دين ورأس مال: عن هندسة الصهيونيّة للحكاية التوراتيّة

نهالال: نموذج المدينة الحدائقيّة الاستيطانيّة


'وكان في نيّة داوود أبي أن يبني هيكلًا لاسم الربّ إله إسرائيل [8] فقال له الربّ: نويت في قلبك أن تبني هيكلًا لاسمي، فحسن ما نويت [9]'.

(العهد القديم، سفر الملوك الأوّل).
 

من القصص الطريفة التي تمثّل سعي النخبة اليهوديّة لتعيين مكان للحلم التوراتيّ، شراء الكاتب والدبلوماسيّ اليهوديّ الأميركيّ، موردخاي مانويل نوا (Mordecai Manuel Noah)، قطعة أرض على جزيرة صغيرة في نهر نياغرا، وذلك عام 1825. سمّى موردخاي قطعة الأرض 'أراراط'، تيمّنًا بالجملة التوراتيّة التي تقول: 'واستقرّ الفُلْكُ في الشهر السابع، في اليوم السابع عشر من الشهر، على جبال أراراطَ') تكوين 8 : 4(، لكنّ القدر لم يجعل لنوا (نوح) من اسمه نصيب، ولم تنجح فكرته في استيعاب اليهود على جزيرة في نهر نياغرا.   

شكل مسلٍّ: أرض قديمة جديدة

على نهج الروايات الطوباويّة ذائعة الصيت نهايات القرن التاسع عشر، كتب ثيودور هرتزل (Theodor Herzl) روايته الوحيدة 'أرض قديمة جديدة' (1902)، وفيها يسرد رحلة مع صديق إلى جزيرة من جزر المحيط الهادي. يمرّ الصديقان في طريقهما إلى الجزيرة بفلسطين، ثمّ يقضيان عشرين عامًا على جزيرة بعيدة عن كلّ أشكال الحضارة، لتنتهي الرحلة بعد ذلك في فلسطين، حيث يكتشفان، بدهشة الباحث عن كنز قديم، أنّ 'مجتمعًا جديدًا' نجح في تحويل مزيج من الرمل والماء الراكد إلى جنّة كوزموبوليتانيّة. في رسالة إلى اللورد روتشيلد (lord Rothschild)، رافقت نسخة من روايته الوحيدة، قال هرتزل: 'أدرك أنّهم سيقولون إنّني حالم كبير، لكنّني اخترت هذا الشكل المسلّي من الكتابة لأنّني أريد أن يقرأني الناس'.

فيديو لمخطّط مدينة 'أراراط' التي أرادها موردخاي نوا وطنًا لليهود | Mapping Ararat

 

لا شكّ في أنّ ذلك 'الشكل المسلّي'، وعلى الرغم من الجدل الذي أثاره في الحركة الصهيونيّة حينها، ساهم في إعادة إحياء الأسطورة الدينيّة اليهوديّة في قلب القارئ الغربيّ، ومنح مجموعة من القصص والأغنيات النائمة في المعابد القديمة، بركة العقل الغربيّ المشبع برومانتيكيّة روحيّة ورثها من القرن الثامن عشر، إلى جانب ثقة باذخة بالعلم رسولًا 'متعلّمًا'، لتحقيق العدالة الاجتماعيّة، والسياسيّة، والجماليّة أيضًا، في 'العالم المكتشَف'. 

وعد سليمان ليس كافيًا

لم يكن انتقال الحلم الهرتزليّ من زمنه الطوباويّ إلى زمنه الفيزيائيّ الملموس حدثًا سياسيًّا فقط، بل قفزة جماليّة، من مجاز حكاية قديمة إلى حقيقة معماريّة على الأرض. كرونولوجيًّا، وعبر نصوص أدبيّة، وفنّيّة، ومخطّطات هندسيّة طموحة، سبق الجماليّ السياسيّ في وضع المجاز الحكائيّ في مستوى ديكارتيّ معقول. في سياق تلك القفزة، حُمّل النصّ الصهيونيّ بمعان ومفاهيم أثيرة لدى الحداثة الفكريّة الغربيّة وأجوائها الكولونياليّة الاستشراقيّة السافرة/ المسافرة .

في 'أرض قديمة جديدة' تتراقص في أفق المتوسّط بيوت هيرتزل 'الأنيقة على جبل الكرمل'، و 'الشوارع المعبّدة والنظيفة'، حيث يتحرّر تراب فلسطين من 'القذارة، والفوضى، والروائح الكريهة التي طالما أزعجت الحجيج من الديانات كافّة'.

'أرض قديمة جديدة' لثيودور هرتزل (1902)

كان توفير إحداثيّات هندسيّة للحكاية التوراتيّة، عمليًّا، وعلى الأرض، عملًا معقّدًا؛ فلم يكن خطاب سليمان إلى الشعب في سفر الملوك معلنًا 'نيّة داوود أبي أن يبني هيكلًا لاسم الربّ إله إسرائيل' كافيًا للسيطرة على المعنى الجيولوجيّ الفلسطينيّ في التلّة، والجبل، والبحيرة، ولم يكن استحسان الربّ للنّيّة كفيلًا بتوفير طاقة مستدامة لماكينة أسطورة تحويل شعب متخيّل إلى شعب أصيل. كان على المخيّلة الصهيونيّة أن تترجم المجاز إلى مفهوم فنّيّ – عقليّ أوّلًا، قبل أن تتبع ذلك بصناعة الأنثروبوسين الإسرائيليّ المنشود لشعب مطارد يسكن في حلم 'العام القادم في القدس'.

من كائن أسطوريّ إلى مهندس أسطورة

لم تنجح مدرسة الصهيونيّة العمّاليّة في تمكين العَمالة اليهوديّة من احتلال الطبيعة بعد الهجرتين الأولى والثانية، أو من التخلّص من عقدة المنفى عبر الحلم الرومانسيّ الرفيع، ذلك الذي بشّر به اشتراكيّون بسحنة رأسماليّة كولونياليّة.

تعاملت تلك المغامرة الرومانسيّة الاستشراقيّة مع الفلسطينيّ صاحب الأرض، بصفته جزءًا من المشهد التخييليّ للمكان، بينما حوّلت اليهوديّ من كائن حكائيّ مغامر إلى حقيقة على الأرض) كما اتّفق لبطل قصّة روبنسون كروزو، لمؤلّفها دانييل ديفو، والتي تناولها إدوارد سعيد بالتحليل في كتاب 'الثقافة والإمبرياليّة'). بذلك، وبمفارقة مدهشة، تحوّل اليهوديّ من كائن أسطوريّ إلى مهندس أسطورة، لكنّ الأسطورة الجماليّة التي خُطّط لها لم تكن قادرة على الثبات حينها، لأنّها لم تكن معقلنة بشكل كافٍ.

بناء مستوطني الهجرة الرابعة (1924 - 1931) | G. Eric & Edith Matson Photograph Collection

اتّخذ حلم المدينة اليهوديّة أبعادًا أكثر قوّة وصلابة مع الهجرتين الرابعة والخامسة في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، حين ابتعدت البيئة الرومانسيّة الفلاحيّة عن المركز، واحتلّت مفاهيم عمرانيّة برجوازيّة واجهة الشكل العمرانيّ الصهيونيّ، مقتربة أكثر من مغازلة المدن والضواحي، مغازلةٌ تشبه رواية هيرتزل الطوباويّة، مع تعديلات معماريّة أوروبيّة المنشأ، ووجه حداثيّ تجريديّ يبحث عن الحدّ الأدنى من الزخرفة.      

تل أبيب: المدينة البيضاء

نشوء تل أبيب عام 1909 ضاحية، ثمّ مدينة مستقلّة ذات نمط معماريّ غربيّ في العشرينات، سيطر جماليًّا واجتماعيًّا على مركزيّة 'الكيبوتس'، والذي بقي هاجسًا أيديولوجيًّا فاتنًا في أعمال شعراء وروائيّين إسرائيليّين حتّى الوقت الحاضر. تعامل مثقّفون مهاجرون مع تل أبيب بصفتها مركزًا حضاريًّا ناشئًا، في أمسّ الحاجة إلى مفكّرين فيهم روح المدينة الأوروبيّة وحلمها المستقبليّ.

لكنّ ذلك المركز لم يمتلك الرافعة الأخلاقيّة المناسبة لاستدراج مفكّر أوروبيّ يهودي رفيع مثل والتر بنجامين (Walter Benjamin)، الذي رفض دعوة أحد أصدقائه، غيرشوم شولم (Gershom Scholem)، مبرّرًا ذلك بـ 'الأيديولوجيا العنصريّة' للدولة الناشئة.

بيت سوسكين في تل أبيب: صمّمه زئيف ريتشير على طراز الباوهاوس (1933) | Israel Tours

رسمت 'المدينة البيضاء' في تل أبيب المبنيّة على طراز الباوهاوس (Bauhaus) الألمانيّ شكل المدينة اليهوديّة الحديثة. التركيز على وظيفة المبنى وإهمال خصوصيّات العلاقة مع الجغرافيا المحيطة والمشهد العامّ، منح الباوهاوس القدرة على استيعاب أذواق وأمزجة أجيال مهاجرة متنوّعة، كما قدّم، بشكل ما، أطروحة تقول للسكّان الأصليّين إنّنا أحضرنا معنا، إلى جانب معدّاتنا الزراعيّة المتقدّمة، أفضل ما قدّمه العقل الأوروبيّ من تجريد، حيث الزخرفة الحاكمة هي الجمع بين أشكال هندسيّة محدّدة، وفق نظرة عقلانيّة - شموليّة - وظيفيّة للحيّز المكانيّ.

المدن الحدائقيّة

في ثلاثينات القرن العشرين، لم يكن الجدار، بحرفيّته، طريقة التعامل الوحيدة أو الجوهريّة مع كابوس صاحب الأرض، بل احتلّت مفاهيم عمرانيّة مثل المدن الحدائقيّة، حيّزًا مهمًّا في بناء علاقة ما مع الطبيعة الفلسطينيّة، علاقة في جوهرها وظيفيّة وهندسيّة الطابع.

حاولت المخيّلة الصهيونيّة أن تمزج ثلاثة معالم أساسيّة في تكوينها الحضريّ السياسيّ: الجدار/ الكيبوتس/ المدينة، بواسطة مفهوم عمرانيّ حديث يُدعى 'المدن الحدائقيّة'Garden Cities) ).

من مقالة حول كوفمان ومخطّطاته، نشرتها 'الجيروزاليم بوست' (1958) | موقع كوفمان 

تبنّى المهندس والمصمّم ريتشارد كوفمان Richard Kaufman)) أفكار المهندس البريطانيّ أبنزار هاورد (Ebenezer Howard)، الذي صمّم أحياءً عديدة على هذا الطراز في إنجلترا وأمريكا. خدم ذلك المزيج قرى استيطانيّة جديدة أنشئت في مرج ابن عامر، بالإضافة إلى مدن جديدة مثل هرتسليا والعفّولة.

من علامات المدن الحدائقيّة الأساسيّة إحاطة المدينة بحزام أخضر، ويمنع البناء خارج هذا الحزام. ويكون اتّساع وامتداد هذا النوع من المدن عن طريق إنشاء مدينة حدائقيّة أخرى مرتبطة بها ومنفصلة عنها.

الدين ورأس المال

للوهلة الأولى يبدو مفهوم المدينة الحدائقيّة مفهومًا جميلًا وصديقًا للبيئة، لكنّ السياق المؤسّس له لم يكن يومًا ما بريئًا، حتّى في مكان ولادته الأصليّ.

يذكر الباحث يوسف جبارين في كتابه 'التخطيط القوميّ في إسرائيل - استراتيجيّات الإقصاء والهيمنة'(2014)، أنّ عددًا من الباحثين الغربيّين استنتج أنّ نموذج مدن الحدائق أسهم في تكريس الفجوات الاجتماعيّة: 'طروحات التوزيع إلى مناطق وتوزيع السكّان والتشديد على البناء ’العقلانيّ’ و ’الصحّيّ’، أدّت، جميعها، إلى تعميق الفصل الإثنيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، وإلى ترحيل المجموعات السكّانية المخضعة، وإلى هدم ما عُرّف بأنّه ’أحياء فقر’، وإلى المسّ بالطبقات المستضعفة'.

'التخطيط القوميّ في إسرائيل' ليوسف جبارين (2014)

تشكّلت المدن الحدائقيّة الأولى خوفًا من 'خطايا المدن الكبيرة'، بتعبير الناقد الإنجليزيّ جون رسكن (John Ruskin). إحدى الحكم الشائعة، والتي تعكس خطابًا دينيًّا أخلاقيًّا مهمًّا في القرن التاسع عشر، في إنجلترا وأمريكا تقول: 'خلق الله القرية، أمّا الإنسان، فخلق المدينة'. زد على ذلك ضرورة حركة رأس المال الذي سعى إلى إسكان عمّال المصانع بالقرب من المراكز التجاريّة، على أطراف المدن.

الدين ورأس المال، إذًا، أسّسا للمدينة الحدائقيّة الجديدة، بطريقة تشبه إلى حدّ كبير تشكيل 'أرض قديمة جديدة'.

 

أشرف الزغل

 

شاعر وباحث من فلسطين. له أربع مجموعات شعريّة؛ 'دواليب الرماد' (بالاشتراك مع عبد الرحيم الشيخ)، و'نوم كما أرى'، و'صحراء في المترو'، و'صورة العائلة البشعة'. حصل على جائزة الكاتب الشابّ – حقل الشعر، من مؤسّسة عبد المحسن القطان عام 2001.