التعليم في القدس الشرقيّة: ألعوبة سياسيّة | ترجمة

الكلّيّة الإبراهيمّة، القدس | تصوير: إياد طويل | وكالة الأناضول

 

المصدر: thegovernancepost.org.

ترجمة: علاء سلامة - فُسْحَة. 

 


 

كانت «اتّفاقيّة أوسلو» إنجازًا كبيرًا بالنسبة إلى التعليم في القدس الشرقيّة. لأوّل مرّة في التاريخ، استطاع الفلسطينيّون أن يقرّروا بأنفسهم محتواهم التعليميّ. لكنّ إسرائيل تعمل منذ ذلك الوقت على تطبيق سياسة صارمة من أجل توحيد القدس، بما لا يستثني التعليم. تخصّص إسرائيل تمويلًا أكبر للمدارس الّتي تعلّم المنهاج الإسرائيليّ، بينما تستمرّ في قمع التوجّهات الوطنيّة الفلسطينيّة؛ فكيف تعمل هذه السياسات معًا؟

تقف القدس - المقدّسة لديانات ثلاث - في قلب أكثر الصراعات استقطابًا في السياسة الدوليّة. يعتبر كلٌّ من الفلسطينيّين والإسرائيليّين القدس عاصمة لهم، لكنّ السلطة الفعليّة على المدينة تعود لإسرائيل. أدّى العداء المستمرّ إلى المواجهات الأخيرة في الحرم الشريف أثناء شهر رمضان المقدّس، ما أظهر مرّة أخرى المشاكل النيويّة العميقة.

بالكاد ثمّة حقل سياسيّ تظهر فيه محاولة السيطرة على القدس أكثر من حقل التعليم؛ فالتعليم هو المفتاح الأساسيّ للتحرّك الاجتماعيّ والانخراط في المجتمع، وهو ما سمّاه نيلسون مانديلّا "أقوى سلاح يمكنك استخدامه لكي تغيّر العالم". من هنا نسأل: ما الّذي يميّز التعليم في القدس؟ وكيف يُستخدَم هذا ’السلاح‘ اليوم؟

 

تمزّق تاريخيّ

احتلّت إسرائيل القدس الشرقيّة أوّل مرّة بعد حرب الأيّام الستّة في عام 1967، سالبة السيطرة على المدينة من الأردنّ الّتي سيطرت عليها منذ عام 1948. منذ احتلالها في عام 1967، وإسرائيل تحاول تعزيز فكرة القدس الموحّدة؛ من خلال التعامل مع القدس الشرقيّة باعتبارها جزءًا أساسيًّا من إسرائيل. عملت إسرائيل على إزالة التقسيم بين النصف الغربيّ والنصف الشرقيّ من القدس، في ما يتعلّق بالبنية التحتيّة والقانون. لكنّ الواقع الحاليّ يكذّب صدق جهود توحيد المدينة، ويظهر بوضوح انعدام العدالة والتمييز في التنمية: معظم الفلسطينيّين في القدس الشرقيّة لا يمتلكون الجنسيّة الإسرائيليّة، ولا يتمتّعون بالخدمات الاجتماعيّة المقدّمة لليهود. يتعارض هذا حتّى مع القانون الإسرائيليّ ذاته، فمنذ أعلنت إسرائيل ضمّ القدس الشرقيّة في عام 1980، بات عليها أن توفّر التعليم المجّانيّ لكلّ الأطفال الفلسطينيّين في القدس الشرقيّة؛ بناء على قانون «إلزاميّة التعليم المجّانيّ».

أنجز الفلسطينيّون المقدسيّون الكثير في سبيل تقرير مصير سياساتهم التعليميّة بأنفسهم. تاريخيًّا، كانت إدارات خارجيّة دائمًا مسؤولة عن ذلك، سلطات الانتداب البريطانيّ، ثمّ السلطات الأردنيّة. حتّى «اتّفاقيّات أوسلو» في عام 1994، استردّ المقدسيّون بعض السيطرة على نظامهم التعليميّ. بعد سنوات من تغيّر اتّجاه «اتّفاقيّات أوسلو»، أصبح النظام التعليميّ في القدس متنازعًا بين كيانين متمايزين، إسرائيل والسلطة الفلسطينيّة، اللذين يدّعيان السيادة على المنطقة نفسها ضمن "واقع هجين".

يسعى الطرفان إلى التأثير في نظام التعليم في القدس الشرقيّة. مع أنّ السلطة الفلسطينيّة تفتقر إلى التأثير السياسيّ والموارد الماليّة من أجل التأثير بقوّة، وليس لديها سلطة فرض أساليب التعليم في القدس الشرقيّة، لكنّها ليست بلا قوّة؛ فهي المسؤولة عن المناهج والكتب المدرسيّة في القدس الشرقيّة. لبلديّة القدس السيطرة الإداريّة من ناحية "إجراءات الالتحاق بالمدارس، وتعيين المدرّسين والعاملين، والرواتب، والإشراف التربويّ كما تتطلّبه «وزارة التعليم الإسرائيليّة»"، وكذلك توفير التمويل، وبناء المدارس والصفوف الجديدة.

 

عجز في قطاع التعليم

تحت الحكم الإسرائيليّ، أصبح العجز في قطاع التعليم في القدس الشرقيّة واضحًا، وفي قلب هذا العجز قلّة تمويل مزمنة. ينتقد الكاتب عطا قيمري الانتقائيّة في توزيع التمويل من قِبَل بلديّة القدس، الّتي "تجمع 26% من دخلها من القدس الشرقيّة"، لكنّها لا توفّر أكثر من 5% من ميزانيّتها للمجتمع العربيّ". تلميذة تدرس في مدرسة في القدس الشرقيّة، تحصل على أقلّ من نصف التمويل الّذي تحصل عليه تلميذة في القدس الغربيّة.

تؤدّي سياسة التمويل التمييزيّة هذه إلى خلق تحدّيات أمام النظام التعليميّ في القدس الشرقيّة. أحد أهمّ هذه التحدّيات مسألة ’الصفوف المفقودة‘؛ الصفوف اللازمة من أجل استيعاب الطلّاب الجدد، الّتي لمّا تُبنَ بعد. وجد تقرير «حالة التعليم» الّذي أصدرته المنظّمة الإسرائيليّة غير الحكوميّة «إر أميم» في عام 2020، وجد 3794 صفًّا مفقودًا في القدس الشرقيّة، بما يشمل أطفالًا لم تشملهم إحصاءات البلديّة. هذا على عكس المجتمع الحريديّ، والعامّ في القدس الغربيّة، حيث ستحلّ مشكلة الصفوف المفقودة تمامًا مع نهاية عام 2022، بينما سيظلّ المجتمع العربيّ يواجه هذا النقص. إضافة إلى العجز في عدد الصفوف، ثمّة كذلك عجز في المعلّمين، ونسب مرتفعة من التسرّب من المدارس، ونشاطات غير منهجيّة محدودة، وأكثر من 17 ألف طفل في سنّ الدراسة غير مسجّلين في نظام التعليم.

قرار الحكومة الإسرائيليّة رقم 3790، الّذي صدر في عام 2018، وعد بتغيير في السياسة نحو القدس الشرقيّة، ووضع تمويلًا بـ2.1 مليار شيكل لستّ مناطق إداريّة في القدس الشرقيّة في الفترة ما بين 2018-2022، جاعلًا قطاع التعليم الفائز بثاني أعلى نسبة من هذا التمويل؛ 445 مليون شيكل.

 

أسرلة المدارس الفلسطينيّة

منذ منتصف التسعينات، درّست معظم مدارس البلديّة، والمدارس الخاصّة، ومدارس الوقف، ومدارس «الأونروا»، المنهاج الفلسطينيّ. لكنّ القرار رقم 3790 كان محاولة من قِبَل الحكومة الإسرائيليّة من أجل زيادة أعداد الفلسطينيّين الّذين يتعلّمون المنهاج الإسرائيليّ. يخصّص هذا القرار 43.4% من التمويل (وفي أوّل سنتين 50%)، لمدارس القدس الشرقيّة الّتي تدرّس المنهاج الإسرائيليّ، مع أنّ 20% من الطلّاب الفلسطينيّين ارتادوا هذه المدارس في عام 2020، و10% في عام 2019. يعطي التمويل الإضافيّ الفرصة للمدارس من أجل زيادة النشاطات اللامنهجيّة، وتوظيف معلّمين جدد، وزيادة جودة الصفوف، لكنّه أيضًا يخاطر باستقلال المدارس أكاديميًّا. ثمّ إنّ الحكومة الإسرائيليّة هدّدت بسحب الاعتراف والتراخيص من المدارس الّتي تعلّم المنهاج الفلسطينيّ.

إنّ سياسات إسرائيل نحو ’أسرلة‘ المدارس في القدس الشرقيّة، تأخذ الأولويّة على فكرة تحسين وضع التعليم بشكل عامّ. المنهاج الإسرائيليّ أداة قويّة من أجل التوظيف المستقبليّ في سوق العمل الإسرائيليّ، لكنّه ينزع عن الفلسطينيّين ثقافتهم وقيمهم الوطنيّة. كما تشير «إر أميم»: "هذه التحرّكات مخالفة صريحة ومباشرة للاتّفاقيّات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينيّة".

عامل مهمّ آخر لا بدّ من أخذه بعين الاعتبار عند فحص حالة النظام التعليميّ في القدس الشرقيّة، هو جدار الفصل، الّذي بُني في عام 2002، والّذي يفصل إسرائيل عن الضفّة الغربيّة، بما فيها أحياء من القدس الشرقيّة. ترافق بناء الجدار مع قرار الحكومة الإسرائيليّة رقم 3873، الّذي وعد أن تستمرّ الحكومة بتقديم كلّ الخدمات، بما في ذلك التعليم، في الأحياء الّتي فصلها الجدار عن القدس.

في الواقع، فإنّ الأحياء الفلسطينيّة، مثل كفر عقب وشعفاط اللذين يقعان داخل حدود بلديّة القدس، ويفصلهما الجدار عن المدينة، تعاني من قصور في عدد المدارس ونوعيّتها. في هذه الأحياء ذات البنيان الكثيف، ليس ثمّة تخطيط ولا تقسيم للمناطق؛ ما يجعل بناء المدارس مهمّة عصيبة. بالتالي، فإنّ الكثيرين من سكّانها مضطرّون إلى عبور الحواجز من أجل الوصول إلى القدس، حيث يمكنهم الوصول إلى مدارس أفضل. من الجانب الإسرائيليّ، ليس ثمّة إرادة سياسيّة من أجل الاعتناء بالأحياء المفصولة، بل العكس هو الصحيح. سياسيّون كثر ينظرون إلى هذه الأحياء باعتبارها "أعشاش تفريخ إرهابيّين"، يمكن مستقبلًا إعطاؤها إلى دولة فلسطينيّة مقابل ضمّ المستوطنات الإسرائيليّة في الضفّة الغربيّة إلى إسرائيل.

سيبقى قطاع التعليم في القدس الشرقيّة ألعوبة سياسيّة متنازعًا عليها، ما دام لدى إسرائيل والفلسطينيّين اهتمام عميق في السيطرة الثقافيّة على المدينة. بالنسبة إلى السلطة الفلسطينيّة، فإنّ خسارة عامل من عوامل التأثير القليلة الّتي تمتلكها في القدس الشرقيّة، سيكون ضربة موجعة. الخطّة الخمسيّة الجديدة تهدّد بزيادة الهوّة بين المدارس الّتي تدرّس المنهاج الفلسطينيّ، وتلك الّتي تدرّس المنهاج الإسرائيليّ، ولا تفعل شيئًا حيال النقص الحادّ في الصفوف، الّذي سيكون تأثيره الأوضح في الأحياء المقدسيّة المفصولة عن المدينة.

 


 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا.