وعي الهزيمة: إعادة اختراع المعنى

عدسة حمدي أبو رحمة

 

«وعي الهزيمة - إعادة اختراع المعنى»، كتاب صدر مؤخّرًا للكاتب الفلسطينيّ أحمد زكارنة، عن «مكتبة كلّ شيء - حيفا».

ننشر في فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة مقدّمة الكتاب، بإذن من الكاتب.

***

 

يُعدُّ الوعي بالهزيمة عبر دورة السؤال والجواب، أحد أهمّ مفردات الخلاص من تعبيراتِها الظاهرة والمستترة؛ أوّلًا في المنتج الأدبيّ والمعرفيّ وانعكاساته على الواقع اليوميّ للأفراد والشعوب، وتاليًا في عمليّة الاستهلاك الّتي حوّلته من وعي بالهزيمة إلى هزيمة للوعي. ما أفرز العديد من الأزمات كنتاج طبيعيّ لما عُرِفَ لاحقًا بثقافة الهزيمة الّتي أدّت في أحد أخطر ملامح تجلّياتها إلى تصدّع معمار الوعي العربيّ بإقليميّة الصراع لا قطريّته.

من هُنا سنحاول في هذه القراءة لمشهد السرد الفلسطينيّ بعدَ ربع قرن من أوسلو، إخضاع ما عُرِفَ بوعي الهزيمة للمراجعة والتحليل، لفهم ما حدث تحديدًا على جبهة السرد، الّذي شهد تحوّلات عميقة لصالح هزيمة الهزيمة؛ على الرغم من كونها تحولات لم تفرز، حتّى اللحظة، سياسات رسميّة أو شعبيّة يُمْكِنُ أن تحوّل الهزيمة إلى انتصار.

هذه القراءات القائمة على مقاربات معرفيّة انطباعيّة، استفادت من عديد المدارس النقديّة، ولكنّها لم تقم اعتمادًا على أيّ منها، وهو ما يُمْكِن تتبّعه من خلال فصول أربعة تناولت بالترتيب: "الذاكرة وتجلّياتها - خطاب الهويّة وتحوّلاته؛ المكان ما بين التاريخ والجغرافيا؛ المحمول الثقافيّ ما بين الفرديّ والجمعيّ"، آخذةً بعين الاعتبار التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة الّتي فرضها اتّفاق أوسلو على الفلسطينيّين، وكافّة التحوّلات الراهنة والمثيرة في المنطقة ال~تي أثّرت على المزاج العام لشعوبها. مع مراعاة الفجوة القائمة ما بين أنظمة لها خطابها الذي تحرّكه مصالح خاصّة، وجمهور أو فئة من الشعوب لها تطلّعاتها وأهدافها، ولها وعيها الذي لا يرتضي الاستمرار في الزيف.

والوعي الحيّ جدير به أن يكون وعيًا بالهزيمة، إذا ما اعتبرنا أن ثقافة الهزيمة، هي ثقافة مصطنعة ووافدة استهدفت مخيال الهويّة في السرديّة العربيّة بشكل فرديّ وجماعيّ، بغية خلخلة المفاهيم والانتماءات، وقد نجحت إلى حدّ ما في الإطار النظريّ ومُنْتِجه النخبويّ السياسيّ؛ ما يعني أنّنا بالضرورة في حاجة ملحّة لمواجهة فكريّة باتت مفتوحة وحتميّة.

ولكي ننتج مجابهة واعية وفاعلة، ترتكز بالأساس على التشخيص والنقد، باتّجاه التفكيك والهدم، علينا أن نميّز جيّدًا بين النقد المسؤول وآخر سِمْتُهُ الفوضى؛ لأنّ الأوّل حاجة وضرورة تستهدفان خصائص الحالة، ورصد حركتها التاريخيّة ومركّباتها الذهنيّة والفكريّة للمكوّنات المجتمعيّة كافّة، نحو ترسيخ وعي مقاوم.

فيما الثاني، أي فوضى النقد، لا يمكن إلا أن تُنْتِجَ خطابًا مأزومًا يعيد بشكل أو بآخر تدوير الثقافة ذاتها في حيّز التداول، وبالتالي التداعي في شِباكهِا، بما يحقّق الانتصار علينا مرّتين؛ مرّةً حين أُوْفِدَت إلينا، ومرّةً حين حاولنا منازلتَها باستخفاف ورعونة، فتمكّنت منّا. 

تصميم الغلاف: خالد أحمد زكارنة

 

بهذا المعنى أقدّم هذه القراءة لا لأسجّل تناولي جزءًا مهمًّا من السرد الفلسطينيّ المكتوب في العقد الأخير بعد مخاض طويل أدخلتنا إليه أوهام السلام، ولكن لنلاحظ معًا كيف بدتْ القضيّة الفلسطينيّة في وعي السارد الفلسطينيّ الراصد لكلّ هذه التحوّلات العميقة الّتي مرّت بها وعليها، والّتي عُرِفَت لردح طويل من الزمن بوصفِها "قضيّة العرب المركزيّة"، ما وضعها في إطار تعريف الصراع "العربيّ الإسرائيليّ"، الّذي تحوّل بعد أوّل اتّفاق سلام بين دولة عربيّة ودولة الكيان الصهيونيّ، هو اتّفاق "كامب ديفيد"، ليصبح الصراع "الفلسطينيّ الإسرائيليّ" أو "المسألة الفلسطينيّة" إلى آخره من مسمّيات لم تهدف يومًا لإيجاد حلّ شامل وعادل ودائم للقضيّة، كما ادّعى مُرَوِّجو السلام في المنطقة. فكان أنْ دوّن الشاعر والمثقّف المصريّ العروبيّ الوطنيّ الباقي أمل دنقل مقولته الخالدة "لا تصالح".

هذا الكلام لا يلغي أنّ مقولة "إزالة آثار العدوان" الّتي أطلقها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، عشيّة هزيمة العرب في العام 1967، والمعروفة بـ "النكسة"، لم تؤسّس لهذا التوجّه الّذي راح يتخلّى عن الفلسطينيّ رويدًا رويدًا، وانتباهة المثقّف الفلسطينيّ لهذا التخلّي مبكّرًا، مع احتفاظه بحبّه لعبد الناصر أو لفكرة الكرامة الّتي مثّلتها الناصريّة في حينه. فعلى الرغم من طلب الزعيم "إزالة آثار العدوان"، أدركت صرخة شاعرنا الكونيّ الباقي محمود درويش، على أطلال اجتياح بيروت "يا وحدنا"، تاليًا لما أطلقه من قبل غسّان كنفاني حين دقّ جدران الخزّان؛ تناقضَ هذا الشعار مع مقولة التحرير، ممّا يشير إلى أنّ معالجات السارد الفلسطينيّ أيضًا تدرّجتْ وتنوّعت إلى الحدّ الذي يدفعنا لمعاينة وعيه في ظلّ ما تعرّض له الشعب العربيّ من غزو ثقافيّ زائف.

وحين يكون الحديث عن زيف الوعي بمعناه الفكريّ لا اللغويّ، يصبح السؤال هل المقصود هو تزييف وعي السياسيّ أم المثقّف؟ خاصّة وأنّ المثقّف الكبير والمهمّ في تاريخ التدوين الفلسطينيّ إدوارد سعيد، قد ناقش مطوّلًا علاقة المثقّف بالسلطة، فهلْ مَنْ سقط طوعًا هو المثقّف أم السياسيّ؟ سؤال أظنّ أنّ العديد من الأعمال الأدبيّة المتناولة في هذه القراءة، تؤكّد إجابته الواضحة، والماثلة في كون السواد الأعظم من المثقّفين الفلسطينيّين قد تشبّثوا بأمل الانتصارِ ولو بعدَ حين؛ فكان أن تموضعوا حول الذاكرة الفلسطينيّة بوصفها المكوّن الأساس لتناول التاريخ الفلسطينيّ من جهة، ومحاولة تحصين الوعي الفرديّ والجمعيّ للعربيّ قبل الفلسطينيّ من جهة أخرى، نحو ترسيخِ وعي جمعيّ فاعل يُمْكِنُهُ أن يُسهم في صياغة خطاب مقاوم، يعمل بقصد على ما يمكن أن نُسمّيه بـ "هزيمة الهزيمة"، باتّجاه إعادة اختراع المعنى.

 

 

أحمد زكارنة

 

 

كاتب وإعلاميّ فلسطينيّ، يعمل مذيعًا في «الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون الفلسطينيّة»، صدرت له مجموعة شعريّة بعنوان «ما لم أكنه» بالإضافة إلى كتاب «وعي الهزيمة». كتب العديد من المقالات في الشأنين الأدبيّ والسياسيّ في عدد من الصحف العربيّة، وواظب على كتابة عمود سياسيّ في صحيفة «الحياة الجديدة».