رامي سلامة: الوعي الفلسطينيّ في حالة اغتراب تجعله مزيّفًا وشريدًا

الأكاديميّ رامي سلامة

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

تستعر في فلسطين الممارسات الكولونياليّة الصهيونيّة، في المجالات العديدة، الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وتلتحم فيها مصالح إمبرياليّة عالميّة، عبر تشكّل مستوطنات يهوديّة/ أوروبّيّة وشركات اقتصاديّة عالميّة، وقواعد عسكريّة منظّمة تبيد الوجود الفلسطينيّ، لتحمي مصالح الهيمنة الإمبرياليّة والنظم الراهنة، وذلك منذ بدايات القرن التاسع عشر، الّتي انكشفت فيها جغرافيا فلسطين أمام أعين الإمبراطوريّات الأوروبّيّة الحديثة، الألمانيّة والفرنسيّة والبريطانيّة، لتكون موقعًا آخر لحركة رأس المال وحركة الأوروبّيّين المستعمرين.

حين نحاول أن ننظر إلى الوعي الفلسطينيّ في حركة التاريخ المادّيّ، نجده منذ أواخر القرن التاسع عشر قد تَشكّل من خلال مقاومة الهجرة اليهوديّة، المندرجة في إطار مشروع سياسيّ كولونياليّ، وكما تكثّفت الممارسات الاستيطانيّة، كذلك المقاومة الفلسطينيّة. والوعي اليوميّ الفلسطينيّ كان دائمًا مرتبطًا بالمقاومة والثورة على المشروع الاسيتطانيّ والإمبرياليّة.

منذ طلوع الفدائيّين والفدائيّات في الخمسينات والستّينات، وتشكيل "منظّمة التحرير الفلسطينيّة"، غدت الإطار المعرفيّ والعسكريّ والسياسيّ للفلسطينيّين والفلسطينيّات، وشكّلت وعيًا مقاومًا منذ "معركة الكرامة" في أواخر الستّينات. إثر ذلك تشكّلت قاعدة شعبيّة اجتماعيّة واسعة متشابكة مع المنظّمة، في المخيّمات وفي الأراضي الفلسطينيّة، كما كتب جميل هلال، في مقالة "صعود وأفول منظّمة التحرير الفلسطينيّة"، وقد تبلور هذا الوعي في الانتفاضة الأولى الّتي حقّقت إنجازًا تنظيميًّا في النضال والمقاومة.

وقد رأى عبد الوهّاب المسيري بالانتفاضة الفلسطينيّة نموذجًا معرفيًّا مغايرًا لنموذج الحداثة الأوروبّيّة في رؤية العالم، وممارساتنا وعلاقاتنا الاجتماعيّة، في كتابه "من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينيّة". أنتج المسيري مصطلحًا معرفيًّا ليصف به تنظيم الانتفاضة الفلسطينيّة وشكلها، هو "نموذج التكامل - غير العضويّ"، وإحدى سمات هذا النموذج أنّه قابل للتجدّد، وقد تمكّن من الحركة تصاعديًّا وبشكل متخافت في الوقت ذاته؛ وهو ما يعني عدم انهياره، واستمراريّته، وهذا حتّم على الدولة الاستيطانيّة في فلسطين الالتفاف على الانتفاضة من خلال "مؤتمر مدريد" و"اتّفاقيّات أوسلو"؛ فوُضِعَ الوعي اليوميّ الفلسطينيّ على المحكّ، وفي أزمة إزاء مفاهيم ومعانٍ شكّلت تاريخه الحديث: المقاومة، والثورة، والكفاح المسلّح، والتحرّر الوطنيّ، وتحرير الأرض من البحر إلى النهر. وهنا نجد الضرورة في فهم التغيّرات الّتي لحقت على هذه المفاهيم من خلال السلطة الفلسطينيّة الّتي انبثقت عن "اتّفاقيّات أوسلو"، والقانون الدوليّ، والخطاب الحقوقيّ الإنسانيّ.

حول الوعي الفلسطينيّ في السياق الكولونياليّ وقضايا أخرى في الفكر السياسيّ، نجري في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة حوارًا مع الدكتور رامي سلامة، وقد تخرّج في "معهد الدراسات العليا" في جنيف، في تخصّص الأنثروبولوجيا، وكانت أطروحته حول "الحياة والحبّ والموت في ظلّ نظام استعمار استيطانيّ"، حيث عالج تجارب حياتيّة فلسطينيّة متعدّدة. وسلامة رئيس "دائرة الفلسفة والدراسات الثقافيّة" في "جامعة بير زيت"، ومدير برنامج الماجستير في "الدراسات العربيّة المعاصرة" فيها، وأبحاثه تهتمّ بالجسد، والقانون، والقوّة في السياق الفلسطينيّ، وآثار الكولونياليّة في الذوات الفلسطينيّة في حياتهم اليوميّة، والموت، والحبّ.

 

فُسْحَة: حين نتحدّث عن أزمة في الوعي اليوميّ الفلسطينيّ، إزاء المفاهيم الّتي شكّلت تاريخه النضاليّ الحديث؛ هل نتحدّث عن أزمة بنيويّة في الخطاب والوعي قد حصلت في تسعينات القرن الماضي، من خلال المؤسّسات الدوليّة وهيمنة الخطاب الحقوقيّ؟

سلامة: في الحقيقة، الأمر أكثر تعقيدًا من مجرّد أزمة بنيويّة في الخطاب وعلاقته بالوعي. إنّ الوعي يتشكّل من خلال التجربة، ولا يمكن الوعي أن يكون خارج إطار التجربة ببعدها الجسديّ المادّيّ، ووعينا بالضرورة محصّلة إدراكاتنا الحسّيّة لذواتنا/ أجسادنا المنخرطة في زمان العالم ومكانه. وقد شاء التاريخ أو الصدفة السياسيّة أو الكوميديا البشريّة، أن يكون هذا الزمن اليوم، فلسطينيًّا، زمنًا استعماريًّا. نحن نعي تمامًا، ومن خلال تجربتنا المعيشة، حقيقة أنّنا ذوات مستعمَرة، ذوات منفيّة أو ذوات مهجَّرة، وفي المقابل بحكم هذه التجربة نعي أيضًا طبيعة هذا المشروع الاستعماريّ في فلسطين. ومن الصعب الحديث عن أزمة في الوعي؛ لأنّ شروط الوعي شروط مادّيّة وتاريخيّة معيشة أساسًا، وفي المحصّلة ما من أزمة في الوعي، إنّما حالة انفصام أو اغتراب عن الوعي، ما يمكن تسميته "الوعي الشريد" أو "الوعي المزيّف". حالة اغتراب الوعي هذه تنشأ تحديدًا من المنظومة الخطابيّة وإطارها المفاهيميّ الّذي نوظّفه في توصيف التجربة المعيشة، إذ قد ينتج هذا الإطار المفاهيميّ ومنطوقاته واقعًا متخيّلًا من التصوّرات والتمثّلات موازيًا للتجربة، أو بكلام آخر، أن نستخدم إطارًا مفاهيميًّا غير قادر على الإمساك بالتجربة أو بوعينا تجاهها، وهنا بالتحديد تكمن الأزمة في فلسطين اليوم؛ فالخطاب المهيمن وإطاره المفاهيميّ الحقوقيّ لا يعكس بالضرورة وعينا تجاه التجربة، ولا وعينا تجاه حقيقة هذا المشروع الاستعماريّ في فلسطين؛ إذ ولسخرية المعرفة وعلى عكس ما دعا إليه فرانز فانون، بأنّ الصراع الاستعماريّ يجب أن يكون صراعًا حول الوجود لا صراعًا حول الحقوق، حوّلنا نحن، ولأسباب عديدة، هذا الصراع من صراع وجوديّ إلى صراع حقوقيّ. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الأزمة ليست نابعة من هيمنة المؤسّسات الدوليّة الحقوقيّة فقط، بل نابعة من استدخال هذا الخطاب الحقوقيّ، وإنتاجه وإعادة إنتاجه في الخطاب الوطنيّ الفلسطينيّ بتنويعاته المختلفة، سواء مؤسّسات السلطة، أو مؤسّسات المجتمع المدنيّ، أو أحزاب المعارضة وخطاب المقاومة، وحتّى الخطاب المعرفيّ والأكاديميّ، وصولًا إلى استدخال هذا الخطاب وإطاره المفاهيميّ، وما يحمله من منطوقات في الوعي اليوميّ. ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ القضيّة هنا، وفي هذا السياق، ليست نقاشًا في الخطاب الحقوقيّ أو القانونيّ، وإن كان ذلك نقاشًا مشروعًا ومهمًّا، وإنّما في أنّ توصيف التجربة الاستعماريّة حصرًا بصفتها تجربة في إطار حقوقيّ أو قانونيّ، أو أنّ الصراع صراع حول الحقوق وانتهاكها، لا صراع حول الوجود والعيش، صراع حول الحقّ، لكنّ الحقّ هنا في بُعْدَيه التاريخيّ والوجوديّ لا في معناه الحقوقيّ المؤسّساتيّ. والخلاصة أنّنا نستطيع القول إنّ الخطاب الّذي نستخدمه في وصف هذا الصراع، لا يعكس وعينا تجاه إدراكنا حقيقة هذا المشروع الاستعماريّ، خطاب في أحسن الأحوال غير قادر على الإمساك بالتجربة، وفي أسوئها يخون حقيقة هذه التجربة، ويخلق واقعًا مفترضًا وحلولًا لهذا الواقع المفترض.

الّذي يحدث الآن هو الآتي: يخلق هذا الخطاب واقعًا مفترضًا موازيًا للواقع المعيش، ويخلق معه حلولًا لمعالجة هذا الواقع المفترض، ونعيش واهمين ومعلَّقين، في محاولة لإنجاز هذه الحلول المفترضة لهذا الواقع المفترض، بينما يُكمل الاستعمار مشروعه الّذي نعي تمامًا طبيعته وحقيقته المغايرة للواقع المفترض، والحلول الّتي يقدّمها هذا الخطاب لهذا الافتراض.

 

فُسْحَة: قبل أن نعرّج على الواقع الراهن؛ إذن، هل كانت التسعينات فترة فاصلة في عمليّة استدخال الخطاب الحقوقيّ، وإنتاجه وإعادة إنتاجه، في الخطاب الوطنيّ الفلسطينيّ؟

سلامة: سنوات التسعينات سنوات من الضياع التامّ، تمامًا مثل الإنسان المعلَّق في الهواء، وأعتقد أنّها الّتي هيّأت الظروف لهيمنة هذا الخطاب حقًّا؛ إذ لم يَعُد ثمّة مشروع جامع للكلّ الفلسطينيّ، ولم يَعُد الخطاب الوطنيّ وطنيًّا بالمعنى الواسع للكلمة. لنقل إنّ هذا الخطاب الحقوقيّ بدأ يهيمن خلال الانتفاضة الثانية، وتُوِّجَ بعد انتهائها وما زال. أذكر قصّة سردها لي صديق، وتقول الكثير، عند محاولة عبوره الجسر نحو الأردنّ عام 2006، حيث أعادته سلطات الاحتلال ومنعته من السفر، وعند عودته إلى الجانب الفلسطينيّ، جرت مساءلته من قِبَل الأجهزة الأمنيّة الفلسطينيّة كما جرت العادة، حول أسباب منعه من السفر. ذكر لهم في معرض إجابته عن أسئلتهم العديدة، أنّه يدرس في برنامج ماجستير "حقوق الإنسان" في إحدى الجامعات الفلسطينيّة، وكان ذلك كافيًا للأجهزة الأمنيّة لتعليل سبب المنع؛ إذا اعتقدوا أنّ سبب المنع أنّ هذا الصديق ضليع في قضايا حقوق الإنسان، وقادر على فضح الممارسات الاستعماريّة، وانتهاكها حقوق الإنسان في المواثيق والمعاهدات الدوليّة، ومن ثَمّ اعتباره تهديدًا، ومنعه من السفر لهذا السبب. والتساؤل الّذي يكمن هنا: كيف توصّل هؤلاء إلى مثل هذا الاعتقاد؟ الإجابة عن هذا التساؤل بالتأكيد تتطلّب جهدًا بحثيًّا هائلًا بسبب تعقيدات الأمر. لكن ربّما تعكس هذه الحادثة الوهم الّذي خلقه هذا الخطاب الحقوقيّ، باعتقاد أنّنا كلّما تسلّحنا بالمنظومة الحقوقيّة والقانونيّة الدوليّة كنّا أقرب إلى التحرّر. لكنّ هذا الوهم الّذي يشكّل وعينا المزيّف لا يسرد كلّ القصّة، وتكمن الشروط الحاملة لتدفّق هذا الوهم والإمساك به والإيمان بقدرته السحريّة من جهة، والّذي يبرّر هذه الرغبة الجامحة بالإمساك بالمنظومة الحقوقيّة والخطاب القانونيّ من جهة أخرى، هو تعبير عن مدى فقدان الفاعليّة الذاتيّة، وتبرير العجز بالردّ والفعل. في أثناء الانتفاضة الثانية، كان ثمّة نشرة شبه أسبوعيّة باللغة الإنجليزيّة، تصدر عن "دائرة المفاوضات" في "منظّمة التحرير الفلسطينيّة"، توثّق الانتهاكات الإسرائيليّة، وكأنّ الردّ السياسيّ الرسميّ اقتصر على توثيق الانتهاكات، والمطالبة بالمساعدة القانونيّة والحقوقيّة الدوليّة. ومنذ ذلك الوقت، أصبح عمل المؤسّسات الرسميّة الفلسطينيّة، والمؤسّسات الأهليّة، وحتّى الأكاديميّة البحثيّة، يقتصر على إصدار منشورات دوريّة توثّق الانتهاكات، وكأنّ الهدف الأساسيّ لهذه التقارير تأكيد سورياليّ أنّ الاستعمار هو استعمار العالم، وإقناعه بأنّ الممارسات الاستعماريّة انتهاك للحقوق القانونيّة الدوليّة؛ فلا يصبح الهدف هنا معالجة الاستعمار، بل معالجة الممارسات الّتي تنتهك الحقوق، وينتهي ذلك مع انتهاء كتابة التقرير، وندخل في حالة انتظار، وهذا ربّما ما يفسّر الاحتفال الهائل الّذي نقيمه في الصحافة الفلسطينيّة، أو في وسائل التواصل الاجتماعيّ، عندما يصرّح أيّ مسؤول دوليّ "أبيض العقل" ضدّ الانتهاكات الإسرائيليّة. لكنّ الخطير في هذا الأمر أنّ حالة الانتظار هذه قد انتقلت إلى الحياة اليوميّة، والتجلّيات الّتي نراها لهذا الخطاب في الحياة اليوميّة متعدّدة، منها - على سبيل المثال - تسليح المزارعين بكاميرات لتوثيق الانتهاكات، والدعوة المستمرّة للمؤسّسات الدوليّة والحقوقيّة للتدخّل لرفع الظلم الواقع على أفراد فلسطينيّين، ومقاربة الحواجز الإسرائيليّة على أنّها انتهاك لحقّ حرّيّة الحركة، المنصوص عليه في القانون الدوليّ. باختصار، تحوّلت المعاناة الّتي نعيشها تحت هذا المشروع الصهيونيّ إلى أزمة إنسانيّة (Humanitarian Crisis). فلنأخذ على سبيل المثال حصار غزّة أيضًا، إذ تجري مقاربته من خلال هذا المنظور، على اعتبار أنّ ما يعانيه الغزّيّون أزمة إنسانيّة، وهو حقًّا كذلك، لكنّ هذه الأزمة سببها الرئيسيّ سياسيّ ويتمثّل بالسياسات الاستعماريّة، وحلّها حلّ سياسيّ يتمثّل في إنهاء الاستعمار، الأمر الكفيل بإنهاء هذه الأزمة الإنسانيّة، وليس حلًّا حقوقيًّا أو قانونيًّا أو إنسانيًّا بالمفهوم الدوليّ. واسمح لي قبل أن أنهي هذه الإجابة أن أتطرّق إلى موضوع مهمّ آخر، أحدَثَه هذا الخطاب القانونيّ، وهو تجزيء الحقوق الجماعيّة وشرذمتها إلى حقوق فرديّة؛ إذ إنّ هذا الخطاب القانونيّ يعالج قضايا انتهاكات فرديّة محدّدة، ولا يتطرّق إلى حقوق الجماعة الفلسطينيّة المستعمَرة، فلا يُنظر إلينا بصفتنا جماعة سياسيّة تسعى إلى الحرّيّة والانعتاق من هذا الاستعمار، بل على أنّنا أفراد نعيش تحت واقع استعماريّ.

 

فُسْحَة: ننظر إلى تشكّل "وعي فلسطينيّ شريد أو مزيّف" - كما أسميته - لتجربتنا الاستعماريّة، وقد أدّت إلى تفكيك ساحات نضاليّة في الضفّة الغربيّة منذ التسعينات، لكنّنا نرى في المقابل حركة مقاومة مسلّحة في غزّة، وتعبير آخر عن الوعي الفلسطينيّ المستعمَر. هل يمكن أن نقول إنّ تجربة المقاومة في غزّة قد خلقت "مرحلة المعركة" كما تحدّث عنها فرانز فانون، حين تستيقظ فئة من الشعب، وتهزّه، وتنتج وعيًا يتماهى مع حقيقة وجوده، على أنّهم الناطقون بلسان واقع جديد، بينما لم تبقَ "حركة المقاومة الإسلاميّة – حماس" خارج بنية أوسلو بعد عام 2005؟

سلامة: ثمّة حركة مقاومة مسلّحة في غزّة بطبيعة الحال، وسؤالك هذا يعيدنا إلى حديثنا بداية المقابلة حول علاقة الوعي بالتجربة والممارسة؛ فإنّ واقع غزّة الّذي تَشكّل منذ إعادة انتشار قوّات الاحتلال الإسرائيليّ صيف 2005 من جهة، والحصار الّذي فُرض في ما بعد من جهة أخرى، هو الّذي أعطى تجربة المقاومة هذه ملامحها وزوّدَها بأدواتها. لكن "مرحلة المعركة" كما وصفها وتحدّث عنها فرانز فانون، في ظنّي لمّا تقع بعد، سواء في غزّة أو في عموم فلسطين، فما زالت في البداية. "مرحلة المعركة" تكمن في تلك اللحظة الّتي ينخرط فيها المجتمع الفلسطينيّ، وأقصد هنا المجتمع الفلسطينيّ بكلّ مكوّناته وأماكن وجوده، في الصراع بشكل مباشر، ويتحوّل بها الوعي إلى ممارسة يوميّة ثوريّة، بل ليس فقط على صعيد يوميّ، بل على صعيد لحظيّ أيضًا؛ أي أنّ كلّ لحظة حاسمة في الصراع مع الاستعمار، أو لنقل هي اللحظة الّتي يتوقّف فيها الزمن، ويعلق لخلق زمن ومكان جديدين مغايرَين جذريًّا عمّا قبل. هذا بالتأكيد لا يقلّل أهمّيّة المقاومة في غزّة أو حتّى في الضفّة بين حين وآخر، هي بالضرورة محطّة من محطّات النضال الفلسطينيّ المستمرّ منذ ما يقارب قرنًا، وهو تطوّر مهمّ في أدوات النضال، الّتي ستعمل لاحقًا بالضرورة - مثلها مثل المحطّات السابقة - على خلق "مرحلة المعركة"، وهي طرق للوصول إلى ساعة الحسم. لكن في المقابل، لنعد وندقّق النظر في الخطاب السياسيّ لحركة "حماس"، ومدى تأثّره بتحوّلات الخطاب الفلسطينيّ الّذي نتحدّث عنه. لو نظرنا على سبيل المثال في الميثاق السياسيّ الأخير للحركة، لوجدنا تحوّلات هذا الخطاب من خطاب سياسيّ مقاوم إلى خطاب سياسيّ حقوقيّ ببعد دوليّ، أو هو على الأقلّ خطاب يحاول أن يمسك العصا من وسطها؛ وهنا نرى مدى قوّة هذا الخطاب القانونيّ والحقوقيّ الإنسانيّ في السيطرة والاستحواذ على وصف هذا الواقع المتخيَّل. أعتقد أنّ أزمتنا تكمن تاريخيًّا - وما زالت - في الخطاب السياسيّ لا في خطاب المقاومة؛ إذ كأنّنا نعيش في حالة انفصام بين الخطابين، ومع الوقت يتجذّر هذا الانفصام ويصبح - على نحو أكثر جلاء - خطابًا سياسيًّا يتّجه نحو الحقوق ببُعدَيها الدوليّ والمؤسّساتيّ، وخطاب مقاومة يتّجه نحو تحقيق الحرّيّة والانعتاق ببعديهما الوجوديّ والتاريخيّ.

 

فُسْحَة: في سؤالي الأخير، أودّ التطرّق إلى خطاب المقاومة وعلاقته بالممارسة القانونيّة، منعزلةً عن نسقها الخطابيّ والسياسيّ؛ هل يمكن إدخال ممارسات قانونيّة حقوقيّة إلى خطاب المقاومة، بلا تبنّي الخطاب الحقوقيّ ومؤسّساته وأطره؟

سلامة: إنّ ممارسة المقاومة نفسها حقّ، لكن مرّة أخرى، هذا الحقّ لا ينبع من الخطاب الحقوقيّ القانونيّ، وإنّما من سؤال الوجود في هذا العالم، أو لنقل من الحقّ الطبيعيّ للإنسان في الحرّيّة، وهذا النزوع البشريّ المستمرّ إلى تحقيق الذات الحرّة البعيدة عن الاضطهاد والاستعباد. ومن المهمّ الإشارة هنا إلى أنّ المقاومة، الّتي هي أصلًا ممارسة للعنف، لا تسعى فقط إلى التخلّص من الاستعمار، بل أيضًا إلى تحقيق الذات، ورفض هذا العالم البائس، وبناء عالم آخر من المفترض بالضرورة أن يكون أكثر عدالة؛ فالمقاومة والعنف بصفتهما ممارسة ثوريّة سؤال أخلاقيّ أوّلًا وأخيرًا، يتجاوز الخطاب القانونيّ والحقوقيّ ومحدوديّته؛ فعلى الرغم من أنّ المواثيق الدوليّة قد أقرّت بحقّ الإنسان المستعمر بالمقاومة، إلّا أنّنا نستطيع أن نرى كيف يكون التحايل على ذلك، وكيف يوصَم هذا الحقّ تاريخيًّا، بغضّ النظر سواء بالحجر كانت المقاومة أو بالبندقيّة، وسواء كانت موجة نحو "مدنيّين" أو "عسكريّين"، فدائمًا ما كانت توصَم المقاومة بالإرهاب والتخريب، وليست فقط مقاومة الفلسطينيّ، إنّما كلّ مقاومة للاستعمار. هذا العالم تحديدًا هو ما تحاول المقاومة والعنف الثوريّ هدمه، وبناء منظومة أخلاقيّة جذريّة مغايرة؛ إذ - على نقيض ما اعتقد البعض - لا يمكننا "أن نهدم بيت السيّد بأدوات السيّد"، وقد تمكّننا هذه الأدوات من الشعور بزهوة انتصار مؤقّت، لكن لن تحقّق تغيّرًا جذريًّا لهذا العالم.

يجب ألّا ننسى أنّ فكرة القانون الدوليّ هي في الأساس أداة هيمنة لدى القوى الاستعماريّة، الّتي خرجت منتصرة من الحرب العالميّة الثانية، أو على الأقلّ تستخدمه أداة هيمنة ناعمة، وتستخدم أيضًا قيم الديمقراطيّة أحيانًا لتحقيق هذه الهيمنة. ولأنّ هذه القوى تملك القوّة المادّيّة؛ فهي قادرة على تحديد معايير متى تتجاوز الشعوب الأخرى القانون، ومتى لا يمكنها ذلك، ومن ثَمّ يعيدنا هذا إلى بداية النقاش، في أنّ الأمر يتوقّف على مدى وعينا بماهيّة هذه المنظومة القانونيّة وسياقها.

 

 

محمّد قعدان

 

 

طالب في جامعة تل أبيب ضمن برنامج مُتعدّد التخصّصات؛ سوسيولوجيا، أنثروبولوجيا، تاريخ الشرق الأوسط، دراسات بيئيّة. عضو مؤسّس لـ "منتدى إدوارد سعيد في جامعة تل أبيب."