لماذا نحتاج إلى القصص في زمن الكورونا؟

عدسة المصوّر الإيطاليّ أليسيو مامو | الغارديان

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

ما يميّز الجنس البشريّ من بقيّة الثدْيِيّات قدرته على تأليف القصص وسردها. خلافًا للحيوانات الأخرى، الّتي تتواصل في ما بينها فقط ضمن منظومة حياتيّة موجودة في العالم الطبيعيّ، في استطاعة البشر خلق عوالم كاملة من نسيج الخيال، بل أكثر من ذلك، من الصعب والمستحيل تخيّل عالم نعيش فيه من غير قصص؛ فهي موجودة في كلّ مكان، تختبئ خلف ستارات النشرة الجوّيّة، وبين أسطر ملفّات القضاء، وحول طاولة العشاء.

 

في كلّ مكان

يُسمّي جوناثان جوتشال Jonathan Gottschall، الباحث في نظريّة التطوّر والأدب، الكائن البشريّ في كتابه "حيوان السرد القصصيّ: كيف تجعلنا القصص بشرًا؟" بـ "Homo Fictus؛ Fictus"، تعود إلى "Fiction" في الإنجليزيّة ومعناها "خيال"؛ أي أنّنا "كائنات الخيال"، نتغذّى على القصص ولا نستطيع العيش دونها؛ فالقصص بالنسبة إلينا كما الماء إلى السمك، رغم أنّ جسدنا محصور ومحدود في نقطة معيّنة من الزمان والمكان، إلّا أنّ ذهننا يُبحر ويجوب في عوالم نخلقها نحن من إبداعنا وخيالنا[1].

تحيطنا القصص من كلّ مكان، وترتبط حياتنا بشكل قويّ ووثيق معها، حتّى أنّنا لم نَعُد نلاحظ عددها الهائل وقوّتها الساحرة والغريبة. إذا حاولنا على سبيل المثال مسح يوم عاديّ بسيط روتينيّ، في حياة أيٍّ منّا، فسنجد القصص تحتلّ معظم وقتنا وأعمالنا؛ نستيقظ في الصباح لنقرأ الجريدة أو الأخبار على المواقع الإلكترونيّة، وكلّ خبر في هذا السياق بمنزلة قصّة نقرؤها.

إنّنا "كائنات الخيال"، نتغذّى على القصص ولا نستطيع العيش دونها؛ فالقصص بالنسبة إلينا كما الماء إلى السمك، رغم أنّ جسدنا محصور ومحدود في نقطة معيّنة من الزمان والمكان، إلّا أنّ ذهننا يُبحر ويجوب في عوالم نخلقها نحن من إبداعنا وخيالنا.

نشرة الأخبار في حدّ ذاتها، الّتي نشاهدها على التلفاز، بمنزلة برنامج سرد قصص وحكايات عمّا حدث خلال اليوم. بعد ذلك، نتّجه إلى مكان العمل أو الدراسة، ونلتقي زملاء نشاركهم ويشاركوننا القصص، سواء عن المطعم الّذي زرناه الليلة السابقة، أو الخبر الّذي سمعناه، أو البرامج الّتي نخطّط لها لنهاية الأسبوع. جميع هذه المحادثات الصغيرة عبارة عن قصص نرويها ونسمعها، حتّى في أبسط المحادثات واللقاءات وأصغرها. أيّ فيلم أو مسرحيّة نشاهدها، أيّ أغنية نسمعها، عبارة عن قصّة. إنّ المحامي الّذي يذهب إلى المحكمة ليدافع عن متّهم، ليس إلّا سارد قصص، وكلّما كانت قصّته أقوى ومقنِعة أكثر ارتفعت احتمالاته لربح القضيّة. حتّى في مجال علم النفس والعلاج النفسيّ، نذهب إلى جلسات العلاج وندفع أموالًا طائلة للحصول على قصّة فقط. عن طريق العلاج والجلسات، نبني عن ذواتنا قصصًا، ونعيد ترتيب الأحداث في حياتنا ومشاعرنا وأفكارنا، كي نصل إلى الراحة والمعنى. وليس للقصّة أن تكون بالضرورة حقيقيّة؛ ما يهمّ أنّها حقيقيّة بالنسبة إلينا. حتّى الأحلام في نهاية المطاف مجرّد قصص، وغالبًا نشارك ذاكرتنا عند لحظة الاستيقاظ في عمليّة "الكتابة"، لا نتذكّر الحلم بشكل كامل؛ فنملأ الثغرات بعد أن غادرنا النوم وعالم الأحلام. في العالم الرقميّ الّذي نقضي فيه وقتًا لا بأس به في النهار والليل، تحيطنا القصص أيضًا من كلّ زاوية، وصفحاتنا الشخصيّة على الفيسبوك والإنستغرام ما هي إلّا صفحات نروي فيها قصصًا عن ذواتنا، ونبني قصصًا تمثّلنا عبر الزمن.

 

ماذا يحدث للقصص في زمن الوباء؟

نواجه اليوم في ظلّ وباء الكورونا حالة مركّبة ومُربكة؛ فعلى الرغم من أنّنا نعيش عصر الإنجازات العلميّة الكبيرة والمهمّة، إلّا أنّه في كثير من الأحيان، وكما اليوم، نرى العلم حائرًا أمام سطوة هذا الوباء وسرعة انتشاره. يحاول العلماء - وبكلّ ما أوتوا من معرفة - فَهْمَ خصائص هذا الفايروس، وكيف يؤثّر في الجسم، وإن كان يمكن الشخص نفسه الإصابة به غير مرّة. في المقابل، يحاول مختصّو الإحصاء والمؤرّخون فَهْمَ منظومة انتشار الوباء، وسبب تعرّض مدن بعينها للإصابة أكثر من غيرها، والخطوات الّتي يجب اتّخاذها لمحاربة تفشّي الوباء. أمّا من جهتنا، نحن عامّة الشعب، فالتأثير الساحق للوباء يتركنا في حالة من العبثيّة وعدم الفهم. أحيانًا، نشعر بأنّ الحالة الّتي يعيشها العالم بعيدة عنّا، ننظر إليها عبر شاشات التلفاز والحاسوب، وأحيانًا أخرى، حين نسمع عن قصص أشخاص مرّوا في ضائقة أو فقدان، نشعر بالوباء أقرب إلى بيتنا وأجسادنا.

بصرف النظر عن مواجهتنا لحقيقة فنائنا وهشاشتنا وضعفنا تجاه هذا المرض، فإنّنا نواجه شيئًا آخر أيضًا: الشعور بالحصار. إنّ الحَجْر الصحّيّ ليس بالأمر الهيّن، بل مرعب ومقلق وغير آمن لبعضنا. من الصعب علينا التعوّد على حياة نخرج فيها من البيت فقط لاقتناء الأكل والدواء والحاجات الأساسيّة. نحن بحاجة إلى ناس، إلى أحداث، إلى الشعور بالحرّيّة، لكن خيالنا يمنحنا فرصة التعويض عن ذاك كلّه. نستخدم خيالنا من أجل خلق القصص والروايات عن المستقبل والحاضر وحتّى عن الماضي. يعطينا الخيال، في هذا المفهوم، إمكانيّة بناء عالم بشكل مختلف، يمكننا عن طريقه كتابة قصص وسردها، تساعدنا على فهم ما يحدث من حولنا.

إنّ الحَجْر الصحّيّ ليس بالأمر الهيّن، بل مرعب ومقلق وغير آمن لبعضنا. من الصعب علينا التعوّد على حياة نخرج فيها من البيت فقط لاقتناء الأكل والدواء والحاجات الأساسيّة. نحن بحاجة إلى ناس، إلى أحداث، إلى الشعور بالحرّيّة، لكن خيالنا يمنحنا فرصة التعويض عن ذاك كلّه.

 

سيف ذو حدَّين

إنّه شيء عظيم، ومع ذلك تكون القصص وسردها في هذه المواقف أشبه بسيف ذي حدَّين. على مرّ التاريخ، وفي أزمنة الوباء، حاول البشر إيجاد سبب أو مسبّب للحالة الّتي يعيشونها. غالبًا كان المسبّب بالنسبة إليهم هو الله، والسبب معاقبة البشريّة.

في القرن الرابع عشر، اجتاح الطاعون الأسود أوروبّا، واتُّهم اليهود بنشر الوباء، وكان من تبعيّات الانتشار والدمار الّذي سبّبه الوباء، التصعيد في عمليّات الاضطهاد والعنف ضدّ الأقلّيّات، كاليهود والمسلمين والغجر وغيرهم[2]. في الوقت ذاته، شهدت الساحة الأدبيّة في تلك الفترة ولادة أحد أهمّ الكتب، وقد أثّر بشكل كبير في الأدب الغربيّ في ما بعد. كتب جيوفاني بوكاتشيو Giovanni Boccaccio كتابه "الديكاميرون -"The Decameron ، وهو عبارة عن مجموعة قصص، تسردها الشخصيّات في حجرهم الطوعيّ في فيلّا سكنيّة في إيطاليا.

يحتاج البشر - على ما يبدو - إلى اللجوء إلى عالم القصص والخيال من أجل فهم الوباء؛ فيخلق البعض نظريّات يكون فيها "الفاعل" شخصًا أو كيانًا معروفًا، ويمكن تناوله وإدراك صفاته بسهولة. حتّى هذه اللحظة وفي ظلّ الكورونا، ما زلنا نواجه نظريّات المؤامرة ومحاولات "كتابة" قصّة عن الوضع الّذي نعيشه. على سبيل المثال، ادّعى مسؤول في وزارة الخارجيّة الصينيّة أنّ المسبّب للوباء هو الجيش الأمريكيّ الّذي نشر الفايروس في مدينة ووهان في الصين[3]. من جهة أخرى، تساعد القصص، كما في حالة "الديكاميرون"، على الهروب من الواقع، واللجوء إلى عالم آخر يمنح الكاتب والقارئ المتعة والنسيان في فترة الحجر.

حتّى المواقع المتخصّصة، على سبيل المثال، في الفواتير والحسابات التابعة للشركات الخاصّة، بدأت بتجميع قصص عن تجارب الناس من الحجر، وثمّة أمثلة ومبادرات لا نهاية لها.

أمّا في زماننا فنشهد في الفترة الأخيرة كثافة المقالات، سواء لباحثين كانت أو لكتّاب أو لصحافيّين، حول الوباء وتبعيّاته. منهم مَنْ يكتب عن أشكال النظام وخطر الاستبداد والدكتاتوريّة، ومنهم مَنْ يحاول أن يتصوّر العالم بعد تخطّي الوباء، وكيفيّة تأثير هذه الفترة في المجتمع، وفي الجغرافيا، وفي البيئة، وفي السياسة. نشهد أيضًا حالة من انتشار قصص شخصيّة، وشهادات لأشخاص موجودين في الحجر الصحّيّ في منابر عدّة؛ وعلى موقع الـ "Guardian" على سبيل المثال، تتوافر مقالات سرديّة عديدة كتبها أشخاص من داخل الحجر؛ ثمّة مقال بصريّ أيضًا، يتضمّن صورًا فوتوغرافيّة من فترة الحجر لمصوّر إيطاليّ من داخل بيته في صقلّية[4]. حتّى المواقع المتخصّصة، على سبيل المثال، في الفواتير والحسابات التابعة للشركات الخاصّة، بدأت بتجميع قصص عن تجارب الناس من الحجر، وثمّة أمثلة ومبادرات لا نهاية لها. لكنّ الشيء المثير في هذه المبادرات في الفترة الأخيرة، أنّ معظمها متعلّق بموضوع سرد القصص والكتابة والخيال.

 

لماذا القصص؟

من خلال القصص فقط يمكننا تخيّل واقع مختلف، وفَهْم ما يدور من حولنا. من خلال القصص نستطيع تحديد مشاعرنا ومخاوفنا وآمالنا إزاء الواقع الجديد الّذي نعيشه. ما يميّز القصص الّتي نستهلكها عن طريق الكتب، والأفلام، والمسرحيّات، والأغاني، والمقالات، والشهادات من الحجر، أمران: الأوّل أنّها تمنحنا إمكانيّة الهروب من الواقع الفوضويّ والعبثيّ واللجوء إلى عالم آخر، مختلف ومدهش ومذهل؛ فنقضي فيه وقتًا ممتعًا ومثيرًا، ننسى فيه خوفنا وعجزنا في واقع لدينا فيه القليل جدًّا من التحكّم والسيطرة. الأمر الثاني أنّ القصص في هذه الحالة، تساعدنا على فهم الواقع الغريب والجديد الّذي نعيشه؛ ربّما بسبب قربها من تجربتنا نحن البشر. ننظر إلى الحياة والواقع، عند قراءتنا وسماعنا لأيّ قصّة، من وجهة نظر الشخصيّات والراوي، والتماهي أو التنافر الّذي نشعر به يجبرنا على النظر بشكل أعمق في تجربتنا. تعطينا القصص في هذا السياق معنًى للضبابيّة الّتي تحيطنا وتمنحنا أيضًا المواساة والراحة.

يحتاج البشر - على ما يبدو - إلى اللجوء إلى عالم القصص والخيال من أجل فهم الوباء؛ فيخلق البعض نظريّات يكون فيها "الفاعل" شخصًا أو كيانًا معروفًا، ويمكن تناوله وإدراك صفاته بسهولة. حتّى هذه اللحظة وفي ظلّ الكورونا، ما زلنا نواجه نظريّات المؤامرة ومحاولات "كتابة" قصّة عن الوضع الّذي نعيشه

نشترك، في نهاية المطاف، مع الجميع ومع أنفسنا، في تأليف قصص عن الواقع، عن العالم الموازي، عن المستقبل القريب، عن رغباتنا وأفكارنا ومكاننا نحن البشر في هذه الفترة من الزمن.

تكمن في القصص قوّة هائلة في مواجهة الأوبئة؛ تواسينا، تعطينا الأمل والقوّة في مواجهة فوضى أفكارنا ومشاعرنا، تمنحنا من الأحلام والأمنيات ما لا نهاية له، وتأخذنا إلى عالم أفضل وأكبر من بيتنا الصغير في الحجر.

أتذكّر في هذا الوقت، وفي أثناء كتابتي هذا المقال، واحدة من أهمّ وأجمل القصص في تاريخ البشريّة "ألف ليلة وليلة"، وأفكّر كيف تصوّر لنا معنى تمسّكنا وسبب تعلّقنا بالقصص: إنّها تُبقينا على قيد الحياة.

..........

إحالات:

[1] Jonathan Gottschall, The Storytelling Animal: How Stories Make Us Human (Houghton Mifflin Harcourt, 2012), pp.12.

[2] David Nirenberg, “The Black Death and Beyond”, Communities of Violence: Persecution of Minorities in the Middle Ages (Princeton UP, 1996), pp. 241.

[3] Jason Scott and Iain Marlow, "Chinese Official Pushes Conspiracy Theory U.S. Spread Virus", Bloomberg, 13\03\2020, accessed on 08\04\2020, at: https://bloom.bg/2RvPIcp.

[4] Alessio Mamo, “Masks, meals and Skype: self-isolating in Sicily - a photo essay”, theguardian, 03\04\2020, accessed on 08\04\2020, at: https://bit.ly/3b4tcPR.

 

 

 

شادن هيب

 

 

من مواليد الناصرة عام 1993. حاصلة على البكالوريوس في الأدب الإنچليزيّ وتاريخ الفنّ والسينما من "جامعة تل - أبيب"، تدرس الماجستير في الأدب الإنچليزيّ في الجامعة نفسها.