ساعة غزّة السعيدة... عندما التقت فلسطين العثمانيّة بثقافة الشرب الفيكتوريّة | ترجمة

مدينة غزة، 1862

 

 

العنوان الأصليّ: Gaza's Happy Hour? When Late ottoman PAlestine Met The Victorian Drinking Culture. 

المصدر: Seeing the Woods.

ترجمة: أزداشير سليمان.

 


 

لو تمكّنّا من العودة بالزمن إلى مدينة غزّة في آذار (مارس) عام 1886، لربّما انضممنا إلى حشد كبير تجمَّع على الشاطئ لإلقاء نظرة على سفينة (Troqueer)، وهي باخرة عملاقة تحمل الحبوب وتزن 1300 طنّ، جانحة على بُعد نحو ميل واحد من الشاطئ. بعد أن دخلت السفينة عن طريق الخطأ المياه الضحلة، واصطدمت بقاع البحر، كان يمكن رؤية الحطام العملاق يغرق ببطء لأسابيع عدّة في عرض البحر المواجه لشاطئ غزّة.

لفت هذا الحدث غير المتوقّع انتباهي إلى جانب مجهول في تاريخ غزّة: البيرة. لم يكن في غزّة في القرن التاسع عشر ميناء حقيقيّ، أو حتّى ميناء طبيعيّ. وكما تؤكّد (Troqueer) والسفن الزائرة الأخرى، كانت غزّة بالفعل مدينة ساحليّة "بلا ميناء". ومع ذلك، وطوال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، كانت هذه المدينة العثمانيّة الإقليميّة بمنزلة أحد مورّدي الشعير الأجانب لصناعة تخمير البيرة في بريطانيا. تأريخ اندماج الشرق الأوسط في الاقتصاد العالميّ في القرن التاسع عشر غالبًا ما يتجاهل مثل هذه المدن الصغيرة، حيث نما الفلّاحون والتجّار المحلّيّون، وأنتجوا، وتبادلوا الموادّ الخامّ. وعلى عكس التجربة العالميّة لمراكز البحر الأبيض المتوسّط العظيمة، مثل إسطنبول أو الإسكندريّة أو بيروت، كانت نتيجة الحداثة في عصر البخار، في أماكن صغيرة مثل غزّة، انهيارًا اقتصاديًّا في كثير من الأحيان في مواجهة الطلب العالميّ النهم؛ فبين عشيّة وضحاها تقريبًا، اندمجت هذه الأماكن في الاقتصاد العالميّ، وبمجرّد أن أدّت دورها، طُرِدت بالسرعة ذاتها. في حالة غزّة، قرعت العولمة الباب في لبوس الجعة والشعير.

 

توسّع صناعة البيرة البريطانيّة

مثّل العصر الفيكتوريّ فترة تَغيَّر فيها إنتاج البيرة واستهلاكها في بريطانيا تدريجيًّا. كانت نقطة البداية التقريبيّة هي «قانون دوق إلينغتون بيرهاوس» لعام 1830، الّذي سهّل إنشاء منافذ البيع بالتجزئة مثل الحانات والنزل والمنازل؛ لبيع الجعة في الجزر البريطانيّة؛ وهو ما تسبّب في زيادة سريعة في إنتاج البيرة، وتوسّع الطلب لمكوّنه الخامّ الرئيسيّ؛ الشعير. أدّى إلغاء الرسوم المفروضة على الحبوب بموجب قوانين الذرة عام 1846[1]، وتراجع الزراعة البريطانيّة بعد الكساد الاقتصاديّ الكبير في عام 1873، إلى جعل الشعير، وكذلك الحبوب الأخرى، سلعة مستورَدة في الغالب. ومع ازدياد شعبيّة البيرة، وزيادة عدد سكّان بريطانيا، نما الطلب على الشعير الأجنبيّ بشكل أكبر؛ وهذا ما ضغط على تجّار الحبوب البريطانيّين للعثور على مصادر خارج الجزر البريطانيّة.

لم يُتَرجَم الطلب على الشعير فقط إلى طلب بكمّيّات أكبر، ولكن أيضًا إلى نوعيّات جديدة مثيرة للاهتمام؛ إذ تنوّع مذاق البيرة ولونها وقوامها، وتحوّل مع إدخال أساليب صناعيّة وعلميّة جديدة في مصانع الجعة خلال القرن التاسع عشر. للإشارة فقط إلى أحد هذه التحوّلات؛ استُبْدِل بالجعة التقليديّة القويّة الداكنة المعروفة باسم(Porter)  تدريجيًّا نوع جديد وأخفّ من البيرة. كان الحفاظ على هذه البيرة الفاتحة اللون (Pale Ale) الجديدة أسرع وأسهل من (Porter) ، ومن ثَمّ إرسال المنتج إلى الخارج؛ إلى المستعمرات البريطانيّة.

بدأت مصانع الجعة الفيكتوريّة، مع التوسّع السريع في السوق، والتحوّل في تفضيلات المستهلكين، في التنافس على تصنيع الجعة المثاليّة، وبالتالي العثور على الأنواع الفرعيّة المثاليّة من الشعير. إضافة إلى ذلك، وبحلول سبعينات القرن التاسع عشر، أتاحت التكنولوجيا الثوريّة للتبريد الانتقال من الإنتاج الشتويّ فقط إلى الإنتاج على مدار العام. وقد شجّع هذا على إمداد الشعير، من المناطق ذات الإيقاع الزراعيّ المعاكس لإيقاع الجزر البريطانيّة؛ مناطق مثل منطقة غزّة في جنوب فلسطين، الواقعة على الحدود الجنوبيّة للإمبراطوريّة العثمانيّة.

 

غزّة وبذور الشعير الذهبيّة 

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، شهدت منطقة جنوب فلسطين تحوّلات مهمّة؛ فقد عملت السلطات العثمانيّة، كجزء من جهد مركزيّ واسع للإمبراطوريّة، على فرض التوطين على القبائل البدويّة الّتي كانت ترعى قطعانها بين سيناء وفلسطين. ونجح العثمانيّون جزئيًّا في تحقيق الاستقرار في المناطق القبليّة، الأمر الّذي مكّن البدو من زراعة أجزاء من أراضيهم على نحو أكثر اتّساقًا من ذي قبل. كان الشعير هو المحصول الرئيسيّ الّذي يزدهر، على عكس الحبوب الأخرى، في المناطق شبه القاحلة، على الرغم من التربة المالحة وندرة هطول الأمطار. أثبت بدو جنوب فلسطين أنّهم مزارعون جيّدون، وفي غضون سنوات عدّة، حوّلوا فوائضهم من الشعير إلى سلعة نقديّة تُباع في أسواق غزّة المجاورة.

بحلول ستّينات القرن التاسع عشر، بدأت الصحافة البريطانيّة بالإبلاغ عن وصول البواخر المحمَّلة بالشعير من غزّة، إلى العديد من الموانئ البريطانيّة. كان بإمكان غزّة، باعتبارها أحد مصادر الشعير في أقصى الجنوب في نصف الكرة الشماليّ، تزويد أسواق الحبوب البريطانيّة بالشعير، في وقت مبكّر من شهر أيّار، وبالتالي تلبية متطلّبات التخمير لمدّة عام.

علاوة على ذلك، فإنّ الظروف القاحلة في جنوب فلسطين كانت تعني أنّ بذور الشعير في غزّة غنيّة بالسكّر وقليلة البروتينات، وهي نوعيّة مناسبة تمامًا لاحتياجات تخمير البيرة. وصف تجّار الحبوب البريطانيّون أصناف الشعير المشار إليها في العامّيّة البدويّة، منها ذو الجمال والسهيلاوي (من قرية بني سهيل) وأبو صفّين (الشعير ذو الصفّين) بـ ’غزّة‘ و’غزّة الجديدة‘، وما شابه. وتشير تقارير الشحن إلى زيادة تداول ’شعير غزّة‘، الّذي وصل بحلول سبعينات القرن التاسع عشر إلى العديد من الموانئ في جميع أنحاء بريطانيا، وبلغ ذروته خلال تسعينات القرن التاسع عشر، بكمّيّة سنويّة بلغت نحو 40 ألف طنّ. لم يكن هذا كثيرًا بالمقارنة بالمورّدين العالميّين الآخرين للحبوب، لكنّه كان كافيًا لتغيير مصير المدينة الصغيرة الّتي كانتها غزّة في ذلك الوقت.

 

من ميناء قارّيّ إلى ميناء بحريّ 

كانت غزّة، خلال جزء كبير من تاريخها، محطّة سوق على الحدود الصحراويّة الّتي تربط بلاد الشام ومصر. وغالبًا ما كانت بمنزلة نقطة انطلاق إقليميّة للحجّاج المتّجهين لأداء فريضة الحجّ السنويّة إلى مكّة المكرمة. وتاريخيًّا، شاركت القبائل المحيطة بالمدينة في هذا النظام الاقتصاديّ، في بعض الأحيان كمورّدين للقوافل وقادة لها، وفي أحيان أخرى كناهبين لها. غير أنّ هذا النظام برمّته قد تحوّل عندما بدأت السفن البخاريّة بالسفر حول البحر الأبيض المتوسّط، في خمسينات القرن التاسع عشر (وبشكل أكثر حسمًا بعد افتتاح قناة السويس في عام 1869)، وحلّت محلّ التجارة التقليديّة وقوافل الحجّ.

كان على غزّة أن تعيد توجيه نفسها، أو بتعبير أدقّ، أن تعيد توجيه نفسها نحو شاطئ البحر الأبيض المتوسّط، وأن تتحوّل من ميناء قارّيّ إلى ميناء بحريّ. بحلول ثمانينات القرن التاسع عشر، عندما فقد طريق التجارة البرّيّ الّذي يربط غزّة بمصر أهمّيّته تمامًا، أصبحت صادرات الشعير عن طريق البحر المصدر الرئيسيّ للدخل في المدينة. وصف زوّار غزّة، في العقد الأوّل من القرن العشرين، المدينة بأنّها خاملة لمدّة تسعة أشهر في السنة، بينما كانت تنتظر موسم الشعير. عندما كان الموسم يحلّ أخيرًا، كان الشعير المحصود حديثًا من الأراضي البدويّة المحيطة يغمر أسواق المدينة. ثمّ يُنْقَل عن طريق الجمال إلى شاطئ البحر، حيث يُحمِّل العمّال الموسميّون البضائع على قوارب تجديف صغيرة، تعمل بين الشاطئ والبواخر الّتي ترسو بعيدًا في البحر.

على الرغم من هذه التسهيلات البسيطة؛ أدّى التوسّع في تجارة الشعير إلى ظهور قطاع تجاريّ محلّيّ في المدينة، وجذب التجّار الأجانب، فضلًا على وكلاء لشركات الشحن والتأمين. وفي عام 1905، عيّنت بريطانيا ممثّلًا قنصليًّا في المدينة لتحسين المعاملة المحلّيّة لتجّارها، وشهدت السنوات التالية انتقال العديد من المؤسّسات التجاريّة البريطانيّة إلى غزّة؛ للاستفادة من تجارة الشعير. أقرّت الدولة العثمانيّة بالإمكانات الماليّة للمدينة في منتصف تسعينات القرن التاسع عشر، ووضعت خططًا لبناء رصيف لتحميل الرسوم وتحصيلها بشكل أكثر كفاءة. وخصّصت عائدات هذا الواجب لتمويل مستشفًى حديث، ونظام صرف صحّيّ، وطرق في غزّة. وكخطوة ثانية، خطّط العثمانيّون لبيع قطع أراضٍ على طول الشاطئ الرمليّ للبناء خاصّ، لتمكين ظهور حيّ حديث على شاطئ البحر في غزّة.

 

جفاف 1906... نهاية مشروع التحوّل 

لم تتحقّق هذه الخطط؛ فعندما أقيم رصيف المراكب الصغيرة أخيرًا في عام 1906، ضربت المنطقة سلسلة من موجات الجفاف المتتالية؛ فأدّى إلى هروب جماعيّ للبدو وسكّان البلدة شمالًا في عام 1910. واضطرّ العثمانيّون والمستثمرون الأجانب إلى تعليق برامجهم لتنمية غزّة. في الاجتماعات الرسميّة، ناقش مصنّعو البيرة البريطانيّون وغيرهم في الخارج، بقلق، إمدادات الشعير غير الموثوق بها في المدينة. وخلصوا إلى أنّه كان عيبًا لا يُوازن دائمًا بالصفات الفريدة للسلعة.

لقد كشف الجفاف عن الأساس الماليّ الهشّ الّذي تعتمد عليه غزّة؛ المدينة الّتي كانت تُسْتخدَم تقليديًّا مثل سوق قارّيّ ومحطّة قوافل لمناطق جغرافيّة شاسعة، من مناخات وممتلكات دنيويّة وسلع مختلفة، أصبحت تعتمد في العصر الحديث على الظروف الطبيعيّة غير المستقرّة لجنوب فلسطين، وعلى الإنتاجيّة العشوائيّة لتربتها. ومع نموّ الطلب، تعمّقت هذه التبعيّة؛ فأدّى هذا إلى تجريد غزّة ببطء من مصادر التمويل البديلة، وربّما منعها أيضًا "أي مصادر التمويل" من الظهور. بينما كانت غزّة بالنسبة إلى مصنّعي البيرة البريطانيّين واحدة من العديد من مصادر الشعير، لم يتمكّن سكّان غزّة من العثور على مصدر دخل مماثل.

في آب (أغسطس) 1912، زار رئيس تحرير «صحيفة فلسطين»، ومقرّها يافا، زار غزّة، ووصفها في ما بعد بأنّها ملعونة بتعويذة توراتيّة. وكتب: "مهمَلة من قِبَل الحكومة، منقطعة عن العالم، ومهجورة من الله". لكن غزّة لم تكن تحت تأثير تعويذة؛ فبين البدويّ الّذي يزرع الشعير والبريطانيّ الّذي يشرب الجعة، كانت تحاول التكيّف مع التحوّلات الاقتصاديّة والسياسيّة والتكنولوجيّة؛ التحوّلات الّتي، رغم أنّها مدفوعة بـ ’التحديث‘ و’التقدّم‘ في مكان ما، كان يمكن أن تسبّب تأثيرًا معاكسًا تمامًا في مكان آخر.

 


إحالات

[1] قوانين الذرة عبارة عن التعريفات والقيود التجاريّة الأخرى المفروضة على الأغذية المستوردة والذرة، المفروضة في المملكة المتّحدة بين عامَي 1815 و1846. تشير كلمة "الذرة" في اللغة الإنجليزيّة البريطانيّة إلى جميع الحبوب، بما في ذلك القمح والشوفان والشعير.

 


 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا.