ظهور النزعة الإنسانيّة في الفكر الإسلاميّ

تعَرف النزعة الإنسانيّة 'الأنسيّة' على أنها اتجاه فكري عام تشترك فيه العديد من المذاهب الفلسفيّة والأدبيّة والأخلاقيّة والعلميّة، ظهرت واكتملت بوضوحٍ في عصر النّهضة. حيث تمثل النّزعة الإنسانيّة مذهبًا فلسفيًا أدبيًا ماديًا لاديني، يسعى للتأكيد على فردية الإنسان أمام سلطويّة الدّين ويُغلب وجهة النّظر الماديّة الدنيويّة على تلك الدينيّة التي شكّلت سلطويّة على الإنسان خلال العصور الوسطى، بإعتبارها نظام أو طريقة في الحياة تعطي الأولوية للإنسان وليس لأي قوى ميتافيزيقيّة أو إلهيّة. وتشكّل النّزعة الإنسانيّة تيارًا ثقافيًا ازدهر في أوروبا - في القرن التاسع عشر - وينظر إلى العالم بالتركيز على أهمية الإنسان ومكانه فى الكون.

وفي سياق البحث عن مدلولات حول مفهوم النّزعة الإنسانيّة أو 'الإنسيّة' في الوسط الإسلاميّ، وبالعودة إلى ما كتبه الدكتور محمد أركون حول بدايات هذا  المفهوم في الثّقافة العربيّة أو كما أسماه *السياق الإسلاميّ   يتبين أن جذور وأسلاف هذه النّزعة تبدو واضحة في الفكر الإسلاميّ القديم في القرن الرّابع هجريّ.

ويظهر من خلال ما كتبه الباحثين العرب، منهم الدّكتور والباحث المصريّ، عبد الرحمن بدوي، والجزائريّ، محمد أركون، حول تأصيل تلك النزعة في التراث الإسلاميّ القديم دون الوقوف في هذا السّياق التّاريخيّ التأصليّ. 'حيث يظهر أن الإنسيّة لم تكن وليدة عصر النهضة أو القرون الوسطى على إعتبارها حق مشاع في الفكر الإنسانيّ منذ قديم الزمان وإن تعددت أشكال التّعبير عنها. وظهور تلك النّزعة في بعض النّصوص والمراسلات والمعاهدات التي كتبها بعض الخلفاء بعد ذلك، ومنها عهد الأمام علي بن أبي طالب إلى عامله المقترح على مصر، مالك الأشتر، والتي جاء فيها 'الرعية صنفان، إما أخ لك في الدّين، وإما نظير لك في الخلق'.[1]

وبدت هذه النّزعة محطة جدليّة في بين الفرق الإسلاميّة التي ظهرت في تلك الفترة، يتمثل التّيار الأوّل 'الأشاعرة' بتناولها لجميع المبادئ الإسلاميّة التّقليديّة، حيث يكون العقل بالنسبة لها أداة طيعة في خدمة النّص وهي بعيدة عن النّزعة الإنسانيّة، ولذلك ضعفت عندها الثّقة بالإنسان وبفكرة الإبداع والتّقدّم وبقيت في تدهور وانحطاط حتى القرن التّاسع عشر واستيقاظ العرب والمسلمين على صدمة الحداثة الأوروبيّة.      

أما التّيار الثّاني 'المعتزلة ' الذين يقولون بأولوية العقل على النّقل فقد مثل حركة التّنوير العربيّة الإسلاميّة في العصر الوسيط، تلك الحركة التي تحتاج إلى قراءة متأنية لمسيرة العقل والعقلانيّة في الإسلام وكيفية تشكّل هذا العقل وتطوره وانشغالاته وتأثيره في تطور الحضارة العربيّة الإسلاميّة وازدهارها. ففي عصر التنوير الإسلاميّ كان للعقل مكانة خاصة في الفكر الإسلاميّ لا مثيل لها في النصوص المتأخرة. فبالرغم من أن الصّياغة اللغويّة الخاصة بالقرآن تختلف كثيرًا عن الصّياغة التي جاءت بها الأحاديث في علم الكلام والفلسفة، فإن مفهوم العقل في القرآن 'هو عقليّ تجريبيّ'[2].

وما جاء في القرآن من عبارات من نوع 'أفلا تنظرون' أو 'أفلا تعقلون' لا تعني الدّعوة الى استخدام العقل، أو التّحليل المفهوميّ، أو المنطقيّ للظواهر، لأن مثل هذا التحليل إنما ظهر لاحقًا، أي بعد دخول الفلسفة الإغريقيّة إلى العالم الإسلاميّ، وهي المرحلة الثّانية التي شهدت نشوء العقلانية وازدهارها، عندما دخل العقل الإسلاميّ ولأوّل مرة في مواجهة مباشرة مع العقل الفلسفيّ والعلميّ الإغريقيّ، الذي انبثق من خلال الصّراع مع المعرفة الأسطوريّة وضدها. وهو ما جسده فكر المعتزلة التحليليّ المستقلّ الذي أسس البدايات الأولى لنشوء الفلسفة الإسلاميّة.

وبالرغم من وجود تشابه بين النّزعة التّنويريّة التي ظهرت في أوروبا مع عصر النّهضة وبين النّزعة التّنويريّة التي ظهرت عند مفكري العرب والمسلمين في العصر الوسيط، علينا التفريق بين تيارين فكريين ما زالا يتصارعان منذ القرون الوسطى حتى اليوم. يتمثل التيار الأوّل بالنزعة اللاهوتيّة المركزيّة التي أتخذت من النصوص الدينيّة المقدسة مرجعية لها، والثاني بالنزعة الإنسانيّة المتمركزة على الذّات والتي تجسدت لدى البعض الأخر من الفلاسفة العرب والمسلمين، وأتخذت من فلسفة أفلاطون وأرسطو طاليس مرجعيتها. غير أن عصر النّهضة الأوروبيّة هو الذي تجرأ على إحداث قطيعة مع علم اللاهوت وحقق للفلسفة استقلاليتها الكاملة، وهذا ما لم تستطع عليه النّزعة الإنسانيّة العربيّة داخل السّياق الإسلاميّ فعله. وبالعودة إلى الفلاسفة العرب المشهورين كالفارابي وإبن رشد كانا خاضعيين للمرجعية الدّينيّة وذلك بالرغم من تأثرهم بالفلاسفة اليونانين. ولذلك، كما يقول أركون، 'فإن عصر التّنوير الأوروبيّ هو أوّل عصر حقق الاستقلاليّة الكاملة للعقل بالقياس إلى النقل'[3]

 

[1] محمد رسول، رسول، جذور النزعة الأنسية في القرن الأول الهجري، بحث محكم ، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2015.

* استخدم الدكتور محمد اركون مصطلح 'السياق الأسلامي ' أو 'الوسط الأسلامي' لكي يبين مدى التعددية العرقية - الإجتماعية - الثقافية، لذلك الفضاء الواسع المدعو بالإسلام ... للمزيد أنظر كتاب 'نزعة الأنسنة في الفكر العربي جيل مسكويه والتوحيدي' ص9  .

[2] اركون، محمد،  نزعة الأنسنة في الفكر العربي، دار الساقي. بيروت، 1989.

[3] الحيدري، أبراهيم، النزعة التنويرية في فكر المعتزلة ، مجلة إيلاف، العدد 4535، لندن، 2013.

*طالب ماجستير في معهد الدوحة للدراسات العليا