بلا هوادة: شهادة حارّة لمثقّف وقائد سياسيّ

باسل غطّاس في قاعة المحكمة الإسرائيليّة

أصدر المناضل الفلسطينيّ، الدكتور باسل غطّاس، مؤخّرًا، كتابًا بعنوان 'بِلا هَوادَة - في واقع فلسطينّي الداخل وفعلهم السياسيّ' (2017)، استعدادًا لدخوله الأسر بتهمة إسناده الحركة الأسيرة في معتقلات الاحتلال الإسرائيليّ، وذلك إثر محاولة تهريب هواتف نقّالة لأسرى من أجل تحسين ظروفهم اليوميّة.

يقع الكتاب الصادر عن "مكتبة كلّ شيء" في 270 صفحة من القطع المتوسّط، موزّعة على ستّة أبواب؛ مشروعنا القوميّ الديمقراطيّ، ومؤسّساتنا الوطنيّة، ونصون الهويّة، ولا نهاب... لا نلين (حول الملاحقة السياسيّة)، وعين عليهم (حول المشهد السياسيّ الإسرائيليّ)، والاقتصاد في سياقنا الاستعماريّ.

يضمّ الكتاب 45 مقالة نشرها غطّاس على مدار 10 سنوات، من 2007 حتّى 2017، يقدّم عبرها شهادته على هذه الحقبة السياسيّة، أحداثها وأسئلتها وتحدّياتها، بصفته قائدًا في حزب التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ، وعضوًا في 'الكنيست' عنه، ثمّ عن القائمة المشتركة، وكونه ناشطًا في مؤسّسات المجتمع المدنيّ ومجال الاقتصاد.

تنشر فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة تقديم الباحث أنطوان شلحت للكتاب، وذلك بإذن من مؤلّفه الذي يقبع في سجن 'جلبوع' الآن.

***

شهادة حارّة لمثقّف وقائد سياسيّ 'لا يهاب ولا يلين' | أنطوان شلحت

ثمّة خيط رفيع يربط أبواب هذا الكتاب جميعها، حتّى وإن اختلفت تواريخ كتابتها وتعدّدت مناسباتها العينيّة. هو ذاك الخيط الناجم، بصورة رئيسيّة، عن قراءة واقع الفلسطينيّين في أراضي 48 على مراحله كافّة، بدءًا بتشكّله بعد نكبة 1948، وصولًا إلى آخر المستجدّات والتطوّرات المرتبطة به عشيّة الانتخابات الإسرائيليّة العامّة عام 2015، وما أعقبها، ولا سيّما إقامة القائمة المشتركة، إلى جانب محاولة استشراف إحالاته من خلال ترجيح المشتهى بحجج مقنعة ومنمّقة، نظريًّا وعمليًّا.

ولعلّ الناظم الأساس لهذه القراءة، تشريح السيرورتين السياقيّتين الأكثر رئيسيّة، المرتبطتين بهذا الموضوع:

أوّلًا: سيرورة علاقة فلسطينيّي أراضي 48 بالقضيّة الفلسطينيّة في شتّى المراحل التي مرّت بها، حتّى المرحلة الراهنة.

تصميم عبد طميش

ثانيًا: سيرورة كونهم مواطنين في دولة قامت على أنقاض وطن هم سكّانه الأصلانيّون، ولا تنفكّ تمارس بحقّهم سياسة إقصاء تتّسم بطهوريّة عرقيّة متصاعدة، أكثر فأكثر، منذ نحو عقديـن.

ويقدّم المؤلّف الدكتور باسل غطّاس، النائب السابق عن حزب التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ، ولاحقًا عن القائمة المشتركة، قراءته لهذا الواقع ولما حفّ ويحفّ به، لا من منظور الباحث المراقب من 'برج عاجيّ'، ولا أقول هذا من منطلق الاستخفاف بهذا الطراز من الباحثين، بل إنّه يعرضها ويستخلص النتائج من موقع الباحث الذي كان شريكًا فاعلًا وحيويًّا، معظم سنوات عمره، في ميدان الكفاح الوطنيّ، منذ أن تبلور وعيه القوميّ وهو فتيّ، وقرّر أن ينخرط في العمل السياسيّ والحزبيّ، الأمر الذي يضفي على قراءته قيمة مضافة، ويؤهّلها لأن تكون مدعّمة بوقائع تلك التجربة الكفاحيّة الطويلة والحافلة بالمنجزات الشخصيّة والعامّة. ومعروف أنّ هذه التجربة آلت به، نهاية المطاف، إلى أن يدفع ثمنًا يعدّ الأشدّ بَهْظًا، من جرّاء حقيقة لا يجوز تغييبها، مفادها أنّ عناصر التحدّي الكامنة فيها، هنا والآن، تشتمل على ما يتيح إمكان الارتقاء بهذا الواقع، سعيًا لتجاوز العوامل المعيقة التي تجعله مراوحًا في  مكانه، أو مستنقعًا في ركوده، بخلاف ما يطمع الأعداء. وبالتالي، فإنّ معاقبة صاحبها بزجّه في غيابة السجن، عبر ملاحقة ممنهجة، كانت بمثابة تصعيد لنزعة محاربة القابضين على جمر هذا التحدّي، على الرغم من الليل الطويل الذي يرخي بظلاله على القضيّة الفلسطينيّة، وعلى أوضاع الخراب العامّة في المنطقة العربيّة المحيطة. وليس بغير دلالة أنّ تفجّـر ما اصطلحنا على تسميته 'قضيّة باسل غطاس'، جاء بعد مرور عقد من الزمان على نفي المفكّـر عزمي بشارة، الذي أضاء شعلة هذا التحدّي مع زملاء كثيرين، كان غطّاس في مقدّمهم، وإن دلّ هذا على شيء، فعلى مكامن قوّة التحدّي وما يحمله من بشائر.

ويجوز تأطير هذا الكتاب، على صلة بما يحتويه، بأنّه من أوّل المراجع المهمّة التي تتعاطى، من مصدر أوّل، مع مدلولات ناجزة ومتوخّاة لتجربة القائمة المشتركة، وفق منظور حزب التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ، آخذين في الاعتبار أنّ هذا الحزب أمسى القوّة السياسيّة الأبرز بين صفوف الفلسطينيّين في أراضي 48، وبالأساس على صعيد خطابه الذي أصبح عنوان المرحلة التالية لاتّفاق أوسلو في مسيرة كفاح هؤلاء الفلسطينيّين، سواء في المستوى الوطنيّ العامّ، أو في مستوى الصراع مع إسرائيل والدولة اليهوديّة. ولا بدّ، في هذا الصدد، من الاتّفاق مع المؤلّف في رؤيته لظهور تلك القائمة بأنّه انتصار لفكرة المشروع الجماعيّ للعرب الفلسطينيّين، سكّان البلد الأصلانيّين وحاملي المواطنة الإسرائيليّة، مقابل يهوديّة الدولة، وعنصريّتها، وقمعها، وتمييزها، وإقصائها، والذي يشكّل، بدوره، البديل الديموقراطيّ الوحيد لها، ويحمل في طيّاته إمكان المساواة الكاملة في دولة لكلّ المواطنين، والاعتراف بالحقوق الجماعيّة للأقلّيّة القوميّة، ولا سيّما حقّها في إدارة شؤونها.

ويمكن لدى مطالعة هذه الشهادات، استكشاف حرص المؤلّف على الربط الجدليّ بين الأفكار السياسيّة الكبرى التي يدفع بها قدمًا، وهموم المواطن اليوميّة النابعة، في معظمها، من سياسات التمييز، والتضييق، والإقصاء، هذا الربط الذي تُشتقّ منه البرامج العامّة والخاصّة للتيّار السياسيّ الذي ينتمي إليه.

تحمل بعض أبواب الكتاب طابع الشهادات الحارّة على أحداث مفصليّة عايشها المؤلّف من الموقع السالف، ما يعين القارئ على إدراج معان ودلالات جوهريّة مرتبطة بتلك الأحداث، ضمن سياقيها الفكريّ والسياسيّ. ويمكن لدى مطالعة هذه الشهادات، استكشاف حرص المؤلّف على الربط الجدليّ بين الأفكار السياسيّة الكبرى التي يدفع بها قدمًا، وهموم المواطن اليوميّة النابعة، في معظمها، من سياسات التمييز، والتضييق، والإقصاء، هذا الربط الذي تُشتقّ منه البرامج العامّة والخاصّة للتيّار السياسيّ الذي ينتمي إليه.

كما يمكن تلمّس عدم التلهّي بالنتائج عن الأسباب، ما يفضي إلى ضياع البوصلة. وفي مجرّد هذا ما يؤدّي إلى حصيلة تسمية الأشياء بمسمّياتها الحقيقيّة، والتي تتراءى ميزةً تطبع بميسمها الكتاب كلّه.

يكرّر المؤلّف، خلال هذا، لازمة فحواها أنّه لا يمكن تناول موضوع العلاقة المتبادلة بين الفلسطينيّين في أراضي 48 ومؤسّسات الدولة العبريّة، خارج السياق الاستعماريّ للصراع، وعلينا أن نتّفق، بادئ ذي بدء، أنّنا نعاني من سياسة الاضطّهاد والتمييز العنصريّ في الحقوق، والإقصاء التامّ من كلّ مؤسّسات هذه الدولة، ليس لأنّنا أقلّيّة مهاجرة مثلًا، أو لأسباب تتعلّق باللون، أو مكان السكن، أو الدين، إنّما لأنّنا جزء من الشعب الفلسطينيّ، وهو الشعب الأصلانيّ الذي تعرّض، ولا يزال، لأعتى مشروع استعمار استيطانيّ إحلاليّ في التاريخ الحديث، وهذا يعني أنّ علاقات القوّة والسيطرة القائمة بيننا والأكثريّة اليهوديّة، نابعة من نتائج هذا المشروع الاستعماريّ المستمرّ، ومرتكزة عليه.

ويتعيّن القول إنّ في الكثير من القراءات المغلوطة، أو المغرضة، لهذا الموضوع، والتي تتواتر في الآونة الأخيرة، ما يؤكّد على أهمّيّة هذه اللازمة وضرورتها في الآن معًا.

فضلًا عن كل ما تقدّم، يحمل الكتاب الكثير من الرسائل ذات المغزى، المتعلّقة بالمستقبل انطلاقًا من الحاضر، وأرى وجوب التوقّف بإسهاب عند رسالتين منها:

أوّلًا: يقرّ المؤلّف لدى الحديث عن القضيّة القوميّة للفلسطينيّين في أراضي 48، بأنّ حالتنا، هنا، تتّسم بصعوبة خاصّة، تحيـل إلى الصعوبة ذاتها التي تواجهها الأحزاب والحركات العاملة في مجموعات قوميّة لم تحقّق تقرير المصير بعد، وتعيش على هامش المواطنة في دول قامت نتيجة مشاريع استعماريّة. لكنّه في الوقت عينه، يؤكّد على أنّ هذه الصعوبة لا تعفي أحدًا، ولا سيّما الأحزاب والحركات السياسيّة، من المسؤوليّة المحدّدة عن ربط القوميّ باليوميّ، والمبادرة إلى إبداع وسائل وأدوات للعمل المجتمعيّ، التنمويّ بخاصّة، للتجاوب مع آمال المواطن وحلّ مشاكله.

يؤكّد على أنّ هذه الصعوبة لا تعفي أحدًا، ولا سيّما الأحزاب والحركات السياسيّة، من المسؤوليّة المحدّدة عن ربط القوميّ باليوميّ، والمبادرة إلى إبداع وسائل وأدوات للعمل المجتمعيّ

ويبسط في هذا المجال الأخير، رؤيا كاملة متكاملة، يقف في صلبها كلّ ما يتعلّق بالأوضاع الاقتصاديّة - الاجتماعيّة التي يقع هؤلاء الفلسطينيّون تحت وطأتها، من خلال سطوة حالة ذاتيّة تستلزم الفهم والمواجهة، ولا سيّما في ظلّ وجود أوساط سياسيّة انتهازيّة تركب كلّ موجة تجابهها في الشارع، وتتحدّث عن أنّ العمل على قضايا المواطنين الاقتصاديّة يجب أن يكون عملًا على قضايا الناس اليوميّة، مثل الخدمات، بعيدًا عن السياسة. وقد خلص من هذا إلى الاستنتاج بأنّ هؤلاء في تعاملهم الانتهازيّ، إنّما يكرّسون الدعاية الصهيونيّة الرسميّة حول الفصل بين القضايا السياسيّة وقضايا الناس، ويؤكّدون التهمة لأعضاء الكنيست والأحزاب بأنّهم يعملون في السياسة فقط، ويهملون قضايا الناس اليوميّة والحياتيّة.

وإلى جانب ذلك يلفت إلى أنّ برنامج التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ لمعالجة قضايا الاقتصاد العربيّ في الداخل، وإن اشتمل على تفاصيل تؤثّر في المصالح الصغيرة وفي المبادرات الفرديّة، إلّا أنّه ينبع من رؤيا وطنيّة وقوميّة شاملة لمستقبل الأقليّة القوميّة، ولحقوقها في وطنها أقليّةً أصلانيّة. وهذا البرنامج يشتمل على محورين رئيسيّين؛ الأوّل المحور المطلبيّ المتعلّق بوضع الأولويّات، وتغيير السياسات، وتخصيص المصادر والبنى التحتيّة. والثاني محور البناء الذاتيّ، والتأسيس لمبادرات عمليّة على مستوى التخطيط والتنظيم، وصولًا إلى مبادرات عمليّة لتشكيل أطر للعمل الاقتصاديّ الجماعيّ داخل القطاع الخاصّ العربيّ، وخلق العلاقات والشراكات مع أطر وأفراد في المنطقة العربيّة والعالم.

ثانيًا: على صعيد القضيّة الفلسطينيّة بعامّة، وارتباطها بالصراع مع إسرائيل المؤدلجة صهيونيًّا، يتوقّع المؤلّف أنّه سيكون لفلسطينيّي أراضي 48، في غضون السنوات المقبلة، دور مهمّ أكثر في الكشف أمام العالم أنّ إسرائيل، حكومةً ومجتمعًا، قوّضت بنزعتها الاستعماريّة الاستيطانيّة أيّ إمكانيّة حقيقيّة لإقامة دولة فلسطينيّة، حتّى بالحدّ الأدنى المقبول دوليًّا (خطوط 1967)، وأقامت نظام فصل عنصريّ على الأرض، على جانبيّ 'الخط الأخضر'، وتنكّل بالملايين من أبناء الشعب الفلسطينيّ يوميًّا، بقدر ما سيكون لهم دور متعاظم في إعادة بناء المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، مشروعًا مقاومًا للاستعمار والفصل العنصريّ.

شدّد مرّة أخرى على الرؤيا التي ترى وجوب أن تنأى القائمة المشتركة بنفسها عن أيّ عمليّة اندماج زاحف، عبر تجييش إنجازات صغيرة ثانويّة، من دون التقليل من أهمّيّة هذه الإنجازات، كونها تحمل تفاصيل قادرة على أن تُسعف في ترجمة مشروع فلسطينيّي أراضي 48

وهو يشير في العمق إلى أنّه، في كلّ الأحوال، سيبقى النقاش الرئيسيّ والحاسم في صفوف فلسطينيّي أراضي 48 في المرحلة المقبلة، ليس بين مؤيّدي حلّ الدولة الواحدة ومؤيّدي إقامة الدولة الفلسطينيّة المستقلّة ضمن خطوط الرابع من حزيران (يونيو) 1967، وعاصمتها القدس، إنّما بين أولئك المؤيّدين لخفض السقف بذريعة تبنّي 'خطاب اعتدال'، وللذهاب في اتّجاه إقامة ما يُسمّى 'معسكر ديمقراطيّ' من جهة، ومَنْ يريد طرح مشروع سياسيّ واجتماعيّ لفلسطينيّي أراضي 48، في مركزه المساواة التامّة في دولة المواطنين، واستعادة الوطن من خلال إقامة الحكم الذاتيّ، والشراكة العادلة والمتساوية في الأرض والموارد من جهة أخرى.

وعند هذا الحدّ، يشدّد مرّة أخرى على الرؤيا التي ترى وجوب أن تنأى القائمة المشتركة بنفسها عن أيّ عمليّة اندماج زاحف، عبر تجييش إنجازات صغيرة ثانويّة، من دون التقليل من أهمّيّة هذه الإنجازات، كونها تحمل تفاصيل قادرة على أن تُسعف في ترجمة مشروع فلسطينيّي أراضي 48، شعبًا أصلانيًّا يرى في المواطنة وسيلة لاستعادة الوطن بتحقيق المساواة الكاملة في دولة لكلّ المواطنين، وفي بناء المؤسّسات القوميّة الجامعة أساسًا لإدارة شؤونه ذاتيًّا.

ولا شكّ في أنّ هذا التوقّع المبنيّ على محاولة الاستشراف، هو في الجوهر عُصارة التجربة الكفاحيّة التي خاض المؤلّف غمارها ورغب في أن يشركنا بها، بغية تعميق وعينا إزاء المستقبل الماثل أمامنا، برسم ما بلغه الحاضر من مفترق.

أخيرًا؛ ما هو الإطار الجانريّ الذي يمكن إدراج هذا الكتاب فيه؟ هل يحمل خصيصة السيرة الفكريّة أو السياسيّة؟ إذا كان بإمكاننا أن نعدّه كذلك، فهل هي سيرة شخصيّة محضة أم إنّها تتعالق مع السيرة الجماعيّة للشعب الذي ينتمي إليه المؤلّف، ومع ظروف المكان والحيّز العامّ اللذين نشأ وعاش فيهما؟ يبدو لي أنّ من العسف أن أسقط مثل هذه الأسئلة على الكتاب. ويمكنني، مع ذلك، أن أجزم أنّه شهادة سبق أن وصفتها بأنّها حارّة، لمثقّف وقائد سياسيّ رفع نيابة عن شعب بأكمله شعار 'لن نهاب، لن نلين'، حتّى قبل أن يقع في مهداف السجّـان، وظلّ هذا الشعار ملازمًا له طوال حملة الملاحقة السياسيّة التي تعرّض لها، وتغيّت النيل منه وتجريم فكره السياسيّ.

ويطغى على شهادته العنصر الصميميّ الذي يقف في صلب فنّ المقالة بعامّة، منذ رائدها ميشال دي مونتين، وأقصد العنصر الذي يدمج بين فيض التأمّلات العميقة والتجارب الشخصيّة الصادقة

ويطغى على شهادته العنصر الصميميّ الذي يقف في صلب فنّ المقالة بعامّة، منذ رائدها ميشال دي مونتين، وأقصد العنصر الذي يدمج بين فيض التأمّلات العميقة والتجارب الشخصيّة الصادقة، كما أنّها شهادة خاصّة على قضايا مهمّة، ما يزال تأثيرها في الحاضر كبيرًا وحاسمًا، وهكذا سيظلّ في المستقبل.

بعد صدور هذا الكتاب بقليل، سيدخل باسل غطّاس إلى السجن، وأخاله سيردّد مع الشاعر ناظم حكمت بضعة أبيات كتبها عام 1949، قائلًا:

حين نلتفت لنلقي نظرة الوداع على المدينة

سنكون، يا حبيبتي، جديرين بأن نقول:

'رغم أنّك لم تجعلي وجوهنا تضحك،

فإنّنا بذلنا كلّ ما استطعنا بذله

في سبيل جعلك سعيدة فرحة.

مسيرتك نحو السعادة مستمرّة،

فالحياة مستمرّة...'

سيذهب غطّاس إلى ظلام السجن، لكنّ الشمس التي رنا هو وزملاؤه بأبصارهم نحوها ستظلّ ساطعة، ومسيرة الفلسطينيّين نحو الشمس ستبقى مستمرّة، فالحياة مستمرّة.

 

أنطوان شلحت

 

باحث في الشؤون الإسرائيليّة، وناقد أدبيّ أنجز مجموعة كتب في مجال النقد الأدبيّ، كما ترجم عن العبريّة عدّة كتب، بينها أعمال لكتّاب وأدباء إسرائيليّين. ينشر في الصحافة الفلسطينيّة والعربيّة. مدير وحدة 'المشهد الإسرائيليّ' ووحدة الترجمة في 'مدار'.