النكبة بمسمارٍ على الحائط

أطفال فلسطينيّون في مخيّم "نهر البارد" في لبنان

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

تظلّ النكبة حدثًا تأسيسيًّا في ذاكرة شعبنا الفلسطينيّ ومصيره؛ نقول "تأسيسيًّا" لأنّه الحدث الأهمّ والأبرز في حياة الفلسطينيّ، من حيث إنّ النكبة قطيعة مع الزمان والمكان بالضرورة، وكلّ ما يتعلّق بحياة السكّان على أرض فلسطين منذ عام 1948.

 

متى هُزِمْنا؟

بلا شكّ، ثمّة إشكاليّة تكتنف مصطلح "النكبة" تعبيرًا عن الحدث؛ فقسطنطين زريق الّذي اصطلح هذا اللفظ على فعل الطرد والتطهير الّذي مارسته العصابات الصهيونيّة على الفلسطينيّين، أراد من خلاله أن يقدّم تفسيرًا بنيويًّا لمجمل وضع الحالة العربيّة، لا فلسطين فقط، والحرب عليها في ذلك الوقت، فبدا المصطلح منزوعًا من سياقَيه التاريخيّ والمادّيّ، كما لو أنّ البلاد والعباد تعرّضا لكارثة طبيعيّة مثل جائحة أو زلزال.

لم تكن الهزيمة عام 48 إلّا امتدادًا لهزيمة سبقتها مع الاستعمار وهيمنته؛ فهزيمة شعبنا في الثورة الممتدّة من عام 1936 إلى 1939 على الاستعمار البريطانيّ، هي ما أسّس لفعل النكبة كتحصيل حاصل

على أيّ حال، لسنا هنا في موقع محاججة صكّ المصطلح، وما اصطُلح على الحدث والمفهوم عنه، ولا في استجواب للمسطرة الّتي فسّر وفقها المثقّف العربيّ حدث النكبة في حينه؛ فقد دمغ اصطلاح "النكبة" في وجدان الفلسطينيّين وذاكرتهم الجمعيّة، تعبيرًا عن ضياع وطن بفعل سارق سطا عليه في وضح نهار القرن العشرين. أمّا تفسير أسباب النكبة، فهو أبسط ممّا أراد لنا زريق؛ إذ يمكننا القول: حدثت النكبة لأنّنا هُزمنا، والهزيمة تفسّر ذاتها بمعناها العسكريّ أوّلًا والسياسيّ ثانيًا، وتحت ذلك يمكننا قول أيّ شيء.

لكنّ اعترافنا بالهزيمة سببًا للنكبة يضعنا أمام سؤال آخر، هو: متى هُزمنا؟

لم تكن الهزيمة عام 48 إلّا امتدادًا لهزيمة سبقتها مع الاستعمار وهيمنته؛ فهزيمة شعبنا في الثورة الممتدّة من عام 1936 إلى 1939 على الاستعمار البريطانيّ، هي ما أسّس لفعل النكبة كتحصيل حاصل، ويمكننا القول بأثر رجعيّ: لو لم تُهزم ثورة "الجهاد المقدّس"، لكانت النتائج مختلفة. هذا ما يجعلنا نخلص إلى ملاحظتين: الأولى أنّ الانتباه إلى هزيمة ثورة الـ 36، يضع هزيمة النكبة في سياق تاريخيّ من الصراع ومقارعة الاستعمار، وليس النكبة مجرّد كارثة حلّت من السماء، ولا نحن الفلسطينيّين مجرّد ضحايا بلا تاريخ. أمّا الثانية، فهي أنّ ما نعتبره حدثًا تأسيسيًّا، أي "النكبة"، قد سبقه ما أسّس له كي يكون.

 

طقسان... حداد وتخليد

هذا عن التاريخ، أمّا والنكبة مستمرّة فالسؤال هنا: كيف ننظر نحن الفلسطينيّين إلى نكبتنا؟

في كتابه "الرمز والسلطة"، يميّز بيير بورديو بين طقسين في علاقة أيّ شعب بماضيه، ويقصد الشعب الّذي يملك تاريخًا مأساويًّا، هما طقس الحداد وطقس التخليد. في طقس الحداد (الحزن)، يرى بورديو أنّ الحاضر يُؤخَذ إلى الماضي، بينما يُسْتَحْضَر الماضي إلى الحاضر في حالة طقس التخليد.

لم نَعُد نكترث للاجئين وللظرف اليوميّ من حياتهم في أماكن لجوئهم؛ وهذا ما يجعل للنكبة لدينا أهمّيّة رمزيّة لكنّها بلا فاعليّة

لتوضيح ذلك، لو نظرنا إلى حالة الدولة العبريّة لوجدنا أنّ الإسرائيليّين قد نجحوا في إقامة هذا التمييز؛ فذكرى الكارثة والبطولة ينظرون إليها طقسًا حداديًّا حزينًا، يكون فيه العودة إلى الماضي، واعتبار ضحايا المحرقة بوصفهم أسلافًا عانوا ما عانوه، في سبيل إقامة وطن قوميّ لليهود، علمًا أنّهم لم يكونوا كذلك، بل كانوا مواطنين ألمانيّين، غير أنّ إسرائيل استطاعت استملاك هذه المأساة والاستيلاء عليها.

أمّا في الحالة الثانية طقس التخليد، فإنّ إسرائيل تخلّد ذكرى إعلان تأسيسها (الاستقلال) بصفته طقسًا احتفاليًّا، من خلال استقدام الماضي إلى حاضر الشعب اليهوديّ، للتعبير من خلاله على استمراريّة حدث الاستقلال وتأكيد السيادة والمصير.

والأهمّ في كلا الحالتين، أنّ أهمّيّة الطقسين قادمة من فاعليّتهما، بمعنى الفاعليّة السياسيّة نحو هذين الحدثين التاريخيّين؛ إذ يترتّب عليهما مواقف جادّة وسياسات حيّة، في علاقة الدولة العبريّة بشعبها وبالعالم.

 

تحييد اللّاجئ ومَتْحَفَة الذكرى

إذا قاربنا ما تقدّم ذكره مع نكبتنا وطقس إحيائنا لها، فسنجد أنّ للنكبة حضورًا مهمًّا في ذاكرتنا الجمعيّة الفلسطينيّة، لكنّه حضور بلا فاعليّة سياسيّة تُذكر؛ فالمشروع السياسيّ الفلسطينيّ لم يَعُد ينظر إلى قضيّة فلسطين على أنّها قضيّة لاجئين، ولم تَعُد النكبة تعني ما تعنيه من تشريد وتهجير لشعب بات معظمه لاجئًا؛ ومع تحوُّل مشروع منظّمة التحرير الفلسطينيّة - وقد كانت حركة تحرّر مكوّنة من لاجئين في نشأتها - من التحرير إلى مشروع دولة على جزء من أرض فلسطين؛ فأوّل ما جرى هو تحييد لدور اللاجئ، وتغييبه في قضيّته من أيّ فعل مادّيّ وممارسة سياسيّة.

إنّ التفاعل الطقسيّ لذكرى النكبة، مهمّ للحظة تشكّل وعي أطفالنا بعد أكثر من سبعين عامًا على وقوعها، لكنّه تفاعُل يجب تسييسه وتفعيله مادّيًّا على الدوام

وعلى ذاك، فإنّنا لا ننظر إلى النكبة على أنّها طقس حداد، بقدر ما باتت طقسًا كرنفاليًّا احتفاليًّا، على أهمّيّته طبعًا؛ فاللاجئون لم يتحوّلوا إلى أسلاف، لأنّ اللجوء مستمرّ، هذا من جانب، ومن جانب آخر، لم نَعُد نكترث للاجئين وللظرف اليوميّ من حياتهم في أماكن لجوئهم؛ وهذا ما يجعل للنكبة لدينا أهمّيّة رمزيّة لكنّها بلا فاعليّة، أي "فعل ممارسة تجاوزها"؛ وهذا ما يعني "مَسْمرة النكبة على الحائط"، أو مَتْحَفَتَها (من متحف) إذا جاز التعبير.

باتت النكبة لنا تاريخيًّا، دون أن تكون فينا سياسيًّا أو حتّى ثقافيًّا، نحتفي فيها غناءً وليس فيها ما يدعو إلى احتفائنا؛ فماذا يعني الاحتفاء كإدانة للفعل، دون أن يترتّب عليه موقف من الفاعل؟ إنّ التفاعل الطقسيّ لذكرى النكبة، مهمّ للحظة تشكّل وعي أطفالنا بعد أكثر من سبعين عامًا على وقوعها، لكنّه تفاعُل يجب تسييسه وتفعيله مادّيًّا على الدوام، وإلّا فسنظلّ نحاور نكبتنا ظهرًا لظهر، كما نحن عليه اليوم.

 

 

علي حبيب الله

 

 

باحث في العلوم الاجتماعيّة. حاصل على ماجستير فلسفة التاريخ من الجامعة الأردنيّة، وماجستير في الدراسات العربيّة المعاصرة من جامعة بير زيت. يعمل في مجال الاستكمال التربويّ في القدس، ويكتب المقالة في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.