حركة العلم: ما بين الثّوريّة والأيديولوجيّة (2/3)

ينتقد جورج كانغيلام المدرسة الوضعيّة، كونها فلسفة للتّاريخ عمّمت قانون تعاقب النّظريّات حسب حركة تُحِلّ الصّواب مكان الخطأ؛ حيث يرفض طريقة كونت التّراتبيّة والخطّيّة لتصنيف العلوم، ويرى أنّ الأبستمولوجيا المعاصرة الرّافضة للنّظريّة السّابقة، تُحبّذ صورة السّطح بدلًا من صورة السّلّم.

يقترح كانغيلام تصوّر أبستمولوجيا القطائع في فترات تسارع العلوم؛ أمّا حركة الاتّصال، فإنّها ترافق البدايات البطيئة. ملخّص ما يصل إليه كانغيلام أنّه لا يوجد تاريخ نهائيّ ومكتمل للفكر العلميّ، وهي دعوة لإبقاء تاريخ العلوم بوصفه ممارسة وليس نظريّة.

تاريخ مأساويّ

لا يبدو تاريخ العلوم -بحسب كانغيلام - مغامرة سعيدة، إنّما تاريخ دراميّ ومأساويّ؛ وبروح نتشويّة عَدَّ العلم نشاطًا أو قيمة بشريّة مجاورة لأنشطة وقيم بشريّة أخرى. لقد نزل العلم عن عرش التّفكير الأرقى للبشريّة، وارتضى أن يكون نمطًا للمعرفة إلى جانب أنماط أخرى. خطاب يشبه الخطابات المختلفة، وهي رؤية ما بعد حداثيّة خَطِرة، لا تُجبر العلم على التّواضع إلّا بقدر ما تدفع أنماط تفكير خرافيّة للتّقدّم، لكنّها بعد اليوم لم تعد خرافيّة بما فيه الكفاية؛ لأنّ نقيضها، 'العلم'، ليس علميًّا بما فيه الكفاية.

كارل بوبر

لا يدفعنا ذلك للمساواة بين الأنماط، فبعد أن تخلّينا عن التّفكير بتراتبيّتها، وألقينا خلف ظهرنا كلّ براديغم التّراتبيّة، لم يكن ذلك بهدف إحلال براديغم المساواة مكانه، ومع أنّ السّطح يتيح هذا التّصوّر (تصوّر مفتوح لأنماط التّواصل مع العالم ومعرفته)، إلّا أنّ العلم يبقى يقظًا في تفعيل حركته نحو مطاردة الخطأ. إنّ العلم في تصوّره الأخير، هو ما يمكن ضحده، إنّها مقارباتنا القابلة للتّكذيب -بحسب كارل بوبر-؛ فطريقة الاشتغال الجديدة للعلم تجعل ميدانه مُحدّدًا بشكل معقول، فكلّ الجمل الّتي لا يمكن تكذيبها، يجري ترحيلها لميدان آخر غير ميدان العلم، أمّا ما هو مرشّح للصّمود في ميدان العلم، فهو ذاك النّوع من الجمل المصاغة بشكل يتاح معه فحصها، وبالتّالي القبول بها أو تكذيبها.

نظرة جديدة إلى العالم

في كتابه 'بنية الثّورات العلميّة'، وضع توماس كون بعض الأفكار حول طبيعة حركة العلم، وذهب إلى أنّها ليست واقعّية على نحو مطلق، فلا تمثّل الطّبيعيّة المرجع الأخير والأوحد لها، إذ ثمّة عوامل تقع خارج العلم نفسه تحدّد حركته؛ فلكي يستقرّ التّفكير العلميّ حول مركزيّة الشّمس مع كوبرنيكس، لم يكن ينتظر الأخير نفسه؛ فالفكرة ذاتها كانت موجودة سلفًا، لكنّ ظروف قبولها تغيّرت؛ فظهور حقيقة علميّة جديدة ليس وليدًا لاجتهاد العلم نفسه فقط، بل ومحكوم أيضًا بالسّياق التّاريخيّ الّذي يحتّم اعتماد تفسير ما وغضّ الطّرف عن آخر، وهذا ما يدفعه لأخذ 'البراديغم' أو الإطار النّاظم نموذجًا تفسيريًّا في حركة العلم.

توماس كون

يؤكّد كون على عدم تراكميّة العلم، فليست حركته مسارًا خطيًّا متّصلًا مؤلّفًا من مراحل وأجزاء وإنجازات لا انقطاع بينها؛ إنّها ثوريّة الطّابع، وكلّ صورة لها نموذجها الخاصّ المستمدّ من نظرة جديدة إلى العالم، والمتجسّدة في الحقل المعرفيّ لِمُتَّحَدِ العلماء أو المهنيّين. كما أنّها حركة تاريخيّة تؤكّد وجود أزمات في النّشاط العلميّ، على غرار ما يحصل في العمل الاجتماعيّ والسّياسيّ. تحدث الأزمة عندما يفاجأ العاملون في الحقل المعرفيّ بظاهرة غير متوقّعة، ولا قدرة للعلم العاديّ على شرحها؛ فيولد تيّاران: تيّار يتمسّك بالبراديغم القديم، وآخر يتحوّل إلى نظرة جديدة، منتجًا براديغم جديدًا، ويكون الحاصل من هذه العمليّة ثورة علميّة؛ فبداية التّغيير في العلم لا تكون إلّا بحصول نظرة جديدة إلى العالم نفسه.

العلم السّويّ

وبالرّغم من أنّ كون يقول بالثّورات العلميّة، إلّا أنّه يدرك فترة 'العلم السّويّ'، والّتي تتميّز بتواصل وتجانس أفكارها ومعارفها في صورة 'براديغم' أو 'قالب انضباطيّ مشترك'، أي جملة من المعارف والأفكار الّتي يتّفق ويجمع عليها المجتمع العلميّ، مثل: الظّواهر الجديرة بالدّراسة وكيف نفسّرها، والإشكالات الجديرة بالبحث وما معنى حلّ إشكاليّة ما... الخ. فليس الاشتغال بالعلم اشتغالًا حرًّا ينطلق من تساؤل بريء لحظة اللّقاء بالظّاهرة، إنّه برنامج عمل حُدِّدَ مسبقًا، وعُرِّفَت وفقه مكوّنات الظّاهرة، وما الّذي يمكن اعتباره موضوعًا للدّرس، وبأيّ الأدوات يمكن مقاربة ذلك. هذا 'النّحو الخفيّ' للنّشاط العلميّ يجعله عرضة لأيديولوجيا فترة 'العلم السّويّ'.

لويس بيير ألتوسير

 وتنتهي لاحقًا فترة 'العلم السّويّ' حيث تظهر تجارب جديدة تناقض نتائجها النّظريّات السّابقة؛ ونتيجة لذلك، تسود فترة إرهاصيّة تتوّج بثورة علميّة، وتفتح الطّريق  لظهور 'علم ثوريّ' يتغيّر معه البراديغم، وبعد استقرار الجديد فإنّه يشتغل بنفس منطق القديم؛ أي يتحوّل تدريجيًّا لعلم سويّ، مشكّلًا بعد فترة ما أطلق عليه ألتوسير اسم 'الأيديولوجيا العلميّة'.

الأيديولوجيا العلميّة

يرى ألتوسير أنّ 'الأيديولوجيا العلميّة' نسق من الممارسات والتّصوّرات، غايتها الاستحواذ المعرفيّ على الموضوع الحقيقيّ بواسطة موضوع المعرفة. ليست الأيديولوجيا خارج العلم، بل توجد داخل الخطاب العلميّ نفسه، وتستخدم سلطتها الرّمزيّة في فرض هيبتها. يكفي أن تستخدم خطابًا علميًّا، لا لتقمع ما هو غير علميّ فقط؛ بل ولتقمع حركة العلم نفسها، وهذا ما يجعل كانغيلام متّفقًا مع ألتوسير، إذ يذهب إلى أنّ 'الفكر العلميّ في سيرورته التّاريخيّة صادف الخطأ، ولم يتعرّف عليه بصفته كذلك'، وعدم التّعرّف على الخطأ حين يظهر هو مهمّة الأيديولوجيا القادرة على تزييف الواقع أو الاستمرار على تقديمه بوصفه ثابتًا خَبِرَتْهُ، ولديها أدوات تفسيره مسبقًا.

تؤدّي 'الأيديولوجيا العلميّة' ما يؤدّيه 'العائق الأبستمولوجيّ' عند باشلار، إذ أنّه قبل نشوء 'الأيديولوجيا العلميّة' كان ثمّة علم، وقبل كلّ علم كان ثمّة 'أيديولوجيا علميّة' شرطًا أو عائقًا أبستمولوجيًّا وظيفته إحداث أزمة معرفيّة، عن طريق تجاوزها ينشأ العلم. هذا يعني أنّ لياقة العلم في القفز، تشترط وجود الأيديولوجيا محفّزًا وشرطًا لهذا القفز.

جورج كانغيلام

إلّا أنّه ليس علينا أن نسترخي في تصوّر العلم الّذي يتوسّط آيديولوجيّتين، كونه هو نفسه منزّهًا عن الأيديولوجيا. لكنّ العلم، بحكم تعريفه وليس بحكم حقيقته، ينمو بمطاردة أيديولوجيّته، وكأنّ حركته قائمة على تصفية الّذين يمجّدوه، وأنّ بقاءه حيًّا مرهون بتحطيمه المستمرّ لأتباعه

التّعميم

إنّ الأيديولوجيا العلميّة أخطر من 'اللّا علم'، لأنّها تبرّر موقفها بأدلّة ظاهرها علميّ؛ ويُدلّل كانغلام على ذلك بنظريّة التّطوّر الّتي كانت في نشأة الأنواع الحيوانيّة، ومن ثمّ عُمّمت على مجالات مختلفة، مثل: الأخلاق والاجتماع والسّياسة (كما نجد عند سبنسر).

اقرأ/ي أيضًا: حركة العلم - جنين يصعد سلّمًا؟! (1/3)

يمكننا أن نرى هذا التّعميم تبريرًا للمجتمع الصّناعيّ ضدّ التّقليديّ، والمناهض بدوره للمجتمع الاشتراكيّ؛ فبما أنّ المجتمعات ذاتها تقف على سلّم متصاعد الدّرجات نحو التّقدّم، يقف المجتمع الصّناعيّ على درجة أعلى من المجتمع التّقليديّ فيه، فإنّ العلم ذاته (حين تأدلج أو حين استخدمته الأيديولوجيا) يحوّل هيمنة الدّول الرّأسماليّة لمقولة علميّة في مواجهة غيرها؛ تمامًا كما كرّست 'النّظريّة الخلويّة' النّزعة الفرديّة داخل المجتمع الرّأسماليّ.

وبذلك يمكننا القول -مع كانغيلام- إنّ أيّ علم يتحوّل إلى أيديولوجيا إذا عُمِّمَتْ نتائجه على مجالات أخرى مجاورة ليست من اختصاصه.