مكتبة الأقصى؛ كنز ثقافيّ بين أيدٍ لا تقرأ

جانب من مكتبة المسجد الأقصى | عدسة نمر زيدان

تقتصر معرفة كثر منّا بالمسجد الأقصى على أهمّيّته الدينيّة في الإسلام، بينما تغيب عنّا قيمته الثقافيّة الفريدة من نوعها؛ فالمسجد الأقصى ومنذ بنائه على يد الأمويّين، كان مؤسّسة ثقافيّة علميّة يقصدها آلاف الطلبة من مختلف البلاد الإسلاميّة طلبًا للعلوم، وتحديدًا الدينيّة واللغويّة، يدرسونها على علماء اتّخذوا من ساحاته ومصاطبه منابر لنشر علمهم.

لا نستطيع أن ننكر تراجع دور المسجد الأقصى الثقافيّ والعلميّ في عصرنا الحديث، بفعل إنشاء المدارس والجامعات التي غيّرت استراتيجيّات وطرق التعليم، إلّا أنّنا، وإن دقّقنا جيّدًا، سنجد أنّ المسجد الأقصى ما زال يحتفظ بمكانة ثقافيّة كبيرة، من أهمّ ملامحها مكتبته بقسميها؛ المكتبة الختنيّة، ومكتبة مصلّى النساء.

موت وإحياء

يعود تاريخ خزائن الكتب في المسجد الأقصى إلى القرنين الثالث والرابع الهجريّين على التوالي، فقد ذكر ابن الفقيه (ت 340 هـ/ 951 م) في كتابه 'البلدان' الذي ألّفه عام 290 هـ/ 902 م، أنّ للأقصى في زمنه ستّة عشر تابوتًا (صندوقًا) للمصاحف المسبلة. كما جاء في 'العقد الفريد' لابن عبد ربّه (ت 368 هـ/ 951 م) أنّ في المسجد الأقصى سبعين مصحفًا. وقد تطوّرت خزائن الكتب في المسجد الأقصى وتوسّعت على مدار القرون الماضية، أو تراجعت وانكمشت؛ ولعلّ أقسى ضربة تعرّضت لها كانت زمن الاحتلال الفرنجيّ عام 492 هـ/ 1099 م، حيث دُمّرت مدارس عديدة وأُحرقت المصاحف والكتب.

أمّا في العصر الحديث، فيعود تأسيس مكتبة المسجد الأقصى إلى عام 1922، وذلك على يد المجلس الإسلاميّ الشرعيّ الأعلى برئاسة مفتي فلسطين، الحاجّ أمين الحسيني، حيث كانت تحمل اسم 'دار كتب المسجد الأقصى' وكان مقرّها القبّة النحويّة، ثمّ نُقِلَت بعد ذلك إلى المدرسة الأسعرديّة، ثمّ إلى المتحف الإسلاميّ عام 1929، حيث بقيت مخزونة فيه ومغلقة مدّة خمسة عقود، إذ أعاق احتلال فلسطين على يد الإنجليز ثمّ العصابات الصهيونيّة تطوّرها. وعام 1977، أعادت دائرة الأوقاف إحياءها، حيث نُقِلَتْ مجموعة المكتبة من المتحف الإسلاميّ إلى الطبقة الأرضيّة من المدرسة الأشرفيّة الأثريّة، لتستقرّ أخيرًا في مبنيي المدرسة الختنيّة ومسجد النساء منذ عام 2000.

120 ألف كتاب

تحتوي مكتبة المسجد الأقصى، حاليًّا، أكثر من 120 ألف كتاب، تتنوّع موضوعاتها بين العلوم الدينيّة، والتصوّف، وعلوم العربيّة، والتاريخ، والجغرافيا، والسياسة، والأدب، وعلم الاجتماع، وغيرها.

وقد جعل القائمون على المكتبة كتبها ومخطوطاتها في ثلاثة أقسام؛ الأوّل المكتبة العامّة، وتضمّ نحو 110 ألف كتاب في العلوم المختلفة، ومكتبة الأطفال التي تضمّ أكثر من 9 آلاف كتاب، ومكتبة المخطوطات التي تضمّ 1143 مخطوطًا، تعود في غالبيّتها إلى الفترة العثمانيّة.

يقول مدير مكتبة الأقصى، حامد أبو طير، إنّ المجلس الشرعيّ الإسلاميّ الأعلى كان قد طلب من جميع الدول العربيّة والإسلاميّة، في عشرينات القرن الماضي، تزويد مكتبة الأقصى بالكتب والمراجع العلميّة، وفعلًا حدث ذلك، إلّا أنّها لم تُسْتَغَلّ جيّدًا رغم كلّ المحاولات طوال العقود الماضية، حتّى تحديثها وافتتاحها الرسميّ عام 2013، إثر سلسلة عمليّات ترميم.

ما يميّز مكتبة المسجد الأقصى عن المكتبات الأخرى، وفق أبو طير، أنّها تعدّ الأغنى من بين مكتبات فلسطين بكتب العلوم الدينيّة، وفق شهادات أساتذة الجامعات والباحثين، بالإضافة إلى مجموعة 'فلسطينيّات'، والتي تضمّ كتبًا وموسوعات غنيّة حول تاريخ فلسطين وكلّ ما يتعلّق بها.

مخطوطات

يعيدك قسم المخطوطات في مكتبة المسجد الأقصى مئات السنين إلى الخلف، إلى عصر ما قبل الطباعة، حيث كانت تُكتب المصنّفات بخطّ اليد وتُنسخ على يد العلماء وطلبتهم أو الورّاقين.

حين تقف على المخطوط تبهرك أوراقه الصفراء والبنّيّة التي قاومت الزمن لتحتفظ بقيمتها العلميّة والتاريخيّة؛ ورغم أنّك قد لا تستطيع فهم الخطّ المكتوب به، إلّا أنّك ستستمتع بحمله وتقليب ورقه، وستزيد متعتك حتمًا عندما يقرأ لك منها المسؤول عن المخطوطات في مكتبة الأقصى، يوسف الأوزبكي، بلغة عربيّة رصينة وفخيمة.

يقول الأوزبكي إنّ المسجد الأقصى يضمّ 2200 مخطوطة؛ منها ما هو في المتحف الإسلاميّ، ومنها ما هو في مركز ترميم المخطوطات، والقسم الأكبر في المكتبة؛ إذ أُخْرِجَت المخطوطات من المخازن ورُمِّمَ ما يحتاج إلى ترميم وترتيب، وهي تحفظ في غرف ذات درجة حرارة مناسبة للحفاظ على المخطوطات.

ويضيف الأوزبكي أنّهم يساعدون الباحثين في تحديد المخطوطات التي يحتاجونها في أبحاثهم، كما أنّهم يوفّرون خدمة 'الدلالة'، أي إرشاد الطالب أو الباحث إلى مكان المخطوطة التي يريد، سواء كان في المسجد الأقصى أم في مكتبات أخرى خارجه.

كتاب الطفل

أمّا قسم الأطفال فيضمّ كتبًا علميّة مبسّطة خاصّة بالأطفال، وكذلك قصصًا متنوّعة، وُضِعَت جميعها في قاعة ذات ألوان جاذبة للأطفال وتوفّر لهم أجواء تشجّعهم على القراءة، كما توفّر المكتبة لهم من يساعدهم على القراءة وفهم المقروء.

وتنظّم المكتبة بالتعاون مع المدارس في مدينة القدس، دورات وندوات وورش عمل بهدف تعليم الأطفال وتشجيعهم على القراءة، لا سيّما المدارس التي لا توجد فها مكتبات، فتفتح المكتبة أبوابها لطلبة تلك المدارس الذين يقضون ساعات فيها.

رغم المعيقات

نظّم طاقم مكتبة المسجد الأقصى مؤخّرًا، يومًا مفتوحًا في المكتبة (25 آب 2016)، لتعريف الناس بأقسامها والكتب التي تحتويها، ولإطلاعهم على قيمتها الثقافيّة، ولتشجيع زوّار المسجد الأقصى وأهالي القدس على القراءة، وفق مدير المكتبة، حامد أبو طير. وقد شمل اليوم المفتوح عدّة فعاليّات، من ضمنها قراءة القصص للأطفال وتعريفهم بمعالم المسجد الأقصى.

ويوضح أبو طير أنّ آخر الإحصائيّات تشير إلى أنّ معدّل قراءة المواطن العربيّ في السنة هو نصف صفحة، وهذا رقم محبط جدًّا ويعبّر عن مشكلة حقيقيّة لا بدّ من حلّها لاستعادة مجدنا بين الأمم. ويشير أبو طير أيضًا إلى ضرورة الانكشاف على المخطوطات العربيّة المنتشرة في مكتبات العالم، والتي تُقَدّر بـ 6 مليون مخطوط، وهو عدد يدلّ على مجد ثقافيّ وعلميّ انكمش شيئًا فشيئًا، وعلينا استعادته بالقراءة والبحث العلميّ.

تقول المقدسيّة أمّ أسامة، إنّها كانت تعلم بوجود مكتبة في المسجد الأقصى، لكنّها عندما دخلتها ورأت الكمّ الهائل من الكتب فيها تفاجأت كثيرًا، إذ إنّ زيارتها للمسجد الأقصى اقتصرت على الصلاة وقراءة القرآن فحسب، مضيفة أنّها ستزورها أسبوعيًّا مع بدء العام الدراسيّ بصحبة أولادها، ليقرؤوا فيها وينجزوا أبحاثهم المدرسيّة، إذ توفّر المكتبة أيضًا الحواسيب لإعداد الأبحاث والوصول إلى المراجع الإلكترونيّة.

في ظلّ قلّة المقبلين على القراءة، وشُحّ الزيارات إلى المكتبات، وكذلك سياسات الاحتلال التي تمنع أساتذة وطلبة الجامعات الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة من الوصول إلى القدس، وتراجع البحث العلميّ، بالإضافة إلى غياب التمويل اللازم للتطوير والتحديث، تُعاني مكتبة المسجد الأقصى من الإهمال والتهميش، إلّا أنّها، رغم كلّ ذلك، تصرّ على الحياة والنّهوض، وهو ما يسعى إليه طاقمها متحدّيًا المعيقات كافّة.