تحت مجهر عزمي بشارة: السلفيّات من الأصول حتّى الوهّابيّة وداعش

 

حظي مفهوم "السلفيّة" برواج واسع واستخدامات مختلفة، وأُلصق به العديد من الممارسات والاتّهامات، وهذا التناول للسلفيّة قاصر وغير دقيق؛ إذ يجمع الحركات والأفكار السلفيّة بتناقضاتها واختلافاتها تحت مظلّة واحدة؛ فصارت السلفيّة في النظرة الاستشراقيّة النمطيّة - ولدى كتّاب عرب ومسلمين - رديفة للأصوليّة والإرهاب. وتُختزل السلفيّة في كونها منهجًا يدعو إلى العودة إلى الكتاب والسنّة، ونبذ البدع، لكن تتبُّع سياقها الاجتماعيّ - الثقافيّ يُفضي إلى فهم أعمق؛ فـمثلًا، "التيّار السلفيّ" في بدايات تشكّله وبنائه، لم يتّخذ هذه التسمية، بل درج في المدوَّنات الّتي تنتمي إلى الحنابلة وطبقاتهم المبكّرة، في القرنين الرابع والخامس، استخدام مصطلح "أهل الأثر"، أكثر من مصطلح "السلفيّون".

 

سلفيّات... لا سلفيّة واحدة

وفي ذلك، يبحث عزمي بشارة في كتابه "في الإجابة عن سؤال: ما السلفيّة؟" (2018)، هذا المفهوم بوصفه سلفيّات لا سلفيّة واحدة؛ وكونها تقوم على افتراض سلف متخيَّل تؤسّس عليه رؤيتها؛ فمصادر هذه السلفيّات مرويّات كُتبت بعد 100 - 150 عامًا من وفاة الرسول؛ ومن ثَمّ فالحركات السلفيّة هكذا تخيّلت السلَف، لكن هل فعلًا كان هكذا؟ وفي ذلك مثلما يتخيّل الحنابلة ابن حنبل؛ فأُسقط التعصّب عليه، مثلما تُسقَط الأحاديث على الرسول. ويَستعرض بشارة ما تتّفق عليه السلفيّات، والاختلافات والسجالات الّتي تدور بينها، ويعالج في هذا السياق الوهّابيّة؛ كونها سلفيّة حديثة، نشأت في القرن الثامن عشر، على يد الشيخ محمّد بن عبد الوهّاب، وهي الأبرز والأكثر انتشارًا، وعليها قام العديد من الحركات الإسلاميّة، وتتّكئ على أفكارها حركات مثل "تنظيم الدولة" المعروفة بـ "داعش".

 

غلاف الكتاب

 

ويُشار إلى أنّ هذه الدراسة بدأت مقدّمة لكتاب "تنظيم الدولة المكنّى داعش" بجزأيه (2018)، وذلك في صدد تعقّب الأصول الفكريّة لـ "تنظيم الدولة" (داعش)؛ ولا يعني ذلك "أنّ هذه الأصول أنتجته؛ فهو مثل كلّ الحركات، يدّعي تجذير نفسه في الماضي التاريخيّ، معتبرًا نفسه أصليًّا".

 

وتُعَدّ هذه الدراسة جزءًا من المشروع الفكريّ النهضويّ، الّذي يقوم عليه بشارة، من تجديد للفكر العربيّ، وإسهام في تفكيك المفاهيم الشائكة، وإعادة تحليلها ومعالجتها، وتتبّع سياقاتها وإشكاليّتها، والجدل القائم حولها، في إطار الراهن العربيّ

 

وتُعَدّ هذه الدراسة جزءًا من المشروع الفكريّ النهضويّ، الّذي يقوم عليه بشارة، من تجديد للفكر العربيّ، وإسهام في تفكيك المفاهيم الشائكة، وإعادة تحليلها ومعالجتها، وتتبّع سياقاتها وإشكاليّتها، والجدل القائم حولها، في إطار الراهن العربيّ، منها مفهوم المجتمع المدنيّ، في كتابه "المجتمع المدنيّ: دراسة نقديّة" (1996)، ومفهوم القوميّة في كتابيه "في المسألة العربيّة: مقدّمة لبيان ديمقراطيّ عربيّ" (2010)، و"أن تكون عربيًّا في أيّامنا" (2009)، ومفهوم العلمانيّة في كتاب "الدين والعلمانيّة في سياق تاريخيّ" بجزأيه (2012 و2014)، ومسألة الطائفيّة في كتابه "الطائفة، الطائفيّة، الطوائف المتخيَّلة" (2018)، الّذي جاء فيه بطرح جديد؛ أنّ الطائفيّة هي مَنْ تُنتج الطائفة/ الطوائف؛ بوصفها "طائفة متخيَّلة".

 

بين رشيد رضا والبغداديّ

ينطلق بشارة في الفصل الأوّل من الدراسة، بحفر جينولوجيّ لمفهوم السلفيّة؛ فهي تُختزل في تعريفها البسيط، بأنّها "العودة إلى الكتاب والسنّة، ونبذ البدع والمُحدَثات"، ويفصّل أنّ المفهوم في دلالته العامّة يعني "التزام القرآن والسنّة وحدهما، والاستناد إلى سيرة الرسول وأقواله وأفعاله والسلف الصالح؛ أي الصحابة، ولا سيّما الخلفاء الراشدين، والتابعين، في إنزال أحكام الكتاب والسنّة على الواقع العينيّ". ويسائل في ذلك مفهوم "الأصوليّة" المرتبط به، ويُشير إلى أنّه "مستورد من تسمية كنائس بروتستانتيّة أمريكيّة؛ لعودتها إلى أصول الدين والنصّ التوراتيّ". وينتقد السرديّة الشائعة، الّتي تتعامل مع المصطلح على أنّه نمط تديّن، مقتصر على الجزيرة العربيّة، كون السلفيّة تشمل العالم الشيعيّ أيضًا.

 

عزمي بشارة، مؤّلف كتاب "في الإجابة عن سؤال: ما السلفيّة؟"

 

ويعقد مقاربة بين السلفيّة والبروتستانتيّة بصفتها حركة إصلاح دينيّ؛ كونها تدعو إلى العمل والإصلاح، لتحقّق العدل والإنصاف، وبالتالي شرع الله، ومن جهة أخرى يفرّق بين مفهومَي السلف الاصطلاحيّ والوهّابيّ النجديّ؛ فالسلفيّة تمثّل "نقطة انطلاق مرجعيّة للتقدّم، بينما الوهّابيّة نقطة عودة وانكفاء، وإعادة إنتاج ’الإسلام الأوّل الصحيح‘ المتخيَّل".

 

ويعقد مقاربة بين السلفيّة والبروتستانتيّة بصفتها حركة إصلاح دينيّ؛ كونها تدعو إلى العمل والإصلاح، لتحقّق العدل والإنصاف، وبالتالي شرع الله، ومن جهة أخرى يفرّق بين مفهومَي السلف الاصطلاحيّ والوهّابيّ النجديّ

 

وفي الإجابة عن سؤالات السلفيّات، إن كانت تطوّرات أو تنويعات في السلفيّة، وفي التفرقة بين التاريخيّ والمعرفيّ؛ فبتناول سلفيّة رشيد رضا (1865 - 1935) من جهة، وسلفيّة أبي بكر البغداديّ مثلًا، يجيب بشارة بأنّ السلفيّتين تعودان إلى إسلام نقيّ مُفترض أو متخيَّل، لكن الأولى تعود إلى روح الإسلام النقيّة، كما تظهر في النصوص والسير، وتبني متخيَّلًا جديدًا، أمّا الأخرى فتعود إلى ظاهر النصّ غير القابل للتأويل؛ لبناء إسلام ديناميكيّ بمنظور ماضويّ؛ أي تعود نكوصيًّا إلى روح أخرى غير روح النصّ.

 

ما يأتلف وما يختلف

يرصد بشارة الاختلافات والتقاربات بين السلفيّات؛ ففي مسألة الخروج على الحاكم، نجد فرقًا بين السلفيّة المـحافظة العصريّة، الّتي تؤطّر للسمع والطاعة؛ فهي "تتطلّع صوب السلَف وتقليدهم، وطاعة الأئمّة، وأمير المؤمنين، والولاء التامّ الكامل له"، على خلاف السلفيّة الثوريّة، الّتي "تستخدم السلَف والسلفيّة لمعارضة النظام القائم، بل ربّما تكفيره ولو تشدّق بالإسلام وبألقاب إسلاميّة".

 

أحمد بن حنبل (780 - 855م) كما جسّد شخصيّته السوريّ مهيار خضور في مسلسل "الإمام"

 

وفي مسألة القوانين الوضعيّة، ترفض السلفيّة أن يسنّ البشر التشريعات؛ فلا يملك التشريع إلّا الله، وكذلك ترفض التيّارات السلفيّة كلّها، العلمانيّة؛ كون فصل الدين عن السياسة، يضع التشريع البشريّ فوق الإلهيّ. وترفض التيّارات السلفيّة التعدّديّة، وتعدّها فُرقة؛ وذلك لأنّها تؤيّد الوحدة في ظلّ حكم مبادئ الشريعة كما تراها هي؛ وقد أدّى هذا إلى انشقاقات ونبذ المختلف خارج الجماعة، كما ترفض الديمقراطية، وتعتبرها فوضًى وكفرًا، "فالسلفيّون لا يثقون بقدرة البشر على التوصّل إلى توافق على أفضل سُبل العيش".

 

والسلفيّة تضع وظيفة العقل تحت النصّ، وترفض القياس والرأي والاستحسان، وكذلك الاستدلال المنطقيّ والعقليّ، بل تعتمد على التفسير الأثريّ

 

وتتجاوز السلفيّة الحدود والسياقات الثقافيّة؛ بربط المسلمين بالأمّة الإسلاميّة المتخيّلة؛ أي تُجرّدهم من الانتماءات الأخرى. والسلفيّة تضع وظيفة العقل تحت النصّ، وترفض القياس والرأي والاستحسان، وكذلك الاستدلال المنطقيّ والعقليّ، بل تعتمد على التفسير الأثريّ؛ كون السلفيّين يعتبرون نصوص القرآن والحديث واضحة، ودور علماء الدين يقتصر على تأكيد الأحكام الواضحة أصلًا.

وتشترك السلفيّات في الاعتماد على الأحاديث النبويّة بشكل أساسيّ، في تطبيق الشريعة على الحالات الخاصّة؛ ولذلك يسمَّون "أهل الحديث"، ومع ذلك؛ هم لا يشكّلون جماعة متجانسة، بل يختلفون في مدى صحّة الحديث أو الخبر أو الأثر ومضامينه، كما يختلفون في تشخيص الواقع؛ لاختلاف تنزيل الأحاديث على الواقع، مثلًا: أهو جاهليّة أم إسلام؟ - في مواجهة "أصحاب الرأي".

 

محمّد رشيد ضا (1865 - 1935م)، صاحب مجلّة "المنار" و"تفسير المنار"

 

وثمّة سلفيّة تترك السياسة لأولي الأمر، كالسلفيّة العلميّة الّتي تعارض الخروج على الحاكم المستبدّ، وكذلك السلفيّة الكلاسيكيّة الطهرانيّة، الّتي ترفض أيّ نشاط سياسيّ معارض - سواء أسلميًّا كان أم عنيفًا - وتكتفي بتقديم النصح والمشورة فقط، وأخرى تتعامل مع السياسة، وتصل في أقصى مستوياتها إلى السلفيّة الجهاديّة، كتيّار أبي قتادة الفلسطينيّ... وأيضًا السلفيّات الجهاديّة تختلف في ما بينها، وتكفّر بعضها بعضًا في حالات ما.

وكون مفهوم السلفيّة صار إشكاليًّا؛ يُشير بشارة إلى أنّ المصلحين سلفيّون مجازًا، وما تهدف إليه السلفيّة العودة إلى الإسلام الأوّل؛ للارتقاء ضمن الحضارة الإسلاميّة، وتطوير الإسلام وملاءمته مع الحداثة، دون أن تتحوّل إلى نزع للهويّة؛ أي في سياقات المؤمنين الحضاريّة والوطنيّة، وقد يتحوّل الهدف إلى وسيلة، كما عند رشيد رضا.

 

التكفير

يعالج بشارة في الفصل الثاني من الدراسة، اختلافات التيّارات السلفيّة في مسألة التكفير؛ فيتساهل الخوارج في تكفير خصومهم؛ إذ يعتبرون الإيمان كلًّا لا يتجزّأ؛ فهو تصديق وقول وفعل معًا، على خلاف موقف الأحناف المُرجئيّ؛ فالمُرجئة - وهم فرقة إسلاميّة، لا يحكمون على أحد من المسلمين بشيء، بل يُرجئون الحكم إلى يوم القيامة ("معجم المعاني الجامع") - اجتنبت التكفير، ولم تأخذ أحكامًا قطعيّة تجاه المتخاصمين؛ فمصيرهم متروك لله وحده؛ وتفصل المُرجئة بين الاعتقاد والقول عن العمل: "لا ينفع مع الكفر طاعة، ولا يضرّ مع الإيمان معصية"؛ وهم بذلك يدعون إلى الحفاظ على وحدة المسلمين؛ لأنّ الحُكم يعود لله؛ لقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ  وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۗ  وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 105 - 106).

 

أبو بكر البغداديّ، زعيم "تنظيم الدولة" (داعش)

 

والسلفيّة إن كانت تتّفق مع الخوارج في مسألة كلّيّة الدين، بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصفّ: 2 - 3)، إلّا أنّ السلفيّين يرفضون نهج الخوارج في التكفير؛ إذ لا تكفير إلّا بنصّ قطعيّ، يبرهن أنّ الفعل كُفر مُخْرِج من الملّة، إضافةً إلى أنّ الخوارج يكفّرون مرتكب الكبائر.

 

ويستعرض بشارة موانع تكفير الفرد، الّتي تتّفق عليها جميع التيّارات السلفيّة نظريًّا، وهي: الجهل؛ فلا يكفّر المسلم الجاهل بالدين، والإكراه؛ كونه غير مسؤول عن تصرّفاته، والخطأ مع ثبوت النيّة الصادقة؛ أي عدم عَمْديّة التصرّف.

 

ويستعرض بشارة موانع تكفير الفرد، الّتي تتّفق عليها جميع التيّارات السلفيّة نظريًّا، وهي: الجهل؛ فلا يكفّر المسلم الجاهل بالدين، والإكراه؛ كونه غير مسؤول عن تصرّفاته، والخطأ مع ثبوت النيّة الصادقة؛ أي عدم عَمْديّة التصرّف. لكن نجد اختلافًا في السلفيّات هنا؛ فالتنظيمات الجهاديّة المصريّة تتبنّى قاعدة "لا عذر بالجهل"، وابن تيمية كفّر رؤساء الإسماعيليّة النزاريّة - ورأى قتلهم - لا عوامّهم، ويعتبر الإثنا عشريّة ضالّين، ولا يكفّرهم، أمّا ابن حنبل فيرى قتل الجَهمِيّ - نسبة إلى مذهب الجهم بن صفوان الترمذيّ - دون استتابة، و"تنظيم الدولة" (داعش) يكفّر عامّة الشيعة، ولا يعتذر لهم بالجهل؛ فهو يكفّر المجتمعات جُملة، وفي ذلك يرى أنّ الكافرين لا تنطبق عليهم المعايير الأخلاقيّة؛ لذا فالقتل والسرقة والغدر، مبرَّرة باسم الجهاد وخدمة الإسلام.

ونجد التشدّد والشموليّة أيضًا في قواعد التكفير، لدى الحركات التكفيريّة، الّتي نشأت في مصر، في الستّينات والسبعينات من القرن الماضي، فهي: (1) الحكم والتشريع بغير ما أنزل الله؛ ذلك شرك. (2) الإيمان ببعض الإسلام وترك جزء منه. (3) وجوب إظهار الإيمان والعمل به. فهذه الحركات تتّفق على أنّ المهمّ في الدين ظاهره، أمّا شأن الإيمان والكُفر فهو باطنيّ، الله مَنْ يحاسب عليه، وتُجمع أيضًا على أنّه لا ولاء للدولة، إلّا إذا كانت إسلاميّة، وتحارب الأساس الأخلاقيّ للديمقراطيّة؛ كون الله هو المشرّع، ولا يحقّ للشعب - ولو أجمع - أن يحلّل المحرَّم، أو يحرّم المحلَّل.

 

أبو قتادة الفلسطينيّ، من منظّري الحركة السلفيّة الجهاديّة المركزيّين

 

من الدعويّ إلى السياسيّ

في الفصل الثالث المعنون بـ "السلفيّة والحركات الإسلاميّة"، يدرس بشارة تطوّر السلفيّة وإدخالها في مجال السياسة؛ فعند قراءة مصطلح "السلفيّة"، أوّل ما يخطر بالبال هو "الوهّابيّة"، الّتي أعادت إنتاج  سلفيّة خاصّة تقع بين السلفيّة والحنبليّة، لكن قبل سلفيّة جزيرة العرب، وتسييس المفهوم، كان المصطلح يرتبط بالحركات والجمعيّات السلفيّة الدعويّة، الّتي لا تتدخّل في العمل السياسيّ، أعنيفًا كان أم سلميًّا، ونشأت بديلًا عن الطقوس الصوفيّة، وهي تنشر الثقافة السلفيّة، بوصفها وسيطًا بين الإسلام المؤسّسيّ والإسلام الشعبيّ؛ أي "السلفيّة كحرب على البدع، والدعوة إلى هدى المرسلين والشرع القويم" - وبذلك لا تعود إلى ابن تيمية، ولا تُختزل في الوهّابيّة - والبدعة هنا لا تعني مخالفة القرآن والسنّة فقط، بل فهم السلَف أيضًا؛ وهذا نهج غير مرتبط بالسلفيّة؛ فالمذاهب التقليديّة الأربعة، وكتابات "الخلَف"، والشيعة أيضًا، لها موقف من المبتدعين والتديّن الشعبيّ؛ وفي ذلك نرى اختلافًا بين السلفيّة الوهّابيّة الّتي تكفّر الصوفيّة، وموقف ابن تيمية منها الأكثر اعتدالًا.

 

والتيّار الوهّابيّ في المملكة العربيّة السعوديّة، تحوّل إلى مؤسّسة دينيّة؛ أي صارت تتبع بشكل متزمّت للدولة، ورغم أنّها تضفي الشرعيّة على النظام، إلّا أنّها لا تحكُم، بل يستخدمها النظام بصفتها أيديولوجيا للتنظيم السياسيّ

 

والتيّار الوهّابيّ في المملكة العربيّة السعوديّة، تحوّل إلى مؤسّسة دينيّة؛ أي صارت تتبع بشكل متزمّت للدولة، ورغم أنّها تضفي الشرعيّة على النظام، إلّا أنّها لا تحكُم، بل يستخدمها النظام بصفتها أيديولوجيا للتنظيم السياسيّ؛ حين لم يكن من الممكن توحيد القبائل والبلدان - قبل مرحلة القوميّة - في دولة، من غير الدعوة - وإن كانت بقوّة السيف - إلى قوميّة دينيّة. ونجد أنّ الفرق بين الإصلاح الدينيّ - بعنصره السلفيّ - والإسلام السلفيّ، أنّه يؤمن بالتقدّم، على عكس الأخير، الّذي يرى أنّ البشريّة تتراجع، ولا بدّ من عودتها إلى عصرها الذهبيّ. وقد تأثّر محمّد بن عبد الوهّاب بسلفيّة ابن تيمية، لكنّه أيضًا أخذ - حسب جون فول - من 24 عالمًا آخر، ولم يكن أحدهم حنبليًّا!

 

شكري مصطفى (1942 - 1978م)، مؤسّس "جماعة الدعوة والجهاد"

 

ويذكر بشارة أنّ الباحثين في حركات الجهاد الإسلاميّ - سواء كانوا مستشرقين أو إسلاميّين - يتعاملون بمنطلق أيديولوجيّ مع مسألة التكفير، كأنّها خلل أصوليّ في الإسلام؛ فهُم مثلًا حين يعزون أنّ الإسلام المتطرّف يقوم على فتاوى ابن تيمية؛ يتجاهلون بذلك التاريخ السياسيّ لهذه الفتاوى.

وفي مراجعته للدراسات المتعلّقة بسير نخبة القادة، والأفراد المتطوّعين في تنظيمات مثل "القاعدة"، يرى أنّ ثمّة عوامل غير الخلفيّة الاجتماعيّة، تفسّر انضمامهم، وهي: (1) أنّ أغلب السير تمرّ في تكوين إسلاميّ حركيّ تربويّ كـ "الإخوان المسلمين"، أو التأثّر بحركات إسلاميّة سياسيّة. (2) أنّ للتعرّض إلى الظلم والإذلال في السجن والحرب، دورًا في دفع بعض القادة إلى التطرّف، كالتفاعل بين البعثيّين والسلفيّين، الّذي أسهم في إنتاج "تنظيم الدولة" (داعش)، وكشكري مصطفى، مؤسّس "جماعة الدعوة والهجرة"، الّذي تديّن في السجن، وازداد حقده على النظام والمجتمع؛ نتيجة التعذيب الّذي تعرّض إليه. (3) لا يوجد شكل اجتماعيّ أو اقتصاديّ أو ثقافيّ معياريّ - نمطيّ، للمبادرين والقادة في هذه الحركات.

 

مفاهيم غربيّة

وينتقد بشارة الربط بين نصوص معيّنة في القرآن والسنّة والسيرة النبويّة، وبين ممارسات "تنظيم الدولة" (داعش)، على الرغم من أنّ مئات ملايين البشر، لم يتعاملوا مع هذه النصوص نهجًا سياسيًّا، بل نصوصًا دينيّة، ومن ثَمّ فالمشكلة ليست في هذه النصوص؛ فنصوص "تنظيم الدولة" - هي على وجه الضبط - أيديولوجيّة بتعريفها كوعي زائف.

 

حسن البنّا (1906 - 1949م)، مؤسّس جماعة "الإخوان المسلمين"

 

وينتقد بشارة منهج المستشرقين الجدد، الّذين يتعاملون مع الحركات الإسلاميّة بوصفها تقليدًا في التاريخ الإسلاميّ؛ إذ إنّ هذه الحركات ما كانت لتنشأ بغير المفاهيم الغربيّة؛ فبِنية التنظيمات الجهاديّة تعود إلى التنظيم اللينينيّ للحزب، والمركزيّة الديمقراطيّة الستالينيّة هي الشورى لدى حسن البنّا، والأمين العامّ للحزب هو المرشد العامّ، والتجمّع العصبويّ الحركيّ القطبيّ لدى سيّد قُطب، لا يختلف عن الحزب الطليعيّ الماركسيّ، والحاكميّة هي السيادة أو صاحب السيادة...

 

هذه الحركات ما كانت لتنشأ بغير المفاهيم الغربيّة؛ فبِنية التنظيمات الجهاديّة تعود إلى التنظيم اللينينيّ للحزب، والمركزيّة الديمقراطيّة الستالينيّة هي الشورى لدى حسن البنّا، والأمين العامّ للحزب هو المرشد العامّ، والتجمّع العصبويّ الحركيّ القطبيّ لدى سيّد قُطب

 

أي أنّ هذه الحركات أيديولوجيّة حديثة، نشأت في إطار التنظيم/ العالم الحديث؛ وبالتالي "لا يوجد تطوّر فكريّ مستقلّ عن التطوّرات التاريخيّة والأسئلة الّتي تطرحها، ومن ضمنها أسئلة الشيوعيّة والاشتراكيّة والرأسماليّة والليبراليّة، أو الّتي طُرحت في سياقات أخرى، وأثّرت مجابهتها في الفكر الإسلاميّ، مثلما لا يمكن في عصرنا فهم أفكار تنظيمات مثل القاعدة وتنظيم الدولة، من دون النظر إلى الهيمنة الأمريكيّة بعد الحرب الباردة، واحتلال أفغانستان والعراق، ونشوء الطائفيّة السياسيّة في المنطقة العربيّة، وإثارة موضوع السنّة والشيعة، وأزمة الدولة العربيّة، وازدياد اعتمادها على العنف، وغيرها من العوامل".

 

الوهّابيّة: فقدان التنوير والتأويل

يفكّك بشارة - في الفصل الرابع - السلفيّة الوهّابيّة، من خلال ما تدّعيه، وما أسهم في انتشارها؛ فتقوم سلفيّة ابن عبد الوهّاب الحديثة، على ادّعاء نبوّة مضمرة؛ فهي انبعثت لإصلاح حالة من الجاهليّة، حين ساوت بين المجتمع المسلم والجاهليّة الّتي سبقت الدعوة الإسلاميّة، وأتباع هذه السلفيّة حين يدعون إلى إلغاء التديّن الشعبيّ المليء بالبدع - لهذا يصفونها بالجاهليّة الجديدة - إنّما يحصرون الوساطة بين الله والناس في أيديهم؛ بذريعة أنّهم من يقومون ببعث "الدين الحقّ". وادّعاء النبوّة ذاك يتمثّل في: (1) ما أصّل ونظّر له محمّد بن عبد الوهّاب - وعلى منواله محمّد قطب وسيّد قطب - من منهج لفهم الحاضر بوصفه جاهليّة جديدة، وهو يدّعي بذلك أنّ رسالته نبوّة جديدة. ويُشار - على عكس الشائع - إلى أنّ الشيخ محمّد بن عبد الوهّاب، أوّل مَنْ استخدم، في العصر الحديث، مفهوم الجاهليّة في وصف حالة ذهنيّة اجتماعيّة، وذلك في رسالته "مسائل الجاهليّة الّتي خالف فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الجاهليّة من الأمّيّين والكتابيّين". (2) العمل بأنّ "الرشد لم يتبيّن من الغيّ"، وما يتطلّبه من نبوّة جهاديّة لفرضه. (3) استبدال الوساطة بأخرى؛ فوساطة التعبّد، الّتي يسمّونها بدعًا وشركًا في التديّن الشعبيّ، استُبدلت بها وساطة التبعيّة في الفهم، وأيضًا هم عند محاربتهم للبدع، يختلقون أخرى جديدة، كتقليد كلّ ما قام به النبيّ من لبس وهيئة؛ أي محاكاته، "ولو على حساب الرسالة النبويّة الروحيّة والأخلاقيّة ذاتها أحيانًا".

 

سيّد قطب (1906 - 1966م)، من منظّري السلفيّة الجهاديّة

 

والوهّابيّة سلفيّة متزمّتة؛ كونها "لا تعود إلى الماضي؛ لتنهض من جديد في ملاءمة الدين مع الحداثة، بل تعود إلى الماضي المتخيَّل لتعيد إحياءه"، فتمسّكها بظاهر النصّ - حسب فهمها وتعريفها - "لم يسمح لا بالتأويل في إطار الدين، ولا بالتنوير من خارجه"؛ فهُم يؤوّلون ظاهر النصّ بآخر، ويرفضون التأويل بدليل العقل.

ولا يمكن اعتبار الوهّابيّة أصوليّة؛ كونها لا تُنتج أحكامًا فقهيّة جديدة، بل هي تجتهد في المذاهب، وترجّح بين أقوال مؤسّسي المذاهب؛ فلا تخرج حينذاك عن "مجتهد في المذهب" و"المجتهد المرجّح".

 

الوهّابيّة تيّار صغير في الأصل، لكن ما ساعدها على الانتشار دعويًّا، وتحوّلها إلى مؤسّسة تابعة للدولة تؤثّر شعبيًّا - وفي العديد من البلدان - عوامل عدّة: الثروة النفطيّة، والحرب العربيّة الباردة بين محورَي مصر والسعوديّة، والاستغلال السياسيّ الغربيّ

 

ويضيف بشارة أنّ الوهّابيّة تيّار صغير في الأصل، لكن ما ساعدها على الانتشار دعويًّا، وتحوّلها إلى مؤسّسة تابعة للدولة تؤثّر شعبيًّا - وفي العديد من البلدان - عوامل عدّة: الثروة النفطيّة، والحرب العربيّة الباردة بين محورَي مصر والسعوديّة، والاستغلال السياسيّ الغربيّ - الولايات المتّحدة بخاصّة - وذلك لرهانه على الإسلام بوصفه أيديولوجيا ضدّ الشيوعيّة والقوميّة العربيّة الراديكاليّة، وضعف التقاليد الدينيّة القائمة، فغياب مؤسّساتها في البيئة الّتي ظهرت فيها الوهّابيّة، وهشاشة الوعي الدينيّ، وكذلك القدرة على فرضها بالسيف؛ فالوهّابيّة لم تنتشر عن قناعة الناس؛ فقد ثاروا عليها وطردوها، إلى أن التقى ابن عبد الوهّاب محمّد بن سعود؛ وفُرضت بالقوّة، ونشاهد ذلك يتكرّر في ما فعله أعضاء "داعش" في الموصل والرقّة وغيرهما.

إنّ اعتبار الجهاد أحد أهمّ الفروض الدينيّة، وما يرتبط به من غزو وغنيمة، في بيئة صحراويّة تعيش الفقر والبؤس؛ جعل اعتناق الوهّابيّة مجزيًا في الحياة اليوميّة، وهو ما أسهم في نشر الدعوة الوهّابيّة؛ فقد تعدّدت الظروف الجغرافيّة والبيئيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، الّتي تشكّل أرضيّة خصبة لها.

 

 

مجد أبو عامر

 

 

شاعر وقاصّ من مواليد غزّة عام 1996. حاصل على بكالوريوس الحقوق من جامعة فلسطين، ويدرس ماجستير العلاقات الدوليّة والعلوم السياسيّة، في معهد الدوحة للدراسات العليا. عضو اتّحاد الكتّاب الفلسطينيّين، صدر له المجموعة الشعريّة "مقبرة لم تكتمل"، ويعمل محرّرًا في "مجلّة 28" الغزّيّة.