على هذا الجيل أن يصمت... يكفيه ما فعل

عمل الفنّان نزار علي بدر | Orca Books

 

لدى الحديث عن التاريخ، وتحديدًا تاريخ منطقتنا العربيّة من بعد "زوال الاستعمار"، وقيام ما يُسمّى "الدولة القوميّة" - الّتي لم تتحوّل إلى قُطْريّة إلّا بعد كامب ديفيد المصريّة؛ لأسباب لها علاقة بمراكز القوى ورأس المال الرمزيّ والمادّيّ - وجب علينا أن نمارس نقدًا تجاه هذا التاريخ؛ باعتباره جزءًا أساسيًّا من هويّتنا نحن العرب وفاعليّتنا، ولا سيّما أنّنا، كحضارة، فقدنا الفاعليّة التاريخيّة والحضاريّة، فمثلًا: هل تحرّرت فعلًا بلادنا؟ وهل الاستقلال يعني التحرّر؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ فما دلالة استمرار تسمية المنطقة بمصطلح إمبرياليّ "الشرق الأوسط"، الذي يستخدمه مَن نقصدهم في هذه السطور، في سياق تنوير تلك الدولة المستقلّة وعلمنتها وتحريرها، على نمط البترودولار واحتلال العراق؟ هكذا يكون سَوْق المقدّمات للوصول إلى النتائج، في ما يتعلّق بتاريخ المنطقة وخرائطها الجديدة والقديمة.

 

يقول قائل

يقول قائل إنّ سايكس – بيكو، الّتي أتى بعدها الكيان الصهيونيّ، أسّست لدول قوميّة وقُطْريّة، وسرعان ما حاولت تلك الدول التخلّص من آثار تلك الاتّفاقيّة، باندفاع ذي نفس قوميّ، بأن بدأت في تشكيل اتّحادات مختلفة لم يُكتب لجميعها النجاح (معايير النجاح تختلف، كما أنّ معايير الاستقلال والتحرّر تختلف أيضًا، فالسادات، مثلًا، يرى أنّه حرّر سيناء!)، على شاكلة "مصر وسوريا" و"العراق والأردنّ" و"مجلس التعاون الخليجيّ"، وإنّ كلّ هذه الاتّحادات وغيرها سقطت مع هزيمة 1967، الّتي حوّلت الأحزاب القوميّة إلى فلول لا وزن لها.

لكن ما الحاجة إلى المرور على كلّ ذلك؟

يقول القائل ذاته: إنّ الانكسار القوميّ الكبير في هزيمة 1967 النكراء، قضى على معظم هذا الحلم، وباتت الأحزاب القوميّة فلولًا لا وزن لها؛ ما فتح الباب على وسعه لفكرة أخرى تقوم على "الجامعة الإسلاميّة". وبدعم كلّيّ من الغرب الأوروبيّ والأمريكيّ، رُتّبت أنظمة عربيّة لخدمة هذا المشروع، الذي كان مبرِّرُه خلقَ جبهة يمينيّة موالية للرأسماليّة الغربيّة على حدود الاتّحاد السوفييتيّ، وكانت ثورة الخميني بترتيب معروف، لتعزيز الجبهة أمام طموح الاتّحاد السوفييتيّ في التمدّد والانتشار. وبدل التوحّد العربيّ على أساس قوميّ مطوَّر يحترم التنوّع، غُذِّيَت المجتمعات العربيّة، بل مجتمعات ما يُسمّى بالدول الإسلاميّة أيضًا، وقويت شوكة الإخوان المسلمين والسلفيّة بأطيافها، وجميعها تجتمع على فكرة التوحّد تحت شعار الخلافة الإسلاميّة؛ أي أنّها تسعى إلى حلّ الدولة القُطْريّة لحساب دولة عالميّة الطابع؛ وهذا يفسّر العلاقات الحميميّة بين حركة الإخوان ورعاة السلفيّات، والمجتمعات والتجمّعات الإسلاميّة في الشرق والغرب، وممّا يفسّر أسلمة المجتمعات العربيّة.

وبعيدًا عن مدى موضوعيّة ما قاله، يصل القائل نفسه إلى نتيجة مفادها:

باتت سايكس – بيكو "ما أحلاها!" مقابل هذا التغوّل الغربيّ الرأسماليّ، الّذي جعل من الحركات الإسلاميّة مخلب نمر لتمزيق الدول القُطْريّة، وإعادة رسمها وتسليمها للإسلام السياسيّ؛ وعلى ذاك فإنّ مهاجمة مُخْرَجات سايكس - بيكو الآن من السياسيّين والنُّخَب، لأيّ أسباب كانت، والعمل على إضعاف الدولة القُطْريّة، والاستهتار بفكرة حدودها، إنّما هو استسلام، واعٍ أو غير واعٍ، لمشروع الغرب والإسلام السياسيّ؛ فالطريق إلى وحدة الشعوب الناطقة بالعربيّة لن يكون عبر إثقال هذه الدولة، بأعباء وأدبيّات تتجاوز الواقع وتنفخ في الأوهام!

 

النزوح السوريّ

ولنضع الأمور في نصابها، علينا أن نوضّح سياق هذا الطرح قبل الردّ عليه، وهو الحديث عن أزمة النزوح السوريّ في منطقة درعا، وإغلاق الحدود الأردنيّة في وجه ضحايا نظام الأسد وأعوانه، وترك هؤلاء الضحايا لمصيرهم، فكلّ ما طُرح يُساق إلى القول إنّ النظام السوريّ وأعوانه، إنّما يحاربون الإرهاب والدواعش، وأنّ العالقين على الحدود ما هم إلّا إرهابيّون وقتلة، فرّوا من وجه النظام الممانع المقاوم الصنديد، الّذي يحارب بالنيابة عنّا جميعًا كلّ أشكال الإرهاب والتطرّف الإسلاميّ؛ وعليه فإنّ إغلاق الحدود في وجوههم لحماية الدولة القُطْريّة، الّتي باتت آخر ملاذاتنا في مواجهة خرائط تفتيت المنطقة باستخدام الإرهاب الإسلاميّ. لكن لنا وقفة في كلّ هذا:

1. نتّفق على أنّ سايكس - بيكو فتّتت الجغرافيا العربيّة وقطعت أوصالها، لكن لم ينشأ عن تلك الدول تحرّر ولا انتهى الاستعمار، إنّما خرجت علينا دول وظيفيّة وريعيّة، حوّلت الدولة إلى مزرعة يرثها أصحاب الجلالة والفخامة، وغيّرت أشكال الاستعمار، من استعمار مادّيّ مباشر إلى ما أسماه سارتر "الكولونياليّة الجديدة"، وهي شكل أكثر سيولة واستتباعًا من الكولونياليّة الكلاسيكيّة، وانبنت دول تفرض نمطًا أحاديًّا للهويّة، وفرّخت منظومة عنف وأيديولوجيا لا ينجو منها أحد.

2. إذا كانت اتّفاقيّة سايكس - بيكو قد زرعت في جسد عالمنا العربيّ كيانًا سرطانيًّا احتلاليًّا، هو إسرائيل، فهل يكون الخلاف مع الإسلاميّين (وهو خلاف سياسيّ/ براجماتيّ في النهاية؛ لأنّهم أبناء هذا المجتمع، وشكل لتعدّديّته المفترضة، حتّى وإن رفضوها هم) خلافًا وجوديًّا كما هي حال الثورات المضادّة (الّتي يصطفّ هؤلاء إلى جانبها)، جاعلًا من سايكس - بيكو "ما أحلاها!"؟ وإذا كان الأمر كذلك، على وضاعته، فما الفارق بين مَن يقول إنّ العداء مع الشيعة أو المسيحيّين أو غيرهم، أولى من العداء مع إسرائيل، وبين هؤلاء؟ ألا يبرّر هذا المنطق الأعوج سياسات التطبيع الّتي يهرول إليها بعض ولاة العهد حديثي العهد وغيرهم في بلادنا، بحجّة محاربة الإرهاب؟ وهم الّذي (خطأ غير واضح)يرى أصحاب القول أعلاه، أنّ تنامي السجون فرصة جيّدة للتنوير والعلمنة.

3. لا يعني نقد مفهوم الدولة وحدودها هدمها، إلّا في نظر مَن لا يقبل النقد بحجّة أنّ النقد هدم، كما علّمتنا أدبيّات الأنظمة العربيّة الرجعيّة، الّتي دأبت دائمًا على القول إنّ النقد مقبول ما لم يكن هدّامًا، فالدولة كيان رمزيّ، الهدف منه الإجراء، شريطة ألّا يتعدّى الإجراء حدود المجتمع والفرد، والمتّفق العامّ لهما، بناءً على المتخيّلات الاجتماعيّة للمجتمع ومنظومة قيمه، لا قيم المؤسّسة/ الدولة؛ فتلك الأخيرة تابعة للمجتمع، وليست مُشَكِّلة له. من هنا تظهر الأرضيّة الأخلاقيّة للقوانين والإجراءات في الدول، ومدى مناسبتها لمنظومة قيم المجتمع. بكلمات أخرى، يظهر تقدّم الدولة أو تأخّرها عن الهمّ والسؤال المجتمعيّ.

ولنا في الثورات العربيّة وحراكها مثال جليّ؛ ففي مصر انبنت منظومة قيم الثورة على عبارة بسيطة: "عيش، حرّيّة، عدالة اجتماعيّة"، ولم تتحدّث عن انتخابات، ولا رئيس، ولا تغيير قوانين، ولا غيرها، وهي العبارة الّتي أسّست لامتحان فشلت فيه الأحزاب والحراكات السياسيّة المختلفة (والإسلاميّة أوّلها، بشقَّيها؛ لأنّ جميعهم يفكر بمنطق الدولة لا منطق الثورة)، وكذلك الحكومة. وقد تقدّم المجتمع، فكان أقدر على إسقاط مبارك (وليس كما تدّعي مؤسّسة الجيش أنّها مَن أسقطته، ولا أنّها مَن حمت الثورة). وأمّا في الأردنّ، فكان حراك "افتحوا الحدود" قادرًا على رسم حدود المجتمع ومتخيّلاته الهويّاتيّة، وعلاقاته بامتداداته الجغرافيّة، بل وحدود جماعته العضويّة أيضًا، في دولة ما زالت تُعَدّ، تاريخيًّا، امتدادًا لسهل سوريا الكبير، قبل نشوء الدولة وبعده؛ فكان على الدولة أن تستجيب لنداء المجتمع، باعتبار الدولة - أيّ دولة - مطالبة بإدارة الشأن المجتمعيّ، لا تحديده وتحريكه كما تريد هي؛ فهكذا تُبنى الدول وتُرسم الحدود، وليس باستبطان كيانات صنعها الاستعمار والتغزّل بها، وتقديم الدم السوريّ قربانًا.

4. المقولة الأساس من كلّ هذه السطور: ماذا بعدُ على السوريّ والسوريّة أن يدفعاه؛ لكيلا يقال إنّهما إرهابيّان؟ ألا تكفي ضريبة الدم والقتل، والتهجير والنزوح، والدمار، والتشريد والاعتقال، والتشبيح والتعذيب، والغرق في البحر؟ ماذا بعدُ عليهما أن يدفعا؟

أوليس القول بأنّ إغلاق الحدود الأردنيّة الشماليّة أمام أهالي درعا، وتركهم لمصيرهم الدمويّ والتضحية بهم، بحجّة حماية الدولة القطريّة، وحدودها في مواجهة مشروعات الغرب بواسطة الإسلام السياسيّ لتفتيت الدول العربيّة القطريّة وانتهاك حرمة حدودها، لا يختلف كثيرًا عن ادّعاء النظام السوريّ، أنّ كلّ ضرائب الدم هذه، هي ثمن بسيط للمقاومة والممانعة ومواجهة الإرهاب والغرب وإسرائيل معًا؟ ألا يتساوى مبدأ إغلاق الحدود حمايةً للدولة القطريّة، مع مبدأ ترامب في إغلاق الحدود، ووضع السوريّين/السوريّات - وغيرهم - على قائمة منع الهجرة، بحكم أنّهم إرهابيّون؟

بعد كلّ هذا؛ ألا يُعَدّ خذلان السوريّين في هربهم من أتون الحرب، زرعًا للكراهية الّتي تخترق الحدود وتفتّت العالم العربيّ، المفتَّت أصلًا بسايكس - بيكو، الـ "ما أحلاها!"؟ لماذا على الجسد السوريّ تحديدًا أن يتحمّل أثمان مقاومة الغرب والاستعمار، والمقاومة والممانعة، ومقاومة الإرهاب، وحدود دولنا القُطْريّة؟ لماذا البحار الوحيدة الّتي لا حدود لها أمام الجسد السوريّ؟

أمثال هؤلاء من أصحاب الدعاوى للتنوير والعلمنة وغيرهما، أيصدّقون أنفسهم عندما يحاضرون فينا عن الأخلاق والحرّيّة والحقوق؟ هذا إذا كانوا يفترضون جدلًا أنّنا نصدّقهم!

5. بعيدًا عن النقد الأخلاقيّ والإجرائيّ لهذا الطرح، ثمّة أمر آخر، أمر براجماتيّ بحت. لو كان لنا افتراض صحّة كلّ ما قيل أعلاه؛ أنّ الإسلام السياسيّ يطرح نموذج "الخلافة الإسلاميّة"، الّذي لا أرى لأيّ حزب سياسيّ ذي خلفيّة إسلاميّة في هذا الشأن برنامج عمل، هل سيلغون الحدود مثلًا ويوحّدون العملة، ويختارون صاحب فخامة واحدًا فقط؟ أم سيعيّنون ولاة على الأقاليم؟ أم ماذا؟ حتّى أنّني أتذكّر أردوغان حين أتى في زيارة إلى مصر، والرئيس محمّد مرسي الإخوانيّ على رأس السلطة، قال إنّ تركيّا دولة علمانيّة وستظلّ كذلك. ولنقل إنّ هذا ما طرحه الإسلاميّون، السؤال: ماذا فعل هؤلاء من متزعّمي تيّارات التنوير والعلمنة واللبرلة والحرّيّات في المقابل؟ أين مشروعهم؟

تمسّكوا بخيار من اثنين، كلاهما لا يختلفان كثيرًا عن بعضهما في السوء والفداحة والجدب: إمّا دعموا الأنظمة المتورّطة في الدم؛ فها هم يهلّلون للأسد محارب الإرهاب، ويشاركونه قتل السوريّين والسوريّات، ويصوّتون للسيسي وغيره، وتلك السجون الّتي مُلِئت بالإسلاميّين وغيرهم، وإمّا أن يتمسّكوا بسايكس - بيكو ("ما أحلاها!") بمخرجاتها الّتي لم تعد مواجهتها أولويّة لديهم، ونعني إسرائيل، فباتت حماس، مثلًا، فصيلًا إرهابيًّا يتساوى مع داعش (فاستبطان الصور النمطيّة التعميميّة الفجّة عن الإسلاميّين، كلّ ما تريده المركزيّة الغربيّة، الّتي أنتجت تلك الصور)، وتحوّلت مشكلتهم مع أشكال التديّن فقط إلى الطقوس ورفضهم لها، لا نقدهم الكامل لشكل التديّن وموقعه الحضاريّ والنقديّ، آليّةً لإنتاج المعنى لدى شعوب كاملة، بل أكثر من ذلك، كان تواطؤهم، مع العنف والأنظمة القمعيّة والدولة العميقة له مبرّراته باسم التنوير والحرّيّات وحماية الدولة، وغيرها.
باختصار، أصحاب هذا القول واعون تمامًا بأنّهم مصابون بفقر وجدب مدقع؛ فلا مشروع لديهم إلّا التمسّك بمخرجات استعماريّة، عمرها قرن من الزمن أو يزيد قليلًا، على الرغم من كلّ ما أوجعوا رؤوسنا به من شعارات، أفرغوها هم من معانيها، وأساؤوا إليها.

 

صديقي يجيب

أتذكّر في يوم من أيّام الثورة المصريّة (الّتي لمّا تنتهِ بعد)، وفي مظاهرة ضدّ حكم المجلس العسكريّ في أحد أحياء القاهرة، استوقفت مذيعة أجنبيّة ومعها طاقم العمل، أحد أصدقائي من وسط المظاهرة، وسألته: "ماذا تريدون بعد؟ قدّمتم ثورة رائعة، فأسقطتم نظامًا، وسجنتم رئيسًا، وستخوضون انتخابات برلمانيّة، ثمّ أخرى رئاسيّة، ماذا بعد؟" فلم يكد صديقي يجيب عن تساؤلها، حتّى مرّت بجانبهما حافلة نقل عامّ، ليخرج من إحدى نوافذها رجل سبعينيّ ويصرخ بنا قائلًا: "ارجعوا إلى بيوتكم، خرّبتم البلد!"؛ فما كان من صديقي إلّا أن أجاب المذيعة قائلًا: "نريد من هذا الجيل أن يصمت، يكفي ما أورثونا إيّاه من هزائم وفشل ودولة فاسدة!"

نعم، ثمّة جيل يرى سايكس - بيكو "ما أحلاها!"، ولا يزال يصرّ على كيانات قُطْريّة نخرها الفساد من جذورها، فشلت في امتحان الدولة على المستوى الأخلاقيّ قبل الإجرائيّ، ولا يزال يهلّل للسجون والقمع، يزهو لدم مسفوك كذبًا باسم المقاومة والممانعة، يرى التنوير والعلمنة بتغيير الذكر الألفا فقط؛ فأنتج لنا دواعش ووحوشًا أخرى، على هذا الجيل أن يصمت، يكفيه ما فعل.

 

عبد الله البيّاري

 

 

طبيب وباحث أكاديميّ فلسطينيّ، متخصّص في النقد الأدبيّ والدراسات الثقافيةّ، وله مقالات وبحوث منشورة في صحف ومواقع ومجلّات عربيّة.