ثورة ثمّ صمت ثمّ ذوبان آخر، والدورة تعيد نفسها

عائلة عبد الفتّاح

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

“الثائر حين يثور لا يعبأ إلّا بالحبّ!"

هكذا يؤمن علاء عبد الفتّاح، هذا إن لم يوصله الفُجور بالخصومة إلى الكفر بمقولته الّتي تَشارَكَها مع رفيق سجن أصرّ الدهر والسلطان على طمس اسمه، وبكلّ شيء آخر تقريبًا. والحبّ هو ما يدفع أسرته اليوم إلى مواصلة ثباتها في المربّع الأوّل؛ إذ تنضمّ شقيقته الصغرى سناء إلى المعترك ذاته بعد استراحة وجيزة، وتستمرّ منى في حربها من أجل عهد قطعته على نفسها. وليلى، الأمّ، لا تزال تسخر لئلّا تبكي، من نظام وصل به العجز إلى فقدان القدرة على مَنْطَقَة القمع، لينطلق كوحش مدفوع بغرائزه الأوّليّة، مثل مدير مدرسة يضرب طلّابها يوميًّا، ثأرًا لسخريتهم من عجزه الجنسيّ الّذي تحوّل إلى معلومة عامّة.

لكن هذه الأسرة - وإن كانت تتّخذ دور فقيدها[1] قسرًا - لا تزال تتصارع مع "غُلْب فاقد للمعنى"، بالنيابة عن عشرات ملايين المصريّين وغيرهم، ممّن تحوّلت أحلامهم الوهميّة إلى كوابيس واقعيّة في الاستبداد العبثيّ اللانهائيّ.

أمّا أنا، فتبقى "أسطورة الـ 18 يومًا المقدّسة" مؤشّرًا على زمن توقّف عن دورانه معي. وقد صدحت حديثًا، وصدفة، الكلمتان "ياه! يا الميدان"، في أحد مقاهي حيفا الّتي عادةً ما يجلس روّادها جميعهم معًا. وسرعان ما بدأت أُتَمْتِم مع النسخة "الصحّيّة"، أي الممتلئة، من أمير عيد، منفصلًا عن الواقع برهة، وغارقًا في أحلام الأسطورة. وسالت دمعةٌ تعالى من حولها الضحك، كأنّما يقول الحضور: "يااااه! إنت لسّا فاكر؟". نعم، ما زلت أذكر، بل قل ما زلت أعيش الميدان، في مفارقة أظنّها أحيانًا أقرب إلى الهذيان منها إلى الواقع. ولا أمتعض حقًّا من وصف حالتي بالجنون، فكيف لثورة عشتها من خلال شاشات فقط، أن تقلب مسار حياتي بهذا الشكل الّذي لا عودة منه؟

وسالت دمعةٌ تعالى من حولها الضحك، كأنّما يقول الحضور: "يااااه! إنت لسّا فاكر؟". نعم، ما زلت أذكر، بل قل ما زلت أعيش الميدان، في مفارقة أظنّها أحيانًا أقرب إلى الهذيان منها إلى الواقع...

أحيانًا، تنتابني أحلام يقظة أرى نفسي فيها أتجوّل في الشوارع والأزقّة، الّتي آمل أنّها ستخصّص فصلًا كاملًا لسرد قصّة جميع ميادين مصر، بعد مئة عام من الآن، فأنا لم أزرها قطّ، ورغم كلّ ما أقوله لنفسي سرًّا عن مدى انسجامي الحتميّ مع سكّانها، إلّا أنّهم لن يستقبلوني بالحفاوة الّتي أتمنّاها غالبًا، بل لا شكّ في أنّ الأحياء ذاتها ستُطْلِق عليّ متاهتها، وستقتصّ آلام سكّانها جزءًا من روحي، قد لا أتمكّن من إعادته. لا يهمّني، لن يثنيني شيء عن حبّي الخالص إلى العالم المتخيَّل الّذي نسجته في أفكاري عنها، عبر شاشة اللابتوب طبعًا.

وها قد تملّكتني عادة المبالغة مرّة أخرى، ليكن. بل أُضيف إلى ذلك شطرًا؛ لم يعد غرباء الميدان الّذين شكّلوا أفراد أسرة أسطورتهم فيه بغرباء عنّي، ليس لأنّني التقيتهم، بل لم أبادر حتّى إلى معرفتهم ولا حتّى على فيسبوك. لكنّهم أصدقائي، أليس الصديق هو مَنْ نتنافس سرًّا معه؟ ونشتاق إلى أنفسنا بغيابه؟ أمّا نحن، أنا وهم، فالصداقة الّتي تجمعنا هي تلك الّتي تجمع الطفل بـ "سوبرمان".  

وكثيرة هي أسماء الناشطين الّتي تردّدت على أذهاننا في السنوات العشر الأخيرة، تمامًا كما هي كثيرة الأسماء الّتي طحنتها آلة الأنظمة العربيّة قبل هذه الأحداث، دون أن يسمع ذوونا عنها شيئًا، لكنّ الأمر مختلف مع جيلنا، فقد باتت "25 يناير" اسمًا لا تاريخًا بالنسبة إلينا؛ فهي لا تعبّر عن يوم أو ساعة، بل عن حالة نشوة سيطرت على جميع أيّامنا، وكان وقعها في نفوسنا، قبل أن تتحوّل إلى شُؤْم لدى معظمنا لاحقًا، مُعَرِّفًا لوجودنا ولذواتنا؛ ليس لخصوصيّة الحالة فحسب، بل لخصوصيّتها فينا.

قد يُهَيَّأ لمشاهد يعيش في الماضي هبط حاضرنا عليه فجأة، كأهالينا، أو آخر عاد من المستقبل في رحلة عابرة للزمان، ليكون شاهدًا على ما عشناه من بعد تلك اللحظة، كالجيل الّذي تلانا، أنّنا نعيش بضع لحظات سريعة جدًّا، لا تتعدّى أنّها انتشاء نَجَمَ عمّا نُطْلِق عليه وصف "امتدادنا الثقافيّ"؛ فدموعنا الّتي سالت وأبداننا الّتي اقشعرّت مرّة تلو الأخرى منذ تنحّي مبارك، لم تنتج عن علاقة محسوسة ما، بمصر، ولا بأهلها؛ إذن، فما الداعي إلى هذه النشوة؟

لم نذكر فلسطين "الكبرى" في أحاديث مراهقتنا في عكّا إلّا بوصفها من الغيبيّات القديمة الأزل، أرض ميتافيزيقيّة لم يعش أحد ليروي عنها سوى أجدادنا! وكنّا مقتنعين بأنّ مجرّد ذكرها في العلن، يعرّضنا لخطر "الذهاب وراء الشمس"...

جرت "العادة" أن نمثّل نحن الفلسطينيّين "الرمز" العربيّ الأبرز إلى التوق من أجل الحرّيّة، وهذا ليس بالأمر المستهجن؛ فقد اتّخذ فلسطينيّ المقلاع، هو وفلسطينيّة شجرة الزيتون وأمّ الشهيد، بُعْدًا آخر على شاشات وسائل الإعلام العربيّة، وبات هؤلاء تجسيدًا لصورة أسطوريّة، حوّلت معاناتهم إلى وقود تغذّي به القنوات حاجات مشاهديها، بينما تدفعهم إلى حالة مزدوجة بين اليأس والأمل، بين انعدام الأمل بإسهامهم في تحرير أرض عربيّة، وبين يقين مفترض مفاده أنّ أهلها ليسوا بحاجة إلى مَنْ يساعدهم أصلًا. وذلك بالطبع قبل أن يصبح رافض التطبيع مسخًا؛ فذلك زمن آخر. وكنّا بحسبها جبابرة لا يمكن أيّ شيء أن يكسرنا. بالنسبة إليّ، ليس ثمّة ما يستدعي الغرابة في النزعة الإعلاميّة تلك، إلّا في أنّها نجحت في إقناعي أنا بذلك أيضًا؛ ففي هذه الصورة الملحميّة عن الفلسطينيّ لذّة، وأنا من موقعي في عكّا، أستطيع أن أدّعي انتمائي إليها دونما عناء يُذكر، بينما كان ذلك الّذي يعيش في فلسطين (وهي الكناية عن الضفّة الغربيّة، وفي مخيّلة محمود عبّاس أيضًا)، هو الّذي يخلقها ساعة بعد ساعة.

لم نذكر فلسطين "الكبرى" في أحاديث مراهقتنا في عكّا إلّا بوصفها من الغيبيّات القديمة الأزل، أرض ميتافيزيقيّة لم يعش أحد ليروي عنها سوى أجدادنا! وكنّا مقتنعين بأنّ مجرّد ذكرها في العلن، يعرّضنا لخطر "الذهاب وراء الشمس"، تمامًا مثلما ظنّ أهل الجولان أنّ الحدود مليئة بالألغام، إلى أن وصل حسن إلى يافا في الذكرى الـ 63 للنكبة.

عادينا الجنود ومؤدّي دورهم لدينا: الشرطة، لكنّنا لم نؤطّر كراهيتنا في سياق أعمّ وأوسع يجمعنا بغيرنا من الفلسطينيّين. وكانت عداوتنا لهذا الشيء الّذي اسمه إسرائيل، ضمنيّة لكنّها غير مفهومة، ألسنا "عرب إسرائيل"؟، لا، لا يمكن. اللهمّ سوى قدرتنا على السفر واستبدالنا بـ "تمام" "بسيدر". عرب "مَنْ" نحن إذن؟ لم نُجْمِع على إجابة واحدة، هذا في حال كنّا متأكّدين من إجاباتنا، فضلًا على أنّ فلسطين "تهمة" لا بدّ من أن نخبّئها في داخلنا إذا ما طمحنا إليها، وإلّا فـ "النقطة السوداء" تتربّص بنا.

مع ذلك، شعرنا بسعادة لحظيّة بأنّ التلفاز أتاح لنا أن ننتمي لشيء ما، وإن كان بعيدًا أو مؤقّتًا، وتشكّلت هويّاتنا من خليط من ثقافات عربيّة أخرى، لكلٍّ منّا منسوبه منها، ما عدا ما كان يوحّد أشدّ غرائزنا، سوءًا على المقاهي في "باب الحارة" وغيرها. أمّا أنا فمن شفتَي إسماعيل ياسين الغليظتين، حتّى حاجب الزعيم الأيمن، كان أقصى تسييس حصلت عليه في صغري، فيلم "السفارة في العمارة". وببساطة، تشرّبنا ما أرادته لنا القنوات العربيّة وبرامجها ومسلسلاتها وأفلامها، أن نتجرّعه منها، ليس عن العالم العربيّ فحسب، بل عن أنفسنا أيضًا.

وهكذا ترك الربيع العربيّ ما ترك في نفوس أبناء جيلي، لدفع أفواج منّا للانخراط في العمل السياسيّ، الّذي بلورته أحداث ومآلات اللحظة الثوريّة تلك، وهي من أسهم في دفعنا إلى الشوارع في لحظة النشوة...

على الرغم من ذلك، لازمتنا بوصلة ضمنيّة ورثناها عن أهالينا، عنوانها معاداة الأنظمة العربيّة الّتي قدّسها معظمهم بمجرّد أن جاءت الثورة، فلونها ليس "بَمْبي" كما تبيّن لهم لاحقًا، ورغم أنّ التسييس كان غائبًا بالمعنى التلقينيّ، لكنّه كان حاضرًا في كلّ شيء، وكان مبارك عدوّنا كما كان للمصريّين. ولحظة سقوطه كانت حرّيّتنا أيضًا، وتحرّر حلمنا، ولم يعد المستحيل سوى فكرة بالية.

وهكذا ترك الربيع العربيّ ما ترك في نفوس أبناء جيلي، لدفع أفواج منّا للانخراط في العمل السياسيّ، الّذي بلورته أحداث ومآلات اللحظة الثوريّة تلك، وهي من أسهم في دفعنا إلى الشوارع في لحظة النشوة، ومَنْ أقعدنا في منازلنا يأسًا وحيرة لحظة انتكاستها، أو هذا ما أحاول إقناع نفسي به على الأقلّ.

في ذلك الوقت، الّذي تزاحم مع فجوة معلوماتيّة جعلتنا نحن أبناء الألفيّة نعيش في الخطّ الفاصل بين الماضي والحاضر، غير قادرين على نسيان أوّل جهاز "نوكيا برّاد"، ولا فهم المنطق الكامن من وراء "تيك توك"، لم يعد بالإمكان إخفاء العالم عنّا، وأصبح ناشطو 25 يناير مصدر معلوماتنا وآمالنا، وشكّلت صفحات عوالمهم الافتراضيّة منارة لنا.

واستنسخنا كلّ ما بدر عنهم، وعن رفاق لهم في ثورات أخرى، من سبل الاحتجاج حتّى السجالات الّتي فتّتتهم، ليس اصطناعًا بل تكاملًا، إلى أن بلغت النقاشات أشدّها، واتّخذت المرحلة اللاحقة من القطيعة عنوانًا لها، ومن ثَمّ ساد الصمت، وعدنا إلى سابق عهدنا نخبّئ ضغينتنا لبعضنا بعضًا في قلوبنا، ظنًّا منّا أنّ في ذلك "صوابيّة سياسيّة"، لكنّ الواقع أنّنا أصبحنا أبعد ما يكون عن الصواب، وعن السياسة أصلًا.

لكنّ بارقة الأمل الأولى نشبت، ومهما كانت الأخطاء الّتي أدّت إلى خَبْوِها الظاهريّ، فلا بدّ من أنّ أحدًا منّا ما كان ليتفاداها إلّا ليقع في أخطر منها. ورغم تغييب التغيير الجذريّ الّذي أملنا به، إلّا أنّ شذرات حرّيّات مُذَهَّبَة تعكس لنا النور على مختلف الأصعدة...

شيئًا فشيئًا، تدهورت أحلامنا مجدّدًا إلى حافّة أدنى ممّا كانت عليه قبل تلك اللحظة الثوريّة، ولم يعد معظمنا يطمح إلى الغايات الكبرى، إلّا مَنْ أصبحنا نصفهم بالجنون أيضًا، كما وُصِفْنا نحن أنفسنا سابقًا. وأكلت "الواقعيّة السياسيّة" حتّة خلف حتّة منّا، ممزّقة قدرتنا على التفكير أبعد ممّا نراه أمامنا. وحتّى تراشق الاتّهامات بالكفر/ الخيانة والعمالة لإسرائيل وأمريكا، فقد تحوّل إلى ترف يعبّر عن جماليّة ماضٍ كرهنا حدّة استقطاباته.

وتعود دورة الانهيار وتشتدّ، لكنّ الانهيار لا يملك مقدار سلطة يمكّنه من منع إعادة الخلق، ومهما بدا عصيًّا عن الكسر، فإنّ جلّ ما يستطيع فعله أن يعيدنا إلى المربّع الأوّل ثانية، مهما اشتدّ قبحه، أي أن يُرْجِعَنا لذلك الاضطرار إلى خوض المعركة، فسُبُل الهرب تتضاءل يومًا بعد يوم، ولنا في عائلة سيف مَثَل.

لكنّ بارقة الأمل الأولى نشبت، ومهما كانت الأخطاء الّتي أدّت إلى خَبْوِها الظاهريّ، فلا بدّ من أنّ أحدًا منّا ما كان ليتفاداها إلّا ليقع في أخطر منها. ورغم تغييب التغيير الجذريّ الّذي أملنا به، إلّا أنّ شذرات حرّيّات مُذَهَّبَة تعكس لنا النور على مختلف الأصعدة، لتخرج على شكل إبداعات وشجاعات فرديّة لم نألفها من قبل. بينما تذوب الفروقات مجدّدًا بين المقموعين وسط وحشيّة ستفضي إلى عكس ما صُمِّمَتْ من أجله، لتوحّد عدوّها، الشعب.

..........

إحالة:

[1] تقول د. ليلى سويف في مقابلة مع "بوّابة الاشتراكيّ"، إنّ أفراد العائلة يجدون أنفسهم مضطرّين إلى المضيّ بمسيرة زوجها الراحل أحمد سيف الإسلام، الحافلة بالنضال الحقوقيّ، على الرغم من أنّ لكلٍّ منهم مسيرة مهنيّة مختلفة، موضحةً أنّ قمع النظام لأحد أفراد الأسرة (علاء، وسناء لاحقًا) هو ما يدفعها للاستمرار في نضالها.

 

 

خالد السيّد

 

 

ناشط سياسيّ، يعمل محرّرًا ومترجمًا مستقلًّا بالتعاون مع عدد من المشاريع الصحافيّة والثقافيّة.