في الموازنة بين الدين والدولة

سين جالون | جيتي إيميجز

 

الدين لا ينمحي، بل هو باقٍ ما بقي الظمأ الأنطولوجيّ للفرد، نحو مَن يدير كلّ هذا من حوله، ولا سيّما الإبداعيّ والجماليّ منه، وذلك بُعد أزليّ من المستحيل أن يُطمَس؛ فكينونة الفرد لا تكتمل داخله إلّا بإشباع ذلك الظمأ؛ وهذا الأمر مستمرّ منذ مراحل مبكرة من مسيرة البشريّة، بل يزداد الظمأ إلى ذلك أكثر فأكثر، كلّما زادت قدرات الإنسان على البحث والاكتشاف، وكذلك أسباب تعاسته وفنائه.

 

بين الفراغ والاستبداد

مَنْ قال إنّه يجب أن ينمحي الدين، بصفته معتقدًا، من كلّ ملامح حياة الحضارات والشعوب؟ ما معنى أن يعيش الفرد بلا وازع، وبلا مرجعيّة أخلاقيّة يملؤها الضمير الحيّ. هل مَن يطرح مثل هذا يعي الفراغ الّذي يمكن أن يواجه الفرد، كلّما نظر مستفهمًا حوله؟

وفي المقابل، مَنْ قال إنّه يجب على المجتمعات تنظيم عيشها وفق إجراءات مذهبيّة بحتة، لا علاقة للعقل في صياغتها وفق الحاجة إليها، إلّا أن يرى مذهبًا ما أنّه هو الدين والنصّ الإلهيّ الّذي يحكمها ويسيّرها؛ هل يعي مَن يطرح هذا معنى أن تصادر المذاهب حياة المجتمعات، وتحلّ محلّ ما ينتجه العقل لإدارة حياته البشريّة؟ وهل يعي أيضًا خطورة أن يلتقي الاستبداد السياسيّ والاستبداد المذهبيّ؛ لتعود المجتمعات حينئذ إلى صكوك الغفران، وتقبيل العمائم والركب، فتعود الطبقات "الأرستقرادينيّة"، ويعود سفك دماء المجتمعات باسم الدم الأزرق، والبطن المقدّس، والماء الشريف؟

 

على مسافة واحدة

السؤال الّذي ينبني على كلّ ما سبق: ما الإجراء الّذي ينظّم العلاقة بين الشكل الوضعيّ، الّذي يدير حياة مجتمع ما، والدين الّذي يمثّل البُعد الأنطولوجيّ للفرد في مجتمع ما؟

مَنْ قال إنّه يجب على المجتمعات تنظيم عيشها وفق إجراءات مذهبيّة بحتة، لا علاقة للعقل في صياغتها وفق الحاجة إليها، إلّا أن يرى مذهبًا ما أنّه هو الدين والنصّ الإلهيّ الّذي يحكمها ويسيّرها؛ هل يعي مَن يطرح هذا معنى أن تصادر المذاهب حياة المجتمعات، وتحلّ محلّ ما ينتجه العقل لإدارة حياته البشريّة؟

 

لاحظوا أنّني استخدمت في سؤالي كلمة "المجتمع"، حينما تحدّثت عن الشكل والإجراءات، وعندما استخدمت البُعد الدينيّ قلت "الفرد"؛ لأنّ الإجراءات تنطبق على المجتمع كلّه، لكنّ البُعد دينيّ يخصّ الفرد في أيّ مجتمع كان، وقد تشمل المجتمع أحيانًا، لكنّها في المقام الأوّل تخصّ الفرد.

نعود إلى السؤال؛ لنعرف الحدّ الفاصل بين ظمأ الفرد والمجتمع للدين، وبين حاجة المجتمع إلى إجراء يدير به حياته، إجراء يقف على مسافة واحدة من كلّ الأديان، والحقوق، والحرّيّات، والذوق العامّ للمجتمع، ويكفل للجميع حقوقهم وحرّيّاتهم.

 

تنظيم العلاقة

ترى شرائح واسعة من الإسلاميّين أنْ لا حدّ فاصلًا بين البُعد الدينيّ والشكل الّذي تُدار به حياة المجتمعات، وكلاهما كائن واحد مصدره المذهب الدينيّ، وأنّه يجب على المجتمعات أن تدير حياتها وفق ما هو منصوص لديها من ثوابت ومسلّمات دينيّة ومذهبيّة، كما جاءت، فما جاء به الدين في نظرها شامل كامل، لكلّ زمان ومكان، وفي أيّ مجتمع كان.

بينما رأى قسم من العلمانيّين أنّه يجب الفصل بين ما هو دينيّ وما هو دنيويّ؛ من خلال مجموعة إجراءات، تنظّم العلاقة، والوسط الّذي يلتقي فيه البُعدان، مع الحفاظ على خصائص كلّ بُعد منهما، وعدم ذوبانه في الآخر. تمايزت العلمانيّة إلى علمانيّات، منها ما استند إلى مرجعيّات إلحاديّة مادّيّة بحتة، ومنها ما استند إلى فلسفة بعض المرجعيّات الدينيّة؛ من خلال مجموع القيم والأخلاق والأحكام لذلك الدين.

بزغت الحاجة إلى إيجاد إجراء ينظّم تلك العلاقة، وقد أبان الاستبداد الدينيّ الّذي مورس على المجتمعات الأوروبّيّة، حينما تحوّل الدين إلى مذاهب شتّى؛ فأصبح حكرًا لرجال الدين والكنائس والأديرة؛ فظلّ الدين هو الدولة قرونًا كثيرة، حتّى بعد الحركة الإصلاحيّة الّتي قادها مارتن لوثر في عام 1546

 

بزغت الحاجة إلى إيجاد إجراء ينظّم تلك العلاقة، وقد أبان الاستبداد الدينيّ الّذي مورس على المجتمعات الأوروبّيّة، حينما تحوّل الدين إلى مذاهب شتّى؛ فأصبح حكرًا لرجال الدين والكنائس والأديرة؛ فظلّ الدين هو الدولة قرونًا كثيرة، حتّى بعد الحركة الإصلاحيّة الّتي قادها مارتن لوثر في عام 1546، إلى أن جاءت الثورة الفرنسيّة؛ فكانت تلك الحادثة الفاعل الأهمّ في الفصل بينهما.

 

في واقع المجتمعات المسلمة

مَن يظنّ اليوم أنّ مجتمعاتنا المسلمة، ليست بحاجة إلى إجراء ينظّم العلاقة بين الدين والدولة، فهو لا يعي الوضع الّذي وصلت إليه هذه المجتمعات، ولا سيّما العربيّة منها. ومن الأمور الّتي تحثّ على وجود ذلك الإجراء:

1- انسياق الدين وتبعيّته، حسب حاجة الحاكم بما يخدم سياساته، على حساب حقوق الشعوب وحرّيّاتها، وحقّها في العيش الكريم.

2- اختزال تفسيرات الدين وفق فهم الشيخ والإمام والعلّامة، وتكفير أيّ رأي أو فكر يأتي مخالفًا، أو يطرحهما برؤية جديدة.

3- استغلال المناصب والواجهات الدينيّة في سبيل مكاسب اجتماعيّة، تسيطر على المجتمعات بفزّاعة أعداء الدين، تبثّ الإرهاب الفكريّ والعنف والتشدّد.

4- اعتماد المذاهب على كمّيّة كبيرة من المغالطات والخزعبلات الدينيّة، وعدم طرح تلك المسلّمات ومحاكمتها أمام العقل.

مَن يظنّ اليوم أنّ مجتمعاتنا المسلمة، ليست بحاجة إلى إجراء ينظّم العلاقة بين الدين والدولة، فهو لا يعي الوضع الّذي وصلت إليه هذه المجتمعات، ولا سيّما العربيّة منها.

 

5- تعدّد العرقيّات والإثنيّات الّتي تدين بغير دين واحد، ولديها مسلّمات وثوابت مغايرة للدين الإسلاميّ، بما يستوجب إيجاد مظلّة عامّة، تستظلّ بها المعتقدات كافّة، وتنعم بالحقوق والحرّيّات ذاتها تحتها.

6- وضع حدّ لحالة التشدّد، والتطرّف الفكريّ الّذي تنتجه مسلّمات وأفكار في الموروث المذهبيّ.

7- قطع الطريق أمام مَن يدّعون أنّهم أبناء الرسول وآله، أو يرون أنّ لهم حقّ الاصطفاء على الناس، أو لهم العرقيّة المميّزة دون الناس، أو المكانة الرفيعة دونهم، أو الوجاهة القبليّة العليا دونهم، أو حقّ التكلّم في الدين دونهم.

 

موازنة

إنّ الموازنة بين حاجة الفرد إلى البُعد الأنطولوجيّ للدين، وحاجته إلى الدولة الّتي لا توكل كلّ شاردة وواردة إلى المذهب الدينيّ ورجال الدين، أمر لا بدّ منه؛ لأنّه إذا ما أصبحت كلّ قضايا المجتمع، الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والمدنيّة، والعلميّة، والعلاقات الدوليّة، والقانون المدنيّ والدوليّ، والحرّيّات والحقوق، إذا ما أصبح كلّ ذلك يحكمه المذهب والدين، مُقْصٍ بذلك دور العقل في تسيير معاشه؛ فعندئذ سيتداخل ما هو وضعيّ وما هو دينيّ، ومع ذلك أيضًا تتداخل المعتقدات والمسلّمات وتتقاطع؛ فتبدأ مرحلة الاستقطاب والتمترس خلف المذهب والدين؛ ومن هنا يبدأ ما ذكرناه سابقًا: الاستبداد الدينيّ.

والأمر ذاته في مجتمعاتنا المسلمة؛ فإذا ما أُقصِي الدين كلّ الإقصاء من حياة الشعوب، يصبح الأمر استبدادًا سياسيًّا أو عسكريًّا أو علمانيًّا.

 

أحمد عبّاس

 

طالب دراسات عليا، من اليمن، مقيم حاليًّا في ماليزيا، مُهتمّ بالشؤون الفكريّة والفلسفيّة الّتي تبحث في جوهر الإنسان وكينونته وكلّ ما يربطه بمحيطه، وكذلك شؤون تجديد المورث الدينيّ.