صحّة الفلسطينيّين النفسيّة: علينا أن ندقّ ناقوس الخطر | ترجمة

حائط في نابلس من أثر الاقتحامات ومواجهتها | زين جعفر، Getty

 

العنوان الأصليّ: As a Researcher, I Study the Health of Palestinians. It’s Time to Pay Attention.

الكاتبة: يارا عاصي.

المصدر: The New York Times.

 


 

هذا العام، خلال الفترة التمهيديّة للانتخابات الإسرائيليّة، عدت إلى مدينتي الأمّ، نابلس، في الضفّة الغربيّة المحتلّة، للعمل على مشروع بحثيّ، ومن أجل قضاء بعض الوقت مع عائلتي هناك. كنت قد تلقّيت منحة لدراسة تأثير قيود إسرائيل على الحركة في صحّة الفلسطينيّين، قيود مثل الحواجز العسكريّة، وتصاريح السفر (بما في ذلك تلك المطلوبة للرعاية الطبّيّة)، وجدار الفصل الّذي يمتدّ عبر الضفّة الغربيّة، وإغلاق الطرق.

أعطاني عملي السابق، والأبحاث الحاليّة حول صحّة الفلسطينيّين ورفاهيّتهم، فكرة جيّدة عمّا سأجده: أعباء متعدّدة في الوصول إلى الرعاية الصحّيّة، ومعدّلات مرتفعة كما هو متوقّع، من الاكتئاب، والتوتّر، والقلق، وانعدام الأمان.

كنت أتوقّع أن أسمع قصصًا عن النضال والخسارة والصدمات. وسمعت العشرات منها، خاصّة بين الشباب الّذين يشعرون باليأس الحادّ. ما لم أكن أتوقّعه هو أن تتزامن رحلتي مع أشدّ الأشهر فتكًا في أشدّ السنوات فتكًا للفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة، منذ عام 2006: لقد قُتِل حتّى الآن ما لا يقلّ عن 150 شخصًا في عام 2022، بما في ذلك أكثر من عشرين طفلًا، معظمهم نتيجة للعنف العسكريّ الإسرائيليّ. ولم أكن أتوقّع أن تكون تجربتي بهذه المباشرة مع العنف اليوميّ الّذي يحدّد حياة الفلسطينيّين.

 

بلاد الحواجز 

بعد بضعة أسابيع من رحلتي، حاصر الجيش الإسرائيليّ نابلس، المدينة الّتي يبلغ عدد سكّانها نحو 160,000 شخص، في محاولة لإخماد مجموعة المقاومة المسلّحة الفلسطينيّة الجديدة الّتي تأسّست هناك، والّتي تُعْرَف بـ «عرين الأسود». فصل الجيش الإسرائيليّ المدينة فعليًّا عن بقيّة الضفّة الغربيّة - وهي أرض محتلّة مفصولة بالفعل عن العالم في العديد من الجوانب - حيث لم يُرْفَع الحصار إلّا بعد ثلاثة أسابيع. وهذا يعني أنّ جميع المركبات الّتي تغادر أو تدخل المدينة كانت عرضة لانتظار طويل الأمد، وعمليّات بحث، (بما في ذلك، أحيانًا، تفتيش هواتف الفلسطينيّين وحسابات وسائل التواصل الاجتماعيّ)، أو منعهم من الخروج أو الدخول إلى المدينة تمامًا. كان لهذا تأثيرات مدمّرة على اقتصاد المدينة، وأدّى إلى عرقلة وصول الفلسطينيّين إلى الرعاية الصحّيّة، والتعليم والتجمّعات الاجتماعيّة، ناهيك عن التوتّر والغموض اللامتناهي الّذي عاشه سكّان المدينة.

إغلاق المدينة، في وقت تصاعد فيه بالفعل العنف العسكريّ وعنف المستوطنين، كان عملًا عنيفًا في حدّ ذاته، جزءًا من العقاب الجماعيّ الّذي يُبَرَّر بشكل مستمرّ على أساس الأمن، لكنّه يعمل انطلاقًا من افتراض أنّ جميع الفلسطينيّين هم تهديدات محتملة، وتجب معاملتهم على هذا الأساس.

لم يعرف الشباب الفلسطينيّ حرّيّة التنقّل أو الحياة بلا سيطرة الجيش الإسرائيليّ المستمرّة والعنيفة. هذا هو السياق الّذي ظهرت فيه «عرين الأسود»، الّتي أعلنت مسؤوليّتها عن هجمات بالرصاص على الجنود الإسرائيليّين. يقصد القمع الأخير لإسرائيل في الضفّة الغربيّة، بما في ذلك حصار نابلس، في جزء كبير منه، ردع التعبئة الشعبيّة حول هذه الجماعات. أدّى القمع إلى أنّ جميع الفلسطينيّين اضطرّوا إلى تعديل أدقّ جوانب حياتهم، لتجنّب التعرّض لعنف المستوطنين وأيّ لقاءات بالجيش الإسرائيليّ المنتشر في جميع أنحاء الضفّة الغربيّة.

 

الصحّة بوصفها مسألة سياسيّة

كانت حياة الكثيرين في نابلس وحولها تحت الإغلاق في الأساس، بانتظار الحكومة الإسرائيليّة، وهي كيان لا يملك الفلسطينيّون أيّ سلطة لانتخابه، وليس مسؤولًا تجاههم لاتّخاذ قرار برفع الحصار، والسماح بعودة الحياة إلى شيء يشبه الطبيعيّ. وقع الإغلاق خلال بداية موسم حصاد الزيتون الفلسطينيّ المحتفى به، ممّا منع العديد من العائلات، بمَنْ في ذلك عائلتي، من التجمّع لجني زيتونهم، وتعريض الّذين تجرّؤوا على القيام بذلك لمخاطر أكبر من الهجمات من المستوطنين. قال لي الجميع في نابلس إنّ هذه كانت أسوأ الظروف الّتي يتذكّرونها منذ عقود - منذ الانتفاضة الثانية في أوائل العقد الأوّل من الألفيّة، بالنسبة إلى أولئك الّذين يتذكّرونها.

أثناء إجرائي سلسلة من مجموعات التركيز، مع الأطبّاء والممرّضين والمرضى، وأعضاء هيئة التدريس الطبّيّة والطلّاب، أصبح من الواضح أنّه من المستحيل عليّ أن أقيس مدى الضرر الّذي تسبّبت فيه إغلاقات إسرائيل. كان ثمّة - مثلًا - صوت التنبيه المستمرّ لطائرات الاستطلاع العسكريّة الإسرائيليّة، الّتي كانت تراقب نابلس على مدار الساعة طوال الأسابيع. على سبيل المثال، أشار العديد من الناس إلى ذلك على أنّه شكل من أشكال التعذيب النفسيّ. كيف يمكنني قياس ذلك؟ إحدى أعضاء هيئة التدريس في الصحّة العامّة وصلت بعد الموعد بـ 90 دقيقة، شارحة أنّ الطريق الّذي حاولت أن تأخذه لدخول المدينة كان مغلقًا بنقطة تفتيش؛ لذا كان عليها اختيار طريق آخر، وتحكي عن التجربة بقدر من الراحة كما قد يصف شخص ما ارتداء جوربين غير متطابقين بالخطأ. ماذا يقول ذلك عن نفسيّة السكّان عندما تُطَبَّع أحداث مثل هذه؟

لطالما شعرت بالمسؤوليّة تجاه إيصال واقع الفلسطينيّين، ليس فقط بصفتي باحثة ملتزمة بالعدل والمساواة، ولكن أيضًا بصفتي أنحدر من عائلة من الضفّة الغربيّة. وُلِدت في نابلس لامرأة من قرية قريبة، ورجل من بلدة فلسطينيّة استعمرتها إسرائيل عند تأسيسها في عام 1948. كان والدي يدرس الصحافة والعلوم السياسيّة في نابلس قبل أن ينقلنا إلى الولايات المتّحدة حيث نشأت. أنا الآن أستاذة نفسي، لأنّني أردت أن أتّبع خطى والدي. لست عالمة سياسيّة كما كان والدي، بل باحثة في الصحّة العامّة. بالطبع، الموضوعان متشابكان في أيّ إعداد: الصحّة هي سياسيّة بشكل طبيعيّ. لكن في نابلس، تذكّرت مدى عمق هذه الصلة.

 

بيانات غير مجدية 

ظلّت هذه السياقات، في الغالب، على حالها لمدّة 50 عامًا تقريبًا، مع فترات متقطّعة تميّزت بالقليل من الحرّيّة للفلسطينيّين، وفترات أخرى كانت تتميّز بالقيود الشديدة والعنف. كنت أزور العائلة في الضفّة الغربيّة كلّ صيف عندما كنت طفلة، وخلال معظم حياتي البالغة. أتذكّر الطوابير الطويلة المتعرّجة في نقاط التفتيش، مع جنود إسرائيل العدائيّين يتفحّصون وثائقنا. أتذكّر قطع الكهرباء الّذي فرضته إسرائيل، ممّا تركنا لنقضي الليالي باستخدام الشموع والفوانيس فقط. أتذكّر أنّني كنت قادرة على السفر إلى ’مطار تل أبيب‘، لكنّني اضطررت إلى تغيير سيّارات الأجرة في منتصف الرحلة إلى الضفّة الغربيّة؛ لأنّه لم يُسْمَح لسيّارات الأجرة الفلسطينيّة بأن تقلّنا.

الآن، أنا وآخرون من أصل فلسطينيّ، بغضّ النظر عن الجنسيّة أو البلد الّذي يقيمون فيه، لا يُسْمَح لنا حتّى باستخدام هذا المطار بلا إذن خاصّ من إسرائيل. بدلًا من ذلك، بسبب قصف إسرائيل لآخر مطار فلسطينيّ، ورفضها السماح ببناء واحد جديد، نسافر من الضفّة الغربيّة وإليها عبر الأردنّ.

في الليلة الأخيرة قبل الموعد المقرّر لمغادرتي، داهمت قوّات الجيش الإسرائيليّ المدينة القديمة في نابلس، وأسفر هذا عن مقتل خمسة فلسطينيّين، وإصابة عشرة على الأقلّ. بالنسبة إليّ، كانت ليلة بلا نوم، مع معرفتي بما كان يحدث على بعد دقائق قليلة منّي.

في اليوم التالي، بعد العديد من المكالمات المحمومة مع شركة سيّارات الأجرة، الّتي أكّدت لي أنّها يمكن أن تخرجني من المدينة، غادرت. على عكس الفلسطينيّين الّذين يضطرّون إلى العيش تحت هذه الظروف كلّ يوم، كان لوقتي هناك تاريخ نهاية. والآن، تبقّى لديّ أن أدرس وأحلّل بياناتي. ومع ذلك، أعترف بأنّه لا يوجد دراسة، مهما كانت دقيقة، يمكن أن تلتقط ما يشعر به الفلسطينيّون الّذين يعيشون تحت الاستعمار العسكريّ الإسرائيليّ لأكثر من نصف قرن، خاصّة في لحظات مثل هذه.

 

عودة إلى ’الهدوء النسبيّ‘ 

ربّما يكون أكبر صراع في دوري باحثةً، هو تقديم توصيات حول ما يجب القيام به. بالتأكيد، ستساعد بعض المرافق الصحّيّة النفسيّة الإضافيّة الأشخاص على التعامل مع الصدمة. قد يقلّل الاستخدام المتزايد لمواعيد الرعاية الصحّيّة عن بُعْد من حاجة العديد من الفلسطينيّين إلى السفر من أجل الحصول على الرعاية. ستحسّن جهود التعزيز والوقاية من الصحّة الموجّهة صحّة الفلسطينيّين على نطاق أوسع، ممّا يجعل من الأقلّ ضرورة التفاعل مع نظام الرعاية الصحّيّة المتعطّل لديهم على الإطلاق. لم تكن السلطة الفلسطينيّة نشطة في بذل الجهود الّتي يمكن أن تحسّن صحّة الفلسطينيّين بالأدوات المحدودة الّتي لديها، بل زادت من ثروة النخبة، وزادت من ميزانيّتها الأمنيّة.

ومع ذلك، لا تتناول أيّ من هذه التوصيات العائق الأساسيّ أمام صحّة الفلسطينيّين ورفاهيّتهم وازدهارهم. وأشار تقرير حديث عن الصحّة النفسيّة للفلسطينيّين، "إذا كان المرض سياسيًّا، فإنّ الحلّ أيضًا يكمن في السياسة: إنهاء الاحتلال والقضاء على هياكل القمع وعدم المساواة".

بينما تركّز الحكومات الدوليّة، ومنظّمات الإعلام، وجماعات الضغط، على نتائج الانتخابات الإسرائيليّة الأخيرة، فإنّ القلق من زيادة القمع ضدّ الفلسطينيّين مبرّر، لكنّه يفشل في الاعتراف بشكل كامل بما حدث فقط في العام الماضي. نحن في حاجة إلى القلق حول ما سيأتي، لكنّنا لا يمكن أن نتجاهل العنف والضغط النفسيّ الثقيل.

انتهى إغلاق نابلس بعد عودتي إلى الولايات المتّحدة بوقت قصير، وقد تباطأ الآن القتل اليوميّ تقريبًا للفلسطينيّين، ولو قليلًا. الفلسطينيّون عادوا إلى ما يسمّيه بقيّة العالم "الهدوء النسبيّ"، لكن في الواقع هي ظروف لا يمكن أيّ شعب أن يقبلها، بل يجب ألّا يقبلها. يسطّح النظر فقط إلى الصحّة البدنيّة في إطار إطلاق النار في الضفّة الغربيّة أو حملات القصف في قطاع غزّة، تجربة العيش والعمل، واللعب، وتربية الأطفال، والذهاب إلى المدرسة، ومحاولة بناء حياة في مثل هذه البيئة من الشكّ والصدمة والعنف؛ بيئة استمرّت لعقود، وقد تستمرّ بسهولة لعقود أخرى.

 


 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا.