ماذا تعني ثورة في لبنان؟

بعدسة عمر عمادي

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

"الوجود الاجتماعيّ الفعليّ، في المجتمع المتجانس الموحّد، هو للفرد، موضوعًا بالدولة كمواطن، فهو في المجتمع المتعدّد، بالدولة، للطائفة، لا للطبقة، ولا للفرد".

مهدي عامل، "عن الدولة الطائفيّة".

 

أفتتح المقالة بسؤال "هل الثورة في لبنان ممكنة؟"، من أجل تحديد مفهوم "الثورة" في السياق العربيّ، وما تعنيه من محاولات لخرق البناء الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ القائم. وفي السياق اللبنانيّ تحديدًا، ما الشروط الاجتماعيّة/ المادّيّة الّتي تُمهّد لخرق نظام الطائفيّة السياسيّة في شكله المحدّد بـ "اتّفاقيّة الطائف" منذ عام 1989؟ ومن ثَمّ تحديد جوابنا حول إمكانيّة ثورة مرتبط بشروط اجتماعيّة/ مادّيّة، كما هو مرتبط أيضًا بإرادة ثوريّة عند الجماهير في لبنان تتظاهر في الشارع.

 

الطائفة في لبنان

إنّ الوجود الاجتماعيّ الفعليّ في لبنان، يعبّر عن علاقات الطائفة بالدولة ومؤسّساتها، وهذه هي النقطة التمهيديّة الّتي يحدّدها مهدي عامل لفهم العلاقات الاجتماعيّة الّتي تشكّل الوجود اللبنانيّ، ومن هنا أودّ لو أقول إنّ الثورة في لبنان ممكنة ضمن علاقات اجتماعيّة/ مادّيّة الطائفة، وحركة رأس المال في المصارف وتوزيع الريع، ولا يمكن تخيّل ثورة دون الارتطام بجميع هذه العلاقات وتشابكها.

لقد شكّل هذا الارتباط وسيلة إنتاج عند العرب في جبل لبنان، وعمليّة اقتصاديّة، من خلال الطائفة الدينيّة أساسًا؛ وهكذا أصبحت الطائفة و/ أو القبيلة فاعلًا اجتماعيًّا في جبل لبنان تحديدًا والمنطقة العربيّة بعامّة

في البداية، علينا تحديد مفهوم الطائفة في سياقه اللبنانيّ؛ حيث جرى تكوّنها الاجتماعيّ جرى عبر العلاقات الاقتصاديّة (الزراعيّة) والدينيّة الّتي تأسّست منذ "نظام الملّة" في الإمبراطوريّة العثمانيّة، وبالتالي ملكيّة الأرض وارتباطها بمنظومة الملّة والطائفة والمؤسّسة الدينيّة في الفترة العثمانيّة. لقد شكّل هذا الارتباط وسيلة إنتاج عند العرب في جبل لبنان، وعمليّة اقتصاديّة، من خلال الطائفة الدينيّة أساسًا؛ وهكذا أصبحت الطائفة و/ أو القبيلة فاعلًا اجتماعيًّا في جبل لبنان تحديدًا والمنطقة العربيّة بعامّة. من هنا نستطيع فهْم الفعل الاجتماعيّ من خلال الطائفة لا من خلال الفرد/ الطبقة/ الجندر، وهذا لا يمنع وجود هيراركيّات داخل كلّ طائفة، إلّا أنّ الطائفة هي الفعل الاجتماعيّ المُهيمن؛ لأنّها تُعرّف عبر ملكيّتها على الأرض، وتُعرّف رسميًّا عبر أجهزة الإمبراطوريّة العثمانيّة.

التغيّرات الّتي رافقت الطائفة في جبل لبنان، في سياق الفترة الاستعماريّة، لم تعبّر عن سيرورة هدم للعلاقات والبنى الاجتماعيّة للطائفة و/ أو القبيلة و/ أو العشيرة؛ وهنا نجد أنّ تفسير روزا لوكسمبورغ حول الفترة الاستعماريّة، بأنّها تهدم العلاقات الاجتماعيّة "التقليديّة" لبناء علاقات تتأسّس على الرأسماليّة، لم يكن مكتملًا؛ إذ لم تحدّد الدور لهذه العلاقات، ولم ترَ المضمون الاجتماعيّ للعلاقات الجديدة. أمّا العلاقات الّتي أحدثتها الفترة الاستعماريّة في المنطقة، فهي من أجل تحديد دور "الطرف" في سيرورة بناء الرأسماليّة على مستوى العالم، وبالتالي المضمون الاجتماعيّ للعلاقات المُحدثة في الفترة الاستعماريّة، وقد تأسّست من خلال الشكل الاجتماعيّ الطائفيّ، في مؤسّسات الإدارة الاستعماريّة الّتي صاغت العلاقات الاقتصاديّة بدور يساعد المتروبول الرأسماليّ في "الدول الأمّ". ثمّ استمرّت الطائفة في البنية المُحدثة استعماريًّا، من خلال علاقة اقتصاديّة جديدة تُعيد إنتاج ذاتها فعلًا اجتماعيًّا، من خلال ارتباط زعماء الطوائف بالمراكز الإمبرياليّة، ليكونوا مُنتجين للحرير الخامّ، كما يحدّثنا عن ذلك المؤرّخ الماركسيّ لوتسكي.

 

من نظام الملّة إلى الدولة الحديثة

إنّ العلاقات السابقة الاقتصاديّة والدينيّة والسياسيّة الّتي تشكّلت منها الطائفة، وتعريفات "نظام الملّة" وملكيّة الأرض، قد تطوّرت في الفترة الاستعماريّة لتكوّن شكلًا آخر من "نظام الملّة" السياسيّ في جبل لبنان، منذ بدايات الهيمنة الفرنسيّة، وقد هُدمت العلاقات الإنتاجيّة للطائفة أيضًا، مثل ورش النسيج والزراعة والعديد من الصناعات الأوّليّة، لتغدو الطوائف بذلك في جبل لبنان غير مُنتجة، بل فقط تستورد من فرنسا وبريطانيا منذ نهايات القرن التاسع عشر. لكنّ هدم هذه العلاقات لم يخترق الطائفة بصفتها فعلًا اجتماعيًّا/ اقتصاديًّا؛ لأنّه لم يعُد مرتبطًا بالأرض، لكنّ ارتباطه بالمتروبول والهيمنة الإمبرياليّة قد جعل الفعل الاجتماعيّ/ الاقتصاديّ يستمرّ عبر استغلال الفلّاحين جماهير الطوائف.

هُدمت العلاقات الإنتاجيّة للطائفة أيضًا، مثل ورش النسيج والزراعة والعديد من الصناعات الأوّليّة، لتغدو الطوائف بذلك في جبل لبنان غير مُنتجة، بل فقط تستورد من فرنسا وبريطانيا منذ نهايات القرن التاسع عشر

وفي هذه اللحظة التاريخيّة، أصبحت الطائفة هي الوجود الفعليّ الرسميّ المرتبط بمؤسّسات "الدولة الحديثة"، ومن ثَمّ فالطائفة هي مسار الفعل السياسيّ في الدولة، والطائفة تُمثّل الجماهير وحاجاتها أمام الدولة. ومن هنا نضع تمهيدًا لفهم الاجتماع اللبنانيّ في الفترة الحديثة، ونعود إلى سؤالنا: ما إمكانيّات الثورة في لبنان؟ والإجابة عن ذلك تتعلّق بتحديد معيقات اجتماعيّة/ مادّيّة للتغيير الثوريّ في علاقات الاستغلال، ونهب الإمبرياليّ لجميع أنواع "الخامات".

 

معيقات إمبرياليّة

لذلك نصوغ سؤالًا في البداية: كيف بدأت هذه المعيقات في الفترة الاستعماريّة/ الإمبرياليّة منذ القرن التاسع عشر؟

تأسّست هذه المعيقات عبر التدخّلات الإمبرياليّة الفرنسيّة/ البريطانيّة في شروط الإنتاج المادّيّ للطوائف ونمطه، وربط مصالح الطوائف المادّيّة بالهيمنة الإمبرياليّة، ونجد ذلك خلال الاقتتال الحاصل بين الطائفة الدرزيّة والطائفة المارونيّة، على أساس الملكيّة على الأرض والعمل. مع التدخّل الإمبرياليّ، حيث بريطانيا تدعم الطائفة الدرزيّة الّتي ملكت الأراضي وفرنسا تدعم الطائفة المارونيّة الّتي عملت بالأرض، بدأت تتشكّل علاقات منفصلة عن الأستانة، مركز الإمبراطوريّة العثمانيّة، ومتعلّقة بالمراكز الرأسماليّة، كما تشكّلت أيضًا العلاقات الطائفيّة في الفترة الاستعماريّة، بسيادة الطائفة على الموارد والأرض، من خلال الدعم الإمبرياليّ المشروط.

العلاقات الّتي تشكّلت منذ القرن التاسع، ورُسمت كبنية منذ الاستقلال اللبنانيّ عام 1943، هي الّتي تُهيمن إلى يومنا على الواقع اللبنانيّ، وأقصد بالبنية الاجتماعيّة/ المادّيّة الّتي منها يستطيع اللبنانيّ كسب قوته، ومنها يعمل، ومنها يُنتج، ومنها يعيش.

هكذا وُضعت اتّفاقيّة تضمن حماية مجالات الطائفة ومُلّاكها المحلّيّين؛ ولذلك وُضعت أساسات النظام الطائفيّ الحديث، من خلال ربط مصالح الطوائف بالإمبرياليّات عام 1843، لكنّها لم تدم طويلًا، وبدأ الاقتتال والمذابح على الأماكن المختلطة، بين الطائفة الدرزيّة والمارونيّة، على أساس ملكيّة الأرض والعمل.

في هذه الفترة التاريخيّة، بدأت علاقات اجتماعيّة/ مادّيّة بالتشكّل، وهي في ذاتها مُعيق للتغيّر في الشروط ونمط الإنتاج. إنّ العلاقات الّتي تشكّلت من خلال أساسات إمبرياليّة، تضبط القوى التاريخيّة والتناقضات الّتي تُنجز تغييرًا مادّيًّا حقيقيًّا في حياة الطوائف وتكبحها، وتنكسر الطائفة بصفتها إطارًا اجتماعيًّا/ مادّيًّا مصنّفًا سياسيًّا.

 

حلّ العلاقات

أجد أنّ هذه العلاقات الّتي تشكّلت منذ القرن التاسع، ورُسمت كبنية منذ الاستقلال اللبنانيّ عام 1943، هي الّتي تُهيمن إلى يومنا على الواقع اللبنانيّ، وأقصد بالبنية الاجتماعيّة/ المادّيّة الّتي منها يستطيع اللبنانيّ كسب قوته، ومنها يعمل، ومنها يُنتج، ومنها يعيش. البنية تطوّرت في أساليبها وطرقها لتتيح الخدمات المادّيّة للجماهير، لكنّها ما زالت عالقة في التصنيفات والوجود الطائفيّ الاجتماعيّ، وهي الّتي تحدّد التعليم، والاقتصاد، والسياسة.

إنّ الفعل الثوريّ في الراهن اللبنانيّ عليه أن يحلّ هذه العلاقات ويحسمها، تلك الّتي صاغت مصالح الطوائف عبر الهيمنة الإمبرياليّة في المنطقة، ولقد تطوّرت هذه المصالح وآليّاتها بالانتقال من نهب "الخامات" إلى الهيمنة على البنوك والعملة؛ لذلك فإنّه في سياق الممارسة الثوريّة في لبنان والمنطقة العربيّة، علينا تحديد ملامح البنى الاجتماعيّة/ المادّيّة وعلاقاتها وما يمكّن تماسكها، ليتمكّن الفعل الثوريّ من حلّ وحسم ما يؤدّي إلى التغيير.

 

 

محمّد قعدان

 

طالب في جامعة تل أبيب ضمن برنامج مُتعدّد التخصّصات؛ سوسيولوجيا، أنثروبولوجيا، تاريخ الشرق الأوسط، دراسات بيئيّة. عضو مؤسّس لـ "منتدى إدوارد سعيد في جامعة تل أبيب."