الخيال ... نافذة الواقع الموصدة

تحتاج المعرفة العربيّة إلى الكثير من الدّراسات التّأصيليّة، الّتي يمكن من خلالها إعادة قراءة مدوّنة التّراث العربيّ من جديد، بصورةٍ أكثر حياةً عمقًا؛ إذ لا زال الباحث في النّصّ التّراثيّ العربيّ يواجه عوائقَ كثيرةً تؤخّر مشوار بحثه، وتقدّم موادَّ معرفيّةً منفصلةً عن جذورها، وتعجز عن تقليص المسافات المعرفيّة الّتي تفصله، اليوم، عن كلّ ما قدّمه الموروث الفكريّ والأدبيّ منذ أكثر من ألف عامٍ مضت.

فلا عجب أن يجد الباحث في مدوّنة الفكر والنّقد العربيّ المعاصرة الكثير من المفاهيم الّتي لم تلقَ حقّها من التّأصيل؛ ما يجعل الحاجة ملحّةً لمثل هذا النّوع من البحوث، لا سيّما تلك الّتي تعين في الوقوف على مفاهيم يمكنها أن تشكّل بابًا جديدًا لقراءة المحمول الثّقافيّ التّاريخيّ للحضارة العربيّة بمستوياته كافّة؛ الأدبيّ منه، والدّينيّ، والأسطوريّ، والحضاريّ.

واحدٌ من هذه المفاهيم الّتي لم تلقَ حقّها من البحث والتّأصيل عربيًّا، مفهوم 'الخيال'، بكلّ ما يحيل إليه من دلالات، فرغم ما قدّمته دراسة هذا المفهوم، إلّا أنّه ظلّ عالقًا في مساحة الكامن والمعتم من الثّقافة العربيّة، ولم يفتح أحدٌ الباب عليه بما يكفي ليكون مثار طرحٍ جدليٍّ عميق، يمكّن الباحث والمفكّر، اليوم، من الوصول إلى قعر الكثير من النّصوص التّراثيّة العربيّة، واستخراج خباياها العالقة في المسافة اللّغويّة، والقطيعة الدّلاليّة، ومشوار الحذف والإضافة الّتي خاضته المعارف لتصل إلينا اليوم منزوعةً من سياقها التّاريخيّ والحضاريّ الّذي تكوّنت فيه.

يثير مفهوم الخيال الكثير من التّساؤلات لدى إعادة الحفر في جذوره وتشكّله، مفهومًا لغويًّا له أغراضه الفلسفيّة والأدبيّة والفكريّة، فما الّذي يمكن استقراؤه عند البحث في مفهوم الخيال؟ وما أثر ذلك في مدوّنة التّراث العربيّ؟ وهل يمكن للخيال أن يكون نافذةً على الواقع بكلّ متغيّراته؟ وإلى أيّ حدٍّ يمكن للخيال أن يهدم الكثير من التّصوّرات الّتي وصلت إلينا عبر المشافهة، والتّدوين المتأخّر؟

ظلّ الخيال يمتزج بالواقع ويأخذ طريقه إلى التّاريخ، حتّى بات جزءًا لا يمكن التّملّص منه، وبات يملك براهين تجعل منه واقعًا تاريخيًّا في زمنٍ مضى، وربّما بات من غير المقبول إعادة البحث في حقيقته أو جذوره، أو حتّى باتت السّلطة المعرفيّة تقف بالمرصاد لكلّ من يحاول عزل الخيال عن الواقع في قراءة التّاريخ.

يتشكّل ذلك في إطار المخيال الإنسانيّ بصورةٍ تلقائيّةٍ ليس لها تفسيرٌ إلّا في فضاء النّصّ الشّفهيّ، وشغف الرّواية الّذي لا زال إلى اليوم يشكّل حضوره، حتّى على تاريخنا المعاصر؛ فالحدث اليوم يمتزج بالخيال إلى الحدّ الّذي يبني حقيقةً مرادفةً للواقع، الأمر الّذي يجعل استنطاق الخيال مهمّةً في غاية الحذر وغاية الجهد لما يمكن أن تحدثه من هدمٍ في معمار الكثير من النّصوص التّاريخيّة الرّاسخة في ثقافتنا العربيّة.

لذلك؛ لا يمكن النّظر إلى الخيال بوصفه تلك المساحة المشرعة أمام العقل الإنسانيّ الّذي يتصرّف فيها بالحدث، وأبطاله، والصّورة وجوهرها، فحسب؛ فهو في المقابل الوثيقة الحيّة على الواقع بكلّ ما يشتمل عليه من محمولٍ لغويّ، وتاريخيّ، وفكريّ، وأسطوريّ، وغيره، إذ ينطلق الخيال في حقيقته من الواقع ولا يمكن أن يبني صورةً، مهما جمح وكان مغايرًا، من دون الاستعانة بأدوات الواقع وما تقدّمه.

بمعنى أدقّ، إنّ الخيال أشبه بالانتقال بالحدث أو المعلومة من النّقطة ألف إلى النّقطة باء، الّتي تمثّل مستوى الخيال؛ حينها لا يكون للنّقطة باء أيّ وجودٍ لولا النّقطة ألف الّتي انطلق منها الفعل التّخييليّ؛ بذلك يصبح الخيال مؤشّرًا ساطعًا إلى الواقع، وخيطًا يمكن من خلاله الوصول إلى كوامنَ تاريخيّةٍ لا يمكن الوصول إليها بالوثيقة الحيّة، أو النّصّ المحكم، والموثوق.

أثار هذا الطّرح بصورةٍ مشابهة، المفكّر الإسلاميّ محمد أركون، في كتابه 'القرآن من التّفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدّينيّ'، إذ كانت دعوته واضحةً نحو قراءة النّصّ القرآنيّ من جديد، مع الالتفات إلى مجمل المتغيّرات التّاريخيّة والفكريّة واللّغويّة الّتي تفصلنا عن تاريخيّة الوحي.

لهذا ينحّي الفكر العربيّ المعاصر في سياقاته المفروضة والأكثر انتشارًا مهمّة العقل، ويترك الحدث التّاريخيّ قائمًا بما يشتمل عليه من خيالٍ وواقع، فيصبح النّصّ وثيقةً قابلةً لتشكّل تشريعًا، أو عرفًا، أو وثيقةً، أو مكوّنًا ثقافيًّا اجتماعيًّا، وهو في الواقع يحوي في طيّاته الكثير من الخيال الّذي فرضه العقل العربيّ الشّفهيّ طوال مشواره الحضاريّ.

ليس هذا ما يشكَل خطورةً عند الحفر في مفهوم الخيال وقراءة تاريخه وسيرته في الذّهنيّة العربيّة؛ إنّما ما يمكن أن يحدثه الإمساك بمفهوم الخيال، وفق منهجٍ تحليليٍّ علميّ، إذ حينها تنتفي الكثير من الرّوايات الّتي وصلتنا، وتصبح فعلًا أدبيًّا جماليًّا منزوع الوظيفة التّاريخيّة والقدسيّة، وفي المقابل تتقلّص المسافة الّتي تفصلنا عن عقلنا التّاريخيّ؛ إذ يحيل الحفر في الخيال إلى الكثير من المنظومات الفكريّة والوقائع التّاريخيّة الحقيقيّة، فتعود مفاهيمُ كثيرةٌ إلى الحياة من جديد؛ مثل، الرّمز، والمجاز، والأسطورة، والحكمة، والمثل، والغنائيّة الأدبيّة، وغيرها من المفاهيم.

ربّما يحقّ لمنظومة السّلطة القائمة على الكثير من النّصوص التّاريخيّة أن تخشى من هذا النّوع من البحث والتّأصيل، فمفهومٌ مثل الخيال قادرٌ على قلب الهيمنة التّاريخيّة الّتي فُرضت عبر أكثر من ألف عامٍ مضت، وظلّت تتصلّب حتّى بات هدمها يحتاج إلى الكثير من المعاول النّقديّة والعقليّة المتينة.