّة، هناك رياضيّونا الّذين نفتخر بهم؛ دانيا وحنّا ووسام ومحمّد ويزن؛ فلكلٍّ منهم قصّة شخصيّة تحاكي فصلًا في الملحمة الفلسطينيّة، وهو فصل مليء بالألم الجماعيّ والحصار والشتات المستمرّ، لكنّه أيضًا يعجّ بأمل وقوّة وتصميم وعزيمة لا مثيل لها.

يتحمّل هؤلاء الرياضيّون الفلسطينيّون، شأنهم في ذلك شأن رياضيّي بلدان أخرى يعانون من قضاياهم الخاصّة، ويخوضون كفاحاتهم؛ سواء من أجل الحرّيّة أو الديمقراطيّة أو السلام، عبئًا أثقل من أولئك الّذين تلقّوا تدريباتهم تحت ظروف عاديّة في بلدانهم المستقرّة الّتي توفّر لرياضيّيها موارد تبدو بلا نهاية؛ ليحقّقوا أفضل ما لديهم.

وعلى سبيل المثال، ينافس محمّد حمادة، وهو رافع أثقال من قطاع غزّة المحاصر، في بطولة رفع الأثقال للرجال من أصحاب الأوزان الـ 96 كغم فما فوق. لكن هذا الشابّ اليافع (19 عامًا) يحمل جبلًا معه إلى هذه المسابقة؛ فبعد أن نجا من حروب إسرائيليّة فتّاكة عدّة على قطاع غزّة، وحصار قاس، وتفوّق على معاناة انعدام حرّيّة السفر، والتدريب في ظلّ ظروف سيّئة، فضلًا على الصدمات النفسيّة الناجمة عن كلّ ذلك؛ ليخطو خطوته الأولى على بساط الملعب الأولمبيّ في طوكيو، فما من شكّ في أنّ حمادة بطل، ولا بدّ من أنّ المئات من رافعي الأثقال الطموحين، في غزّة وجميع أنحاء فلسطين، شاهدوه بفخر على شاشات أجهزتهم، مليئين برجاء أن يتمكّنوا هم أيضًا من التغلّب على كلّ المصاعب، والمشاركة في الألعاب الأولمبيّة المستقبليّة.

إنّ الديالكتيك الّذي يحضر في تشجيعنا لفريق ما أو رفضه، يحمل الكثير عن كيفيّة رؤيتنا لأنفسنا شعبًا، ولموقعنا في العالم، وللتضامن الّذي نرغب في منحه، والحبّ والتضامن الّذي نتلقّاه.

أمّا يزن البوّاب، السبّاح الفلسطينيّ ابن الـ 21 عامًا، فيجسّد، رغم شبابه، قصّة فلسطينيّي الشتات؛ إذ نشأ البوّاب في الإمارات، ويعيش الآن في كندا، ويحمل الجنسيّتين الإيطاليّة والفلسطينيّة، ويمثّل جيلًا من الشباب الفلسطينيّين الّذين يعيشون خارج الوطن، الّذين تُثْبِت حيواتهم المعاناة في البحث المستمرّ عن الوطن؛ فغير هذا البطل، ثمّة ملايين من اللاجئين الفلسطينيّين الّذين أجبرتهم الحروب، أو ظروف اللجوء القاسية، على التنقّل المتواصل، يطمحون هم أيضًا إلى عيش حياة طبيعيّة ومستقرّة، إلى حمل جوازات سفر وطنهم بكلّ فخر، وتحقيق إنجازات عظيمة مثل البوّاب.

وفي الحقيقة، لا نرى، نحن الفلسطينيّين، بالألعاب الأولمبيّة ممارسة تتمحور حول أعراق متنافسة؛ فلا نستوحي رؤيتنا لها من زاوية العِرق أو الجنسيّة أو حتّى الدين فحسب، بل من الإنسانيّة نفسها. إنّ الديالكتيك الّذي يحضر في تشجيعنا لفريق ما أو رفضه، يحمل الكثير عن كيفيّة رؤيتنا لأنفسنا شعبًا، ولموقعنا في العالم، وللتضامن الّذي نرغب في منحه، والحبّ والتضامن الّذي نتلقّاه. لذلك، تستطيع دول مثل إيرلندا وأسكتلندا، وكوبا وفنزويلا، وتركيا، وجنوب أفريقيا، والسويد، وغيرها الكثير، فضلًا على جميع الدول العربيّة دون استثناء، أن تعتمد دائمًا على تشجيعنا المخلص لها.

 

 


الكاتب: رمزي بارود، صحافيّ ومؤلّف ومحرّر في مجلّة «فلسطين كرونيكل». ومن آخر مؤلّفاته، كتاب «الأرض الأخيرة: قصّة فلسطينيّة» (بلوتو برس، لندن، 2018). حصل على درجة الدكتوراه في دراسات فلسطين من «جامعة إكستر»، وهو باحث غير مقيم في «مركز أورفاليا للدراسات العالميّة والدوليّة» (يو سي إس بي).

 

 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من الإنجليزيّة والفرنسيّة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، بإشراف المترجمين، أسامة غاوجي ومعاد بادري.

موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا. 

* بعض الموادّ البصريّة الواردة في هذه المقالة من اختيارات هيئة التحرير، لا المصدر الأصل.