جينيه وغويتسولّو: المتاهة وطن المتشكّكين

جان جينيه يتوسّط مجموعة من الفدائيّين

كتّاب كثر انحازوا للقضايا الإنسانيّة بشكل صريح وملموس، لكن ثمّة أسماء اتّخذت لنفسها مواقف ترتبط بسيرتها الحياتيّة، ونحن لا نستطيع تجاهل تلك المواقف حين نذكر تلك الأسماء. في مقابل تلك المنافي القسريّة الّتي تنتجها الحروب، والّتي يفرضها الاحتلال والاضطّهاد، ثمّة منافٍ اختياريّة يرسمها أصحابها لأنفسهم في سبيل حرّيّة ما.

تأخذه الحياة الأولى إلى منحًى آخر، أو حياة أخرى، وقد تضعه أمام مواقف وخيارات يتبنّاها لتقوّض أشياءه السّابقة. هكذا فعل جان جينيه، المتشرّد الهارب والخارج من الإطار إلى مخيّمات اللّجوء، رغبة منه في الحياة إلى جانب المشرّدين مثله، وانتصارًا من قبله للعدالة.  لم يعرف أصله كطفل، ظلّ لقيطًا يبحث عن هويّة، فعاش مشرّدًا في بلاد كثيرة. تحوّل إلى سارق، لكنّه انتهى (شهيدًا)، كما وصفه جان بول سارتر في كتاب عنه بعنوان: 'ممثّلًا وشهيدًا'.

'الطّريق إلى البيت أجمل من البيت،' ارتبطت تلك العبارة بجينيه كما ارتبطت سيرته المشرّدة باسمه، فصارت جزءًا من حياة كاتب وشاعر ومسرحيّ فرنسيّ عاش مع الفدائيّين.

الشّرّ

كان الشّرّ أو التّمرّد، فلسفة جينيه في الهرب، فهو كما قال: 'عليّ أن أعيش الشّرّ إلى درجة يكون من المستحيل ترويضي فيها، وإعادتي إلى صلب القوى الاجتماعيّة الّتي تجسّد الأخير. لا يعني هذا بالنّسبة لي أن أعيش الشّرّ حتّى لحظة موتي، إنّما أن أعيش بطريقة تجعلني لا أجد ملجأ إلّا في الشّرّ وليس في الخير إطلاقًا.'

ربّما كان هذا الشّرّ في نظر سارق 'أزهار الشّرّ' لبودلير، بمثابة موقف أيضًا من النّظام المجتمعيّ الظّالم؛ وفي ذلك يقول جورج باتاي ضمن دراسات كتابه، 'الأدب والشّرّ': 'أقرُّ بأنّ جينيه كان يرغب في أن يصبح مقدّسًا. كذلك أعترف بأنّ ’ميله‘ نحو الشّرّ قد تجاوز همّ المصلحة، وقد رغب بذلك من أجل قيمة روحيّة، وقد قاد تجربته دون أن يحيد عنها.'

خوان غويتسولّو

كانت نهاية الطّريق الّتي أبدعها جينيه تبنّيه لتنظيمين، الفدائيّون الفلسطينيّون وحركة الفهود السّود، فهو لا يعدّ السّياسة تلك الّتي يصنعها رجال السّياسة، بل تلك الّتي تصنعها الظّروف الاجتماعيّة محرّضة على اتّخاذ سياسة معيّنة، على حدّ تعبيره.

عُرِفَ جان جينيه بشكل واسع عندما دخل موسوعة 'البانتيون' لكتّاب القرن العشرين، إلّا أنّ جزءًا كبيرًا من أعماله ما زال يجهلها الباحثون والنّقّاد المتعطّشون للكشف عن أحد الكتّاب الأكثر جدليّة في القرن العشرين.

في لقاء مع سعد الله ونّوس، نُشِرَ في مجلّة الكرمل، يقول جان جينيه: 'غالبًا ما أقول لنفسي إنّه لا يتوجّب عليّ الكتابة على الإطلاق، أجمل أيّام حياتي عشتها بعيدًا عن الكتابة، عندما كنت أبحث عن الفعاليّة في حياتي، في حياتي اليوميّة، في وجودي بجزيرتين من الانسجام والسّلام، الأولى هي إقامتي مع الفلسطينيّين في قواعدهم، والثّانية مع الفهود السّود، كنت أعلم أنّني أقوم بما يتوجّب عليّ القيام به.'

ثقافةٌ في ضوء المنافي

في باريس، تعرّف خوان غويتسولّو، الكاتب الإسبانيّ الكتالانيّ، على جان جينيه، حيث ترك أثرًا بالغًا فيه، كتب عنه في كتابه 'صديقي جان جينيه'؛ فقد كان سي خوان، كما يسمّيه المغاربة، هاربًا أيضًا إلى المغرب، ليصير هناك إسبانيًّا مغربيًّا، باحثًا عن حرّيّة ما خارج الوطن.

الوطن كلمة لا يستسيغها غويتسولو المولود في إسبانيا عام 1931، كما يصرّح، فهو مزيج هويّات وثقافات. صار متمرّدًا منذ أدرك واقع بلاده، إسبانيا، فرفض النّظام، وهاجر إلى باريس. يقول غويتسولّو إنّ جينيه قلب حياته فيما بعد، إذ جعله يميّز بين الأدب والنّصّ التّجاريّ.

عاش غويتسولّو تجربة اغتراب طويلة، احتكّ خلالها بالثّقافات المختلفة والمتعدّدة. ما يغني الثّقافة هو أن تنهل من الثّقافات الأخرى كما يرى؛ فالمنفى بالنّسبة له جعله يرى ثقافته في ضوء المنافي، فصار صعبًا عليه تحديد هويّته، فهو ابن إسبانيا وباريس ومراكش وطنجة ونيويورك.

الرّغبة في معرفة الحقيقة جعلته شاهدًا على أكثر النّزاعات في العالم، كالبوسنة والهرسك، أمّا فلسطين، فقد زارها في الانتفاضة الأولى عام 1987. قطع الحدود مع التّلفزيون الإسبانيّ، ووصف بمقال أدبيّ معاناة الشّعب الفلسطينيّ تحت الاحتلال.

إضافة شيء جديد لشجرة الأدب، هو ما تطلّع إليه غويتسولّو، فقد قدّم شيئًا مختلفًا عمّا تلقّاه قبل أن يدخل الإبداع. أنا متشكّك، المتاهة وطن المتشكّكين، وهذا هو وطن غويتسولّو، كما يقول.